Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 27-28)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قد بينا وجه التناسب بين هذه النداءات الإلهيّة للمؤمنين وما قبلها وما بعدها إلى آخر هذا الجزء . وورد في سبب نزول هذا النداء بالنهي عن الخيانتين هنا من حديث جابر أن أبا سفيان خرج من مكّة - وكان لا يخرج إلاّ في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين - فأعلم الله رسوله بمكانه ، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان : أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم . فأنزل الله : { لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } الآية . والمراد أن فيها تعريضاً بفعله المنافق الذي يدعي الإيمان بأن عمله خيانة تنافيه . والخيانة للناس وحدهم من أركان النفاق كما ثبت في الحديث الصحيح - وسيأتي - فكيف بمثل هذه الخيانة لله والرسول والمؤمنين ؟ وفي عدّة روايات عن عبد الله بن قتادة والزهري والكلبي والسدي وعكرمة أنّها نزلت في أبي لبابة ( رضي الله عنه ) فإنه كان حليفاً لبني قريظة من اليهود فلمّا خرج إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد إجلاء إخوانهم من بني النضير أرادوا بعد طول الحصار أن ينزلوا من حصنهم على حكم سعد بن معاذ - وكان من حلفائهم من قبل غدرهم ونقضهم لعهد النبيّ صلى الله عليه وسلم فأشار إليهم أبو لبابة بأن لا يفعلوا ، وأشار إلى حلقه يعني أن سعداً يحكم بذبحهم ، فنزلت الآية . قال أبو لبابة ما زالت قدماي حتى علمت إنني خنت الله ورسوله - وفي رواية عبد بن حميد عن الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا لبابة إلى قريظة وكان حليفاً لهم ، بل روي أنه كان وضع ماله وولده عندهم ، فأومأ بيده إلى الذبح فأنزل الله الآية ( وذكرها ثمّ قال ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي لبابة " أيصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة ؟ " فقالت إنه ليصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة ويحب الله ورسوله . والمراد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم شك في إيمانه حتى أنّه سأل إمرأته هل يقوم في بيته بواجبات الإسلام ؟ فأجابته بصيغة التأكيد التي يجاب بها مَنْ أظهر شكّه ، وفيه عبرة لمنافقي هذا الزمان الذين يخلصون الخدمة ويسدون النصيحة إلى أعداء ملّتهم وأوطانهم فيما يمكن لهم السلطان في بلادهم والسيادة على أمتهم . ولينظر المعتبر كيف عاقب أبو لبابة نفسه توبة إلى الله تعالى : شدّ نفسه على سارية من المسجد وقال : والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ - فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرّ مغشياً عليه ثمّ تاب الله عليه فقيل له قد تيب عليك فقال والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني ، فجاءه فحله بيده . وغزوة بني قريظة كانت بعد غزوة بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال بسنين فيحتمل أن يكون المراد بنزول الآية في أبي لبابة أنها تتناول فعلته - وهذا التعبير يكثر مثله عنهم فيما يسمونه أسباب النزول ، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره . ومن ذلك قول المغيرة بن شعبة : نزلت هذه الآية في قتل عثمان ( رضي الله عنه ) . ويحتمل أن تكون الآية نزلت بعد نزول السورة فألحقت بها بأمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم . ومهما يكن سبب النزول فالآية عامة تشتمل كلّ خيانة ولذلك فسّر ابن عباس خيانة الله بترك فرائضه وارتكاب معصيته ، والأمانة بكل ما إئتمن الله عليه العباد بأن لا ينقضها رواه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم . والخيانة في أصل اللغة تدل على معنى الإخلاف والخيبة بنقض ما كان يرجى ويؤمل من الخائن أو نقص شيء منه ينافي حصوله وتحققه . ومنه : خانه سيفه ، إذا نبأ عن الضريبة وخانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي ، وخان الرشاء الدلو إذا انقطع . ومن معنى النقص أو الإنتقاص في المادة قوله تعالى : { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 187 ] أي تنقصونها بعض ما أحل لها من اللذات ، ومثله التخوّن ويفترقان في معنى الصيغة قال الزمخشري في الأساس : وتخوّن فلان حقي إذا تنقصه كأنّه خانه شيئاً فشيئاً ، وكلّ ما غيَّرك عن حالك فقد تخونك ، قال لبيد : تخوَّنها نزولي وارتحالي اهـ . وقال في تفسير الآية من الكشاف وتبعه غيره : معنى الخون النقص كما أن معنى الوفاء التمام ومنه تخونه إذا تنقصه ، ثمّ استعمل في ضد الأمانة والوفاء ، لأنّك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه اهـ وما قلناه أولاً أعم من هذا وأشمل لما ورد من الإستعمال في كلام الله وكلام العرب . وقال الراغب الخيانة والنفاق واحد إلاّ أن الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة ، والنفاق يقال اعتباراً بالدين ، ثمّ يتداخلان إلخ ما قاله وهو يدخل في عموم ما قلناه ولا يصحّ كونه حداً تاماً . والمعنى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ } تعالى بتعطيل فرائضه أو تعدي حدوده وانتهاك محارمه التي بينها لكم في كتابه ( والرسول ) بالرغبة عن بيانه لكتاب الله تعالى إلى أهوائكم ، أو أراء مشايخكم أو آبائكم ، أو المخالفة عن أمره إلى أوامر أمرائكم وترك سنته إلى سنة أوليائكم ، بناء على زعمكم أنهم أعلم بمراد الله ورسوله منكم { وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ } أي ولا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولياء أموركم من الشؤون السياسية ولا سيّما الحربية وفيما بينكم بعضكم مع بعض من المعاملات المالية وغيرها حتى الإجتماعيّة والأدبيّة فقد ورد في الحديث " المجالس بالأمانة " رواه الخطيب من حديث عليّ وحسنوه وأبو داود عن جابر بزيادة " إلاّ ثلاثة مجالس : سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حقّ " وهو حسن أيضاً ، وروى أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والضياء من حديث جابر أيضاً " إذا حدث الرجل بحديث ثمّ التفت فهو أمانة " ورواه أبو يعلى عن أنس ، وأشار في الجامع الصغير إلى صحته . فإفشاء السر خيانة محرمة ويكفي في العلم بكونه سراً القرينة القولية كقول محدثك : هل يسمعنا أحد ؟ أو الفعلية كالإلتفات لرؤية من عساه يجيء . وآكد أمانات السر وأحقّها بالحفظ ما يكون بين الزوجين . الخيانة من صفات المنافقين ، والأمانة من صفات المؤمنين ، وقال أنس بن مالك : قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ قال : " لا إيمان لمن لا عهد له ، ولا دين لمن لا عهد له " رواه أحمد وابن حبان في صحيحه . وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أئتمن خان " زاد مسلم " وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم " وقد ورد في الأحاديث إطلاق الأمانة على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان ، وليس المراد بهذا الحصر ، بل كل ما يجب حفظه فهو أمانة ، وكلّ حقّ مادي أو معنوي يجب عليك أداؤه إلى أهله فهو أمانة . قال الله تعالى في سورة البقرة : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } [ البقرة : 283 ] { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } [ البقرة : 282 ] وقال في سورة النساء : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] . وقد أوردنا في تفسير آية النساء هذه مباحث نفيسة في الأمانات والعدل ، منها ( المسألة الثالثة ) في أنواع الأمانة ( والمسألة السادسة ) في حكمة تأكيد الأمر بالأمانة . وأوردنا في هذه ما قاله حكيم الشرق السيّد جمال الدين الأفغاني في بيان كون الأمانة من الصفات الدينيّة التي قام عليها بناء المدنيّة وبها حفظ العمران ولا صلاح لحال أمّة ولا بقاء لدولة بدونها لأن عليها مدار الثقة في جميع المعاملات وناهيكم بما عظم الله من أمر الأمانة في قوله : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . وأما قوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فمعناه والحال أنّكم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله تعالى إياها وسوء عاقبة تلك المفاسد في الدنيا والآخرة ، أو تعلمون أن ما فعلتموه خيانة لظهوره ، وأما ما خفي عنكم حكمه فالجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين بالضرورة أو مما يعلم ببداهة العقل ، أو استفتاء القلب ، كفعله أبي لبابة التي كانت هفوة سببها الحرص على المال والولد ، ولذلك فطن لها قبل أن يبرح موقفه ( رضي الله عنه ) ولما كان حب الأموال والأولاد مزلة في الخيانة أعلمنا به عقب النهي عنها فقال : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } الفتنة هي الإختبار والإمتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه أو قبوله أو إنكاره ، فتكون في الإعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء . يمتحن الله المؤمنين والكافرين ، والصادقين والمنافقين ، ويحاسبهم ويجزيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق أو الباطل ، وعمل الخير أو الشر ، وقد تقدم الكلام في الفتنة