Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 102-107)
Tafsir: Baḥr al-ʿulūm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } يقول أطيعوا الله حق طاعته ، وحق طاعته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين ، وأن يشكر فلا يكفر طرفة عين ، وأن يذكر فلا ينسى طرفة عين فشق ذلك على المسلمين ، فأنزل الله تعالى : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] فنسخت هذه الآية هكذا ، قال الكلبي والضحاك [ ومقاتل وغيرهم ] من المفسرين : إن هذه الآية منسوخة وقال بعضهم : لا يجوز أن يقال هذه الآية منسوخة لأنه لا يجوز أن يأمرهم بشيء لا [ يطيقونه ] ( ولكن الجواب أن يقال عن هذا : إنهم يطيقونه ) ولكن تلحقهم مشقة شديدة ، ( ولأن ) ذلك مجهود الطاقة ، ولا يستطيعون الدوام عليه ، والله تعالى لا يكلف عباده إلا دون ما يطيقون ، فخفَّف عنهم بقوله تعالى : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ولم ينسخ آخر الآية ( أولها ) ] وهو قوله تعالى : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } يعني اثبتوا على الإسلام ، وكونوا بحال يلحقكم الموت وأنتم على الإسلام { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } يقول : تمسَّكوا بدين الله وبالقرآن ، ويقال : تمسكوا بسبيل السنة والهدى ، { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } يقول : ولا تختلفوا في الدين كاختلاف اليهود والنصارى ويقال : لا تختلفوا فيما بينكم بالعداوة والبغضاء ، ويقال { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } يعني اطلبوا النصرة من الله لا من القبائل والعشيرة . ويقال : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } يعني ما اشتبه عليكم فردوه إلى كتاب الله كقوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] وقال بعض الحكماء : إن مثل من في الدنيا كمثل من وقع في بئر فيها من كل نوع من الآفات فلا يمكنه ( أن يخرج منها ) ، والنجاة من آفاتها إلا بحبل وثيق ، فكذلك الدنيا دار محنة ، وفيها كل نوع من الآفات ، فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بحبل وثيق ، وهو كتاب الله تعالى . ثم ( ذكَّرهُم ) نعمته فقال تعالى : { ٱذْكُرُواْ } نعمتي واحفظوا { نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } الإسلام { إِذْ كُنتُم أَعْدَاء } في الجاهلية { فَأَلَّفَ } الله { بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } يعني جمع بين قلوبكم بالإسلام تودُّداً { فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } يقول فصرتم بنعمة الإسلام { إِخْوَانًا } في الدين . وكل ما ذكر في القرآن أصبحتم ، معناه صِرْتم ، كقوله : { إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } [ الملك : 30 ] أي صار ماؤكم غورا . وهذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، كان بينهم قتال قبل الإسلام بأربعين عاماً حتى كادوا أن يتفانوا ، فلما بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة آمن به الأوس والخزرج وهم بالمدينة ، ثم خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل أن يهاجر منهم سبعون رجلاً ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه عمه العباس حتى أتى إلى العقبة ( إلى سبعين ) رجلاً من الأنصار فعاهدوه ثم رجعوا إلى المدينة ، وهاجر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إليهم بعد الحولين ، فوقعت بين الأوس والخزرج أُلْفَةٌ ، وزالت عنهم العداوة التي كانت ( بينهم ) في الجاهلية بالإسلام ، وهذا كما ذكر في آية أخرى : { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } [ الأنفال : 63 ] . وروي عن جابر بن عبد الله ، أن رجلين من الأنصار أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج تفاخرا فيما بينهما واقتتلا ، فاستعان كل واحد منهما بقومه فاجتمعت الأوس والخزرج ، وأخذوا السلاح وخرجوا للحرب ، فبلغ الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم في ثلاثين من المهاجرين وهو راكب على حمار له ، قال جابر : فما كان من طالع يومئذ أكرم إلينا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ طلع علينا ، فأومأ إلينا بيده ، فكففنا ، ووقف بيننا على حمار له فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } . [ إلى قوله : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } ] … إلى قوله : { عَذَابٌ عظِيمٌ } . فَأَلْقوا السلاح ، واطفأوا الحرب التي كانت بينهم ، وعانق بعضهم بعضاً يبكون ، فما رأيت الناس أكثر باكياً من يومئذ ، فلم يكن في الأرض شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية . ثم قال تعالى : { وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ } قال القتبي : أشفى على كذا : إذا أشرف عليه شَفَا حُفْرة : أي حرف حفرة ، ومعناه : وكنتم في الجاهلية على هلاك بالشرك ، من مات في الجاهلية كان في النار ، { فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا } بعدما كنتم على حرف من النار ، { كَذَلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَـٰتِهِ } يعني علاماته حيث كنتم أعداء في الجاهلية إخواناً في الإسلام { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ أي لكي تهتدوا ] من الضلالة وتعرفوا علامته بهذه النعمة { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } فهذه لام الأمر كقوله : { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً } [ الكهف : 110 ] يعني لتكن منكم أمة ، قال الكلبي : يعني جماعة ، وقال مقاتل : يعني عصبة . وقال الزجاج : ولتكونوا كلكم أمة واحدة تدعون إلى الخير " ومن " ها هنا لتخص المخاطبين من بين سائر الأجناس وهي مؤكدة كقوله تعالى : { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَـٰنِ } [ الحج : 30 ] وقوله : { يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ } يعني إلى الإسلام ويقال : إلى جميع الخيرات { وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } قال الكلبي : يعني باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - { وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } يعني الجبت والطاغوت . ويقال : المنكر : يعني العمل الذي بخلاف الكتاب والسنة ، ويقال : ما لا يصلح في العقل . وروي عن سفيان الثوري أنه قال إنما يجب النهي عن المنكر إذا فعل فعلاً يخرج عن الاختلاف ( أي اختلاف العلماء ) ويقال : إنما أمر بعض الناس بقوله : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } ، ولم يأمر جميع الناس ، لأن كل واحد من الناس لا يحسن الأمر بالمعروف ، وإنما يجب على من يعلم . ويقال : إن الأمراء يجب عليهم الأمر والنهي باليد والعلماء باللسان والعوام بالقلب ، وهنا كما قال عليه الصلاة والسلام : " إذا رأى أحد منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : " بحسب امرىء إذا رأى منكراً لا يستطيع النكير أن يعلم الله من قلبه أنه كاره " . وروي عن بعض الصحابة أنه قال : إن الرجل إذا رأى منكراً لا يستطيع النكير عليه ، فليقل ثلاث مرات : " اللهم إِنَّ هذا منكر " فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه . ثم قال تعالى : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } يعني الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر هم الناجون ، ويقال : فازوا بالنعيم [ ثم قال ] : { وَلاَ تَكُونُواْ } في الاختلاف { كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ } وهم اليهود والنصارى { وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ } فافترقت اليهود فرقاً [ والنصارى فرقاً ] ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك . ثم خوفهم فقال : { وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يعني دائم لا يرفع عنهم أبداً ، يعني الذين اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات ، أي العلامات في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيان الطريق . ثم بَيَّن منازل الذين تفرقوا والذين لم يتفرقوا فقال تعالى { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم ويقال إن ذلك عند قوله تعالى : { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] تكون وجوه المؤمنين مُبْيَضّة ووجوه ( الكفار ) مُسْودَّة ، ويقال : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذا قرأ المؤمن كتابه ، فرأى في كتابه ( حسناته ) استبشر ، وابيضّ وجهه ، وإذا قرأ المنافق والكافر كتابه فرأى ( فيه سيئاته ) اسودّ وجهه . ويقال : إن ذلك عند الميزان ، إذا رجحت حسناته ابيضّ وجهه وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه ويقال إذا كان يوم القيامة ، يؤمر كل قوم بأن يجتمعوا إلى معبودهم ، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم ، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون فيقول الله تعالى للمؤمنين : " من ربكم " ؟ فيقولون : ربنا الله - عز وجل - فيقول لهم أتعرفونه إذا رأيتموه ؟ فيقولون سبحانه إذا عرفنا عرفناه ، فيرونه كما شاء الله ، فيخر المؤمنون سجداً لله تعالى ، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضاً ، وبقي المنافقون وأهل الكتاب ، لا يقدرون على السجود ، فحزنوا واسودّت وجوههم ، فذلك قوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } . { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ } يعني ، يقال لهم : أكفرتم ؟ ولكن حُذِفَ القول ، لأن في الكلام دليلاً عليه " بعد إيمانكم " يعني يوم الميثاق قالوا : بَلَى ، يعني المرتدين والمنافقين . ويقال : هذا لليهود ، وكانوا مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُبْعث ، فلما بُعث كفروا به ، وقال أبو العالية : هذا للمنافقين خاصة ، يقول : أكفرتم في السر بعد ( إيمانكم أي ) مع إقراركم في العلانية { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن . [ حدثنا الخليل بن أحمد قال ] : ( حدثنا عباد بن الوليد قال حدثنا محمد بن عباد البنائي ) قال : حدثنا حميد بن الخياط ، قال : سألت أبا العالية عن هذه الآية : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ } فقال : حدثنا ( أبو أمامة ) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنهم الخوارج " وسألته عن قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ } [ آل عمران : 118 ] قال : إنهم الخوارج . قوله : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ } أي في جنة الله . قال الزجاج : يعني في الجنة التي صاروا إليها برحمة الله تعالى ، لأن الجنة تُنَالُ برحمته ، ولا تُنَال بالجهد ، وإن اجتهد المجتهد ، لأن نعمة الله تعالى لا يكافئها عمل " ففي رحمة الله " أي في ثواب الله { وَهُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } أي دائمون .