Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 187-195)

Tafsir: Baḥr al-ʿulūm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } يعني أخذ عليهم الميثاق حين أخذ ذرية آدم من ظهورهم . ويقال : أخذ عليهم الميثاق بالوحي في كتب الأنبياء { لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم - وصفته { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } عنهم . قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " ليبيننه للناس ولا يكتمونه " كلاهما بالياء وقرأ الباقون بالتاء ، فمن قرأ بالياء فمعناه أخذ عليهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، ومن قرأ بالتاء ، فمعناه أخذ عليهم الميثاق وقال لهم لتبيننه للناس ولا تكتمونه . ثم أخبر عن سوء معاملتهم ونقضهم الميثاق فقال تعالى : { فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } أي : طرحوه خلف ظهورهم ، يعني أنهم تركوا الميثاق ولم يعملوا به { وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ } أي بكتمان نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - وصفته { ثَمَناً قَلِيلاً } أي عَرضاً يسيراً من متاع الدنيا { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } يعني بئس ما يختارون لأنفسهم الدنيا على الآخرة : { لاَ تَحْسَبَنَّ } يقول : لا تظنن يا محمد { ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُوتُواْ } يقول يعجبون بما أوتوا ، يعني بما غيروا من نعته وصفته ، وهذا قول الكلبي ، وقال الضحاك : إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبياً في آخر الزمان يختم به النبوة ، فلما بعثه الله ، سألهم الملوك ، أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم ؟ فