Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 88-89)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه الآيات وما بعدها تتمّة قصّة شعيب عليه السلام ، مبدوءة بجواب قومه له عمّا أمرهم به من البر ونهاهم عنه من المنكرات والآثام ، وأنذرهم إياه من الإنتقام ، بقوله : { فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا } [ الأعراف : 87 ] ورد بأسلوب الإستئناف البياني كأمثاله من مراجعة الكلام ، وتولاه الملأ منهم أي كُبراء رجالهم كدأب الجماعات والأقوام ، وهو : { قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي قال أشراف قومه وأكابرهم الذين استكبروا عن الإيمان له وعتوا عما أمرهم به ونهاهم عنه اتباعاً لأهوائهم - وقد استضعفوه نقسم لنخرجنك يا شعيب أنت والذين آمنوا معك من قريتنا الجامعة أو من بلادنا كلّها - فلفظ القرية والبلد يطلق أحياناً على القطر أو المملكة - أو لتعودن وترجعن إلى ملّتنا وما ندين به من تقاليدنا الموروثة عن آبائنا ، فتكون ملّة لكم ومحيطة بكم معنا . ضمن العود معنى الظرفية وهو يتعدى باللام وإلى وفي ومنه : { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ } [ الإسراء : 69 ] يعني البحر إذ الخطاب قبله لمن مسهم الضر فيه وليس فيه من معنى الظرفية ما في قوله : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [ طه : 55 ] يعني الأرض . والمعنى نقسم ليكونن أحد هذين الأمرين : إخراجكم أو عودتكم في الملة . فاختاروا لأنفسكم ، قيل إن التعبير بالعود يقتضي أنهم كانوا على ملّتهم ثمّ خرجوا منها وهو يصدق بالمجموع فلا ينافي القول بعصمة الأنبياء من الكفر حتى قبل النبوة ، على أن شعيباً عليه السلام لم يكن قبل النبوة على ملّة أخرى غير ملّة قومه فيمنعهم ذلك من التعبير في شأنه بالعودة ، وكونه لم يشاركهم في شركهم ولا في بخس الناس أشياءهم وهضم حقوقهم أمر سلبي لا يلتفت إليه جمهورهم ، ولا يعدونه به خارجاً عنهم ، وقال الراغب : العود الرجوع إلى الشيء بعد الإنصراف عنه إما إنصرافاً بالذات أو بالقول والعزيمة . اهـ ومنه ذمه والدعوة إلى غيره ولا يقتضي هذا المعنى سبق الكون فيه ولا عدمه ، فلا حاجة إذن إلى تصحيح التعبير بما قيل من تفسير العود بالمصير ، وفيه من التكلّف ما ليس في القول بالتغليب ، ولا سيّما في جوابه عليه السلام . { قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } يعني العود في ملّتكم على كلّ حال من الأحوال حتى حال الكراهة لها الناشئة عن إعتقاد بطلانها وقبحها وما يترتب عليها من الفساد في الدنيا والعذاب في الآخرة ؟ فالإستفهام للإنكار و " لو " للغاية ، أو أتأمروننا أن نعود فيها وتهددوننا بالنفي من وطننا والإخراج من ديارنا إن لم نفعل ولو كنا كارهين لكلّ من الأمرين ؟ - على الأصل فيما يحذف متعلقه ، وهو أن يتناول كلّ ما يصلح له ، فالإستفهام للتعجب من صنيعهم واستنكار طلبهم ورفضه بدون مبالاة ، ووجه كلّ من الإنكار والتعجب جهل هؤلاء الملأ بكنه الدين والملة ، وكونه عقيدة يدان الله بها ، وأعمالاً يتقرب إليه بأدائها وإن كان غنياً عنها ، وإنّما شرعها لتكمل الفطرة البشرية بالتزامها - وجهلهم بكون حب الوطن ، وإلف السكن ، لا يبلغ هذه المنزلة ، ولجهلهم هذا ظنوا أن شعيباً عليه السلام قد يُؤثر هو ومن آمن معه التمتع بالإقامة في وطنه ومجاراة أهله في كفرهم ورذائلهم على مرضاة الله تعالى بالتوحيد المطهر للنفس من إدران الخرافات ، وبالفضائل المرقية للنفس في معارج الكمال ، ذلك بأن الملة عند أولئك الملأ الخاسرين رابطة تقليدية ، وعصبية قومية ، يجري أصحابها فيها على قول الشاعر : @ وهل إنّا إلاّ من غزيّة إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد @@ وملّة الرسل عليهم السلام ليست كذلك بل هي دين مالك للنفس ، حاكم على الوجدان والعقل ، يقصد به الكمال البشري الأعلى بمعرفة الله تعالى والقرب منه ، وما يتّبع ذلك من صلاح الدنيا وسعادة الآخرة ، فإن تمكّن صاحبه من إقامته في وطنه وإصلاح أهله به فهم أحق به بدءاً ودواماً ، وإن مُنع فيه حرّيته ففتن في دينه كان تركه واجباً ، فإن لم يخرج منه شعيب ومَنْ آمن معه إخراجاً وهم كارهون كما أخرج خاتم النبيّين مع السابقين الأوّلين إلى الإسلام ، خرجوا مهاجرين كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ العنكبوت : 26 ] وقد أوجب الله تعالى الهجرة على مَنْ يُستضعف في أرض وطنه فيُمنع من إقامة دينه فيها ، ويوجب المتعصّبون للأوطان في هذا العصر الهجرة منها إذا مُنعوا حريتهم الشخصيّة فيما هو دون الدين والوجدان ، بل يعز على بعضهم أن يقيم في وطنه إذا منع فيه حرية الفسق والآثام ، ورُبّ أناسٍ عزّ عليهم ترك وطنهم ، فآثروا البقاء فيه مفتونين في دينهم ، فأظهروا الكفر ليأمّنوا على حياتهم ، وظلوا يسرّون المحافظة على الإسلام في خاصة أنفسهم ، ولكنّهم لم يتمكنوا من تلقينه لأولادهم وتربيتهم عليه فارتدّت ذريتهم عنه في زمنهم أو من بعدهم ، كما وقع لبعض مسلمي الأندلس بعد ثل الإسبانيين لعرش دولتهم العربيّة وإكراههم على التنصّر أو الخروج من البلاد ، فخرج بعض وبقي آخرون تحت وعيد قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } [ النساء : 97 - 99 ] . وقد قدّر بعض المفسّرين الفعل المحذوف من الجملة ومتعلّق الكراهة هكذا : قال أتخرجوننا من وطننا بغير ذنب يقتضي الإخراج ولو كنّا كارهين لمفارقته حريصين على الإقامة فيه ؟ وهو تخصيص لا وجه له ، فاللفظ يقتضي تقدير كراهة كلّ من الأمرين لحذف متعلّق الكراهة والمقام يجوز تخصيصه بالعود في ملّتهم لأنّه الأهم عند الأنبياء ، والمناسب لبقيّة جوابه عليه السلام : { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } هذا كلام مستأنف لبيان أهم الأمرين وأولاهما بالرفض والكراهة وهو إنشاء في لفظ الخبر فأمّا أن يكون تأكيداً قسمياً لرفض دعوة الملأ إياهم إلى العود في ملّتهم كما يقول القائل : برئت من الذمّة أو من ديني أو من رحمة الله تعالى إن فعلت كذا ، فيكون مقابلة لقسمهم بقسم أعرق منه في التوكيد - وإمّا أن يكون تعجّباً خرج لا على مقتضى الظاهر وأكُّد بقد الفعل الماضي ، والمعنى ما أعظم افتراءنا على الله تعالى إن عُدنا في ملّتكم بعد إذ نجّانا الله منها وهدانا الصراط المستقيم ، بالحنيفيّة ملّة إبراهيم ، وإذا كان مَنْ يتّبع ملّتكم يُعد مُفترياً على الله تعالى بقوله عليه ما لا يعلم ، لا بهداية من الوحي ، ولا برهان من العقل ؟ فكيف يكون حال مَنْ افترى عليه وضلّ عن صراطه على علم ؟ وإن كفر الجحود وهو إنكار الحق وغمطه بعد العلم به هو شرّ أنواع الكفر ، والإفتراء على الله تعالى فيه أفظع ضروب الإفتراء التي لا يُقبل فيها أدنى عذر ؟ وأنت ترى أن التنجية أدل من العود على إثبات أنهم كانوا على ملّة قومهم حقيقة . وقد علمت أن المفسّرين يجعلونه تغليباً لاستثنائه عليه السلام . ونقول بناء على ما قرّرناه من أن عدهم إياه من أهل ملّتهم لا يقتضي أنّه كان يعبد ما يعبدون ، ويفعل من التطفيف وبخس الناس أشياءهم ما كانوا يفعلون ، : إنه يصحّ أن يشمله إنجاء الله تعالى إياه منها بمعنى إنجائه من الإنتماء إلى ملّة ما كان يُؤمن بعقيدتها ، ولا يعمل عمل أهلها ، ولا كان يهتدي بعقله ورأيه إلى ملّة خير منها ، فكان موقفه موقف الحيرة في شأنها ، كما يؤخذ من قوله تعالى في خطاب النبيّ الخاتم الأعظم صلى الله عليه وسلم : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [ الضحى : 7 ] ، وتفسيره بقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] . { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا } هذا رفض آخر للعود في ملّتهم مؤكّد أبلغ التأكيد معطوف على مناسبه ، والتعبير يدلّ على نفي الشأن ، وهو أبلغ من نفي الفعل ، لأنّه نفي له بالدليل وهو كونه غير مستطاع ، ولا جار على سنن الله في الإجتماع ، والمعنى ليس من شأننا أن نعود فيها في حال من الأحوال إلاّ حال مشيئة الله ربّنا ، المتصرّف في جميع شؤوننا ، فهو وحده القادر على ذلك لا يقدر عليه غيره لا أنتم ولا نحن أيضاً ، لأننا موقنون بأنّ ملّتكم باطلة ضارة مفسدة ، وملّتنا هي الحق ، التي بها صلاح الناس وعمران الأرض ، والموقن لا يستطيع إزالة يقينه ولا تغييره ، وإنّما ذلك بيد مقلّب القلوب سبحانه ورهن مشيئته . { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } فعنده من العلم بأسباب الإيمان والكفر والهدى والضلال والصلاح والفساد ما ليس عندكم ولا عند أحد من الخلق ، ومشيئته تجري بحسب علمه وحكمته في خلقه . وممّا كان يعلمه عليه السلام من حكمته تعالى وسننه في خلقه أنّه يقيم حجّته بأهل الحق على أهل الباطل وينصرهم عليهم بالقول والفعل ما داموا ناصرين له وقائمين بما هداهم إليه منه ، فكأنّه يقول لهم : إذا كان الأمر كذلك فلا تطمعوا إذاً أن يشاء ربّنا الحفي بنا عودتنا في ملّتكم بعد إذ نجّانا بفضله منها وأقام الحجّة عليكم بنا ، وما كان تعالى ليدحضّ حجّته ، ويُبطل سُنّته . فهذا الإستثناء موئس للملأ من قوم شعيب من عودته عليه السلام مع مَنْ آمن معه في ملّتهم ، لأنّه يُعد أن نفى وقوع العود منهم باختيارهم نفياً مؤكّداً بأنّه ليس من شأنهم ولا ممّا يجيء من قبلهم في حال ما من الأحوال التي تطرأ عليهم كالترغيب والترهيب والرجاء في المنافع والخوف من المضار ، ومنها الإخراج من الديار ، استثنى حالة واحدة وهي مشيئة الله تعالى وحده ، فدلّ على عموم النفي فيما عدا المستثنى وقد يُستعمل لتوكيده من غير ملاحظة لمتعلّق المشيئة هل هو ممكن يجوز أن يقع أم لا ؟ كقوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ * إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [ الأعلى : 6 - 7 ] أو للتنبيه على النفي بكرم الله وفضله لا بالإيجاب عليه وهو الوجه الذي اختاره شيخنا - رحمه الله تعالى - في تفسير سورة الأعلى ولا يخل بتوكيد عموم النفي جواز تعلّق المشيئة بالمنفي في كلام شعيب عليه السلام والقرائن اللفظيّة والمعنويّة تدلّ على عدم وقوع هذا الجائز وهو إنّه تعالى لا يشاء عودته مع مَنْ آمن معه في ملّة قومهم ، فهو قد قرّر أن هذا شيء لا يقدر عليه إلاّ الله تعالى فطلبه من غيره عبث ، يؤكّده ذكر الرب مضافاً إلى ضمير المتكلّم ومَنْ معه فأفاد بدلالة الإلتزام أو الإقتضاد أنّه لا يشاء لهم إلاّ ما عوّدهم بحسن تربيته إيّاهم ولطفه وعنايته بهم ، إذ أنجاهم من تلك الملّة الباطلة ، وهو تأييد عصمة رسولهم وحفظ جماعتهم من العود فيها ، فكان هذا بمعنى قول عبد أمين أراد أن يغويه بعض المغوين ويغريه بخيانة سيّده الحفي به وصرف بعض ماله فيما يضرّه هو ويفسد عليه نفسه : ليس هذا من شأني ولا ممّا يدخل في تصرفي إلاّ أن يشاء سيّدي الصالح المصلح المعتني بشأني ، وهو أعلم منّي بأمري . فالتعبير ليس مسوّقاً لتقرير حجّة الأشاعرة على جواز مشيئة الله لكفرهم بالفعل ، ولا حجّة المعتزلة على وجوب رعاية الصلاح والأصلح لهم ولغيرهم بالعقل ، ولكنّه يدل بطريق الإلتزام على ما ذكرنا من عناية الرب سبحانه وتعالى برسله وأتباعهم المستقيمين على دينهم ، ومضي سنته ووعده بتأييدهم ، المصرح به في آيات أخرى كقوله تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] وقوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] فهو لن يشاء كفرهم بالفعل ، بل يختار لهم الأصلح بحكمته وفضله لا بإيجاب العقل . وقد روى ابن جرير وغيره عن السدي أنّه قال في الآية : وما كان ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجّانا الله إلاّ أن يشاء الله ربّنا والله لا يشاء الشرك ولكن يقول إلاّ أن يكون الله قد علم شيئاً فإنّه وسع كلّ شيء علماً اهـ . ولعلّه يُريد أنّه لا يشاء ذلك لأنّه مخالف لسننه الحكيمة وفضله العظيم على رُسله ومَنْ آمن بهم وإن كان لا يقع من أهل الشقاء بسوء اختيارهم إلاّ بإرادته ومقتضى سُنّته ، وسُننه في الفريقين مختلفة كما شرحناه مراراً . وقد سبق مثل هذا الإستثناء في سورة الأنعام ، حكاية عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، إذ قال لقومه : { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 80 ] وقد اخترنا هنالك أنّه استثناء من عموم الأوقات وأنّه منقطع معناه : لكن إن شاء ربّي أن يصيبني في وقت من الأوقات مكروه من قبل ما تُشركون به كوقوع صنم عليّ يشجّني ، فإنّه يقع بقدرته تنفيذاً لمشيئته ، لا بقدرة شركائكم ولا بمشيئتهم لأنّهم لا قدرة لهم ولا مشيئة ، ثمّ علّل ذلك بمثل ما علّله به بعده شعيب - عليهما الصلاة والسلام وعلى نبينا وآله - فقال : { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [ الأنعام : 80 ] أي ومعبوداتكم لا تعلم شيئاً ، إلخ واخترنا هنا جعل الاستثناء من أعم الأحوال لا الأوقات وإن جاز الجمع بينهما لأنّ الوقت لا شأن له هنا ، على أن عموم الأحوال يستلزم عموم الأوقات . ثمّ أكّد عليه السلام ذلك كلّه بقوله : { عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا } أي إليه وحده وكلنا أمرنا ، مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا من المحافظة على الدين الذي شرّعه لنا ، فهو يكفينا أمر تهديدكم ، وكلّ ما لم يجعله في استطاعتنا من جهادكم . وذلك أن من أصول المعرفة بالله عزّ وجلّ التي يعرفها جميع رسله أن مَنْ توكّل عليه كفاه : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] وأن من شروط التوكل الصحيح في الأمر القيام بكل ما أوجبه الله تعالى فيه من الأحكام الشرعيّة ، ومراعاة ما اقتضته حكمته فيه من الأسباب والسنن الكونيّة والاجتماعيّة . فمَنْ يترك العمل بالأسباب فهو جاهل مغرور ، لا متوكّل منصور ولا مأجور ، و " قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن سأله أيترك ناقته سائبة ويتوكّل على الله تعالى " أعقلها وتوكّل " رواه الترمذي وقال تعالى لرسوله بعد أمره بمشاورة أصحابه في غزوة أُحُد : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } [ آل عمران : 159 ] وإنّما يكون العزم بعد الأخذ بالأسباب ومنها مظاهرته صلى الله عليه وسلم يومئذ بلبس درعين . وقد بيّنا ذلك مفصّلاً في مواضع من هذا التفسير . والخلاصة أنّه صلى الله عليه وسلم بدأ جوابه للملأ من قومه بالتعجب من تهديدهم وإنذارهم ، وإقامة الأدلّة الدينيّة والعقليّة على امتناع عودهم إلى ملّة الكفر باختيارهم . وعدم إستطاعة أحد على إجبارهم عليه غير الله تعالى الفعال لما يُريد ، والإستدلال على أن هذا ممّا لا يُريده - وثنى ببيان توكّلهم على الله تعالى الذي يكفي مَنْ توكّل عليه ما أهمّه وهو فرق كسبه واختياره ، فتجتمع له العناية الكسبيّة والوهبيّة - ثمّ ثلّث بالدعاء الذي لا يكون شرعيّاً مرجوّ الإجابة إلاّ بعد القيام بما في الطاقة من العمل الكسبي ، والتوكّل القلبي ، فقال : { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ } المعنى لمادة ( الفتح ) كما حقّقه الراغب إزالة الإغلاق والإشكال ، وهو ضربان : ( أحدهما ) : ما يُدرك بالبصر كفتح العين والقفل والغلق والمتاع من صندوق وغرارة وخرج وعلبة . و ( الثاني ) : هو ما يُدرك بالبصيرة كفتح أبواب الرزق ، والمغلق من مسائل العلم ، والمبهم من قضايا الحكم ، والنصر في وقائع الحرب ، وفي آيات القرآن إستعمالات من الضربين كليهما ، ولك أن تقسّمه إلى حسّي ومعنوي - ومن الأوّل الفتح الذي يكون بالكلام كحكم القاضي وفتح المأموم على الإمام في الصلاة وهو أن يقرأ الآية التي أخطأ فيها أو وقف عن القراءة ناسياً لما بقي منها - وإلى حقيقي ومجازي ومن مجاز الأساس : فتح على فلان إذا جُد وأقبلت عليه الدنيا ، وفتح الله عليه - نصره … وفتح الحاكم بينهم ، وما أحسن فُتاحته أي حكمه ، قال : @ ألا أبلغ بنيّ وهب رسولاً بأنّي عن فُتاحتهم غنيّ @@ وبينهم فتاحات أي خصومات . وفلان ولي الفتاحة بالكسر وهي ولاية القضاء ، وفاتحة حاكمه . وعن ابن عباس : ما كنت أدري ما قوله تعالى : { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا } [ الأعراف : 89 ] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعالى أُفاتحك . وقالت أعرابيّة لزوجها بيني وبينك الفتاح ، اهـ وأثر ابن عباس أخرجه قدماء التفسير المأثور وابن الأنباري في الوقف ، والابتداء والبيهقي في الأسماء والصفات وفسّر المفاتحة فيه بالمقاضاة . وهو يدلّ لغة على أنّها ليست قرشيّة بهذا المعنى ويؤيّد ما روي عن السدي من أنّها يمانيّة وخصّها بعضهم بالحميريّة وذو يزن من أسمائهم . والمناسب أن كلّ فتح بين فريقين فهو بمعنى الحكم والفصل بينهما أمّا بالقول والفعل أو بأحدهما ومنه النصر ، ومن الآيات فيه : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ } [ سبأ : 26 ] ومنها حكاية عن نوح عليه السلام : { فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 118 ] وهذا عين مراد شعيب عليه السلام في دعائه الملاقي لإنذاره قبله بقوله : { حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ } [ الأعراف : 87 ] إلخ . والمعنى : ربّنا أحكم وأفصل بيننا وبين قومنا بالحق الذي مضت به سُنّتك في التنازع بين المرسلين والكافرين ، وبين سائر المحقّين المصلحين ، والمبطلين المفسدين في الأرض ، وأنت خير الحاكمين ، لإحاطة علمك بما يقع به التخاصم وتنزّهك عن الظلم ، واتباع الهوى في الحكم .