Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 53-55)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآيات الثلاث في مسألة النفقة في القتال ، وهي الجهاد المفروض في المال ، ومثلها سائر النفقات ، في حكم ما يعتورها من الرياء والإخلاص . روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الجد بن قيس إلى جهاد الروم قال : إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى افتتن ولكن أعينك بمالي ، ففيه نزل { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } وقد ضعف ( الطبري ) هذا القول بالتعبير عنه بقيل ، والحق إن الآية عامة تشمل هذا وغيره ، وأنها نزلت مع غيرها من هذا السياق في أثناء السفر لا عقب قول جد بن قيس ما قال قبله . والمعنى : قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين : أنفقوا ما شئتم من أموالكم في الجهاد أو غيره مما أمر الله به في حال الطوع للتقية ، أو الكره خوف العقوبة ، فمهما تنفقوا في الحالتين لن يتقبل الله منكم شيئاً منه ، ما دمتم على شك مما جاءكم به الرسول من أمر الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة . وقيل معناه إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل منهم ما ينفقونه ، ولكن هذا لا يصح على إطلاقه في جميعهم ، لأن مقتضى إجراء أحكام الشريعة عليهم تقتضي وجوب أخذ زكاتهم ونفقاتهم ، إلا أن يوجد مانع خاص في شأن بعضهم ، كما سيأتي في تفسير { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } [ التوبة : 75 ] الآيات . قال الإمام ابن جرير وتبعه غيره : وخرج قوله : { أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } مخرج الأمر ومعناه الخبر . والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها : " إن " التي تأتي بمعنى الجزاء كما قال جل ثناؤه { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] فهو في لفظ الأمر ومعناه الخبر ومنه قول الشاعر : @ أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلَّت @@ فكذلك قوله : { أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } إنما معناه : إن تنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم اهـ { إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } هذا تعليل لعدم قبول نفقاتهم ومعناه إن إنفاقكم طائعين أو مكرهين سيان في عدم القبول لأنكم كنتم قوما فاسقين . و { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] والمراد بالفسوق الخروج من دائرة الإيمان ، الذي هو شرط لقبول الأعمال مع الإخلاص ، وهو كثير الاستعمال في القرآن ، - وتخصيصه بالمعاصي من اصطلاح الفقهاء . فليعتبر بهذا منافقوا هذا الزمان ، الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ويعلنون أمرها في صحف الأخبار ، ليشتهروا بها في الأقطار ، ثم بين تعالى ما في هذا التعليل من الإجمال فقال : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } أي وما منعهم قبول نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بالله وصفاته على الوجه الحق ، ومنها الحكمة والتنزه عن العبث في خلق الخلق وهدايتهم وجزائهم على أعمالهم ، وكفرهم برسالة رسوله وما جاء به من البينات والهدى . قرأ الجمهور ( تقبل ) بالمثناة الفوقية وقرأها حمزة والكسائي بالتحتية ، وتأنيث النفقات لفظي لا حقيقي فيجوز تذكير فعله { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } ؟ ففعلهم لهذين الركنين من أركان الإسلام ، اللذين هما أظهر آيات الإيمان ، لا يدل على صحة إيمانهم لأنهم يأتونهما رياء وتقية لا إيمانا بوجوبهما ، ولا قصداً إلى تكميل أنفسهم بما شرعهما الله لأجله ، واحتسابا لأجرهما عنده ، أما الصلاة فلا يأتونها إلا وهم كسالى أي في حال الكسل والتثاقل منها ، فلا تنشط لها أبدانهم ، ولا تنشرح لها صدورهم ، زاد في سورة النساء { يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] وقد أمر الله المؤمنين بإقامة الصلاة لا بمجرد الإتيان بصورتها ، ووصفهم بالخشوع فيها ، وهو ينافي الكسل عند القيام إليها ، فعلى كل مسلم أن يحاسب نفسه ليعلم هل صلاته صلاة المؤمنين ، أم صلاة المنافقين ؟ وأما الإنفاق في مصالح الجهاد وغيرها فلا يؤتونه إلا وهم كارهون له ، غير طيبة أنفسهم به ، لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم مضروبة عليهم ، تقوم بها مرافق المؤمنين وهم يعلمون من أنفسهم أنهم ليسوا منهم ، فلا يرون لهم بها نفعا في الدنيا ، ولا يؤمنون بنفعها لهم في الآخرة . وبما قررناه يندفع إيراد بعضهم أن الكفر وحده كاف في عدم قبول نفقاتهم فأي حاجة إلى وصفهم بالكسل عند إتيان الصلاة وكره أداء الزكاة وغيرها من نفقات البر ؟ وتمحل الجواب عنه على مذهب المعتزلة أو الأشعرية ، فإن وصفهما بما ذكر تقرير لكفرهم ودفع للشبهة التي ترد عليه بالصلاة والزكاة كما بيناه . قال الزمخشري ( فإن قلت ) الكراهية خلاف الطواعية وقد جعلهم الله طائعين في قوله ( طوعا ) ثم وصفهم بأنهم { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } ( قلت ) المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم ، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار ، لا عن رغبة واختيار اهـ على أنه فسر الكره في الآية الأولى بالإكراه . والراجح عندي ما قدمته من أن المراد بطوعهم ما كان بقصد التقية لإخفاء كفرهم ، وهو يقتضي كرهه في قلوبهم وعدم إخلاصهم فيه ، وهو ما أثبته لهم في الآية الثانية بصيغة الحصر ، وحاصله أن المراد به طواعية المصلحة أو الطبع ، لا طاعة الشرع ، وقد يقال إن الترديد بين الطوع والكره في مثل هذا التعبير لا يقتضي إثبات وقوع كل منهما ، وإنما المراد به أنه مهما يكن الواقع فهي غير مقبولة ، لوجود الكفر المانع من القبول ، ومن أطاع الله ورسوله فيما يسهل عليه وعصاهما فيما يشق عليه فلا يعد مذعنا للأمر والنهي لأنه حكم الله ، ومن لم يكن مذعنا لا يكون مؤمنا ، { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ } [ البقرة : 85 ] وقد بايع المؤمنون الرسول صلى الله عليه وسلم على الطاعة في المنشط والمكره . ولما كان أولئك المؤمنون من أولي الطول والسعة في الدنيا كما سيأتي في قوله : { ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ } [ التوبة : 86 ] وكان ترف الغني وطغيانه أقوى أسباب إعراضهم عن آيات الله والتأمل في محاسن الإسلام - بين الله تعالى للمؤمنين سوء عاقبتهم فيه فقال : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ } الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راض به فتعجب من حسنه كما قال الزمخشري ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من سمع القول أو بلغه ، والكلام مرتب على ما قبله كأنه يقول إذا كان هذا شأنهم في مظنة ما ينتفعون به من أموالهم ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، فلا تعجبك أيها الرسول أو أيها السامع أموالهم ولا أولادهم التي هي في نفسها من أكبر النعم وأجلها ، ولا تظن أنهم وقد حرموا من ثوابها في الآخرة قد صفا لهم نعيمها في الدنيا ، وعلل النهي بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } بما يعرض لهم فيها من المنغصات والحسرات ، أما الأموال فإنهم يتعبون في جمعها ، ويحرصون على حفظها ، ويشق عليهم ما ينفقونه منها من زكاة وإعانة على قتال وإنفاق على قريب من المؤمنين ، وأشق منه إعتقادهم أنهم يتركونها بعدهم لمصالح المسلمين ، لأن ورثتهم منهم في الغالب حتى زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبي ( لعنه الله ) كما سيأتي في الآيات التي نزلت في خبر موته على كفره وأعيدت هذه الآية فيها . وأما الأولاد فلأنهم يرونهم قد نشؤوا في الإسلام واطمأنت به قلوبهم ، وأنهم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وكل هذه حسرات في قلوبهم . ولقد كان ثعلبة الذي عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين ، ثم نقض عهده وأخلف الله ما وعده بعد أن أغناه - أشدهم حسرة بامتناع الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه عن قبول زكاته . { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ } فيعذبون بها في الآخرة أشد مما عذبوا بها في الدنيا بموتهم على كفرهم المحبط لعملهم ، زهوق الأنفس خروجها من الأجساد . وقال بعض المفسرين : هو الخروج بصعوبة ، وفي التنزيل { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ } [ الإسراء : 81 ] أي هلك وأضمحل ، وجعله في الأساس مجازاً ، والظاهر أنه من زهق السهم إذا سقط دون الهدف ، وورد زهقت الناقة بمعنى أسرعت ، فالتعبير بالزهوق هنا إما من الأول أي الهلاك وهو الأظهر ، وإما من الإسراع للإشارة إلى أنه لم يبق من أعمارهم إلا القليل حقيقة ، أو من قبيل قوله تعالى فيهم : { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأحزاب : 16 ] .