مراراً من وجوه . وفتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذي فهم إلاّ أن الأفهام تتفاوت في وجوهها وطرقها ، فأموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته ودفع كثير من المكاره عنه ، فهو يتكلّف في كسبها المشاق ويركب الصعاب ، ويكلّفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام ، ويرغبه في القصد والإعتدال ، ثمّ أنه يتكلّف العناء في حفظها ، وتتنازعه الأهواء المتناوحة في أنفاقها ، فالشرع يفرض عليه فيها حقوقاً مقدّرة وغير مقدرة ، ومعينة وغير معينة ، ومحصورة وغير محصورة ، كالزكاة ونفقات الأزواج والأولاد وغيرهم ، وكفارات بعض الذنوب المعينة من عتق وصدقة ونسك وغير ذلك ويندب له نفقات أخرى للمصالح العامة والخاصة تكفر الذنوب غير المعينة ، ويترتب عليه شيء عظيم من الأجر والثواب . والضابط لجميع أنواع البذل من صفات النفس السماحة والسخاء من أركان الفضائل ، ولجميع أنواع الإمساك البخل وهو من أمهات الرذائل ، ولكل منهما درجات ودركات . وأمّا الأولاد فهم كما يقول الأدباء : ثمرة الفؤاد وأفلاذ الأكباد ، وحبهم كما قال الأستاذ الإمام : ضرب من الجنون يلقيه الفاطر الحكيم في قلوب الأمهات والآباء ، يحملها على بذل كلّ ما يستطاع بذله في سبيلهما من مال وصحة وراحة وغير ذلك ، بل روى أبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً إلى سيّد الحكماء وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم " الولد ثمرة القلب وإنّه مجبنة مبخلة محزنة " فإن كان سنده ضعيفاً كما قالوا فمتنه صحيح ، فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الآثام في سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة لهم : يحملهما ذلك على الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الحقيقة ، أو الملّة والأمّة ، وعلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة والحقوق الثابتة ، دع صدقات التطوّع والضيافة ، كما يحملهما الحزن على من يموت منهم على السخط على الرّب تعالى والإعتراض عليه وغير ذلك من المعاصي كنوح الأمّهات وتمزيق ثيابهن ولطم وجوههن ، ففتنة الأولاد لها جهات كثيرة فهي أكبر من فتنة الأموال وأكثر تكاليف مالية ونفسية وبدنية ، فالرجل يكسب الحرام ويأكل أموال الناس بالباطل لأجل أولاده كما يفعل ذلك لكبائر شهواته ، فإذا قلت شهواته في الكبر فصار يكفيه القليل من المال يقوى في نفسه الحرص على شهوات أولاده ، وما يكفي الواحد لا يكفي الآحاد ، وفتنة الأموال قد تكون جزءاً من فتنة الأولاد ، فتقديمها وتأخير فتنة الأولاد من باب الإنتقال من الأدنى إلى الأعلى . فالواجب على المؤمن إتقاء خطر الفتنة الأولى بكسب المال من الحلال ، وإنفاقه في سبيل الله من البر والإحسان ، وإتقاء الحرام من الكسب والإنفاق ، وإتقاء خطر الفتنة الثانية من جهة ما يتعلّق منها بالمال وغيره مما يشير إليه الحديث ، وبما أوجب الله على الوالدين من حسن تربية الأولاد على الدين والفضائل ، وتجنيبهم أسباب المعاصي والرذائل ، قال الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] . وقد عطف على هذا التحذير قوله : { وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لتذكير المؤمنين بما يعينهم على ما يجب عليهم من إتقاء الفتنتين وهو إيثار ما عند الله عزَّ وجلّ من الأجر العظيم لمن راعى أحكام دينه وشرعه في الأموال والأولاد ووقف عند حدوده وتفضيله على كلّ ما عساه يفوّته في الدنيا من التمتع بهما ، لعلهم يتّقون مثل هفوة أبي لبابة حين حذر أعداء الله ورسوله من فتح حصنهم والنزول على حكم سعد بن معاذ ، لما كان له من الإعتماد عليهم في حفظ ماله وولده ، على أن للمؤمن الصادق حسن قدوة بأبي لبابة في توبته النصوح ، إذ ألم به ضعف فوقع في مثل هفوته أو ما دونها من خيانة ، وأين مثل أبي لبابة ( رضي الله عنه ) في ذلك ؟ ونحن نرى كثيراً ممن يدعون الإيمان يخونون الله ورسوله في انتهاك حرمات دينهم ، ويخونون أمتهم ودولتهم بثمن قليل أو كثير من المال يرجونه أو ينالونه من عدوهم ، - وقد يكون من مال أمتهم وغنائم وطنهم - أو خوفاً على مالهم وولدهم من سلطانه قبل أن يستقر له السلطان ، وقد أسقطت الخيانة دولة كانت أعظم دول الأرض قوّة وبأساً بارتكاب رجالها الرشوة من أهلها ومن الأجانب حتى مسخت فصارت دويلة صغيرة فقيرة ، ولكن الخلف المغرور لذلك السلف المخرب يدّعون إنّما أسقطها تعاليم الإسلام القويمة ، لأنّها صارت قديمة ، ولو أنّهم أقاموا واجباً واحداً أو أدباً واحداً من آداب القرآن ، لكان كافياً لوقايتها من الزوال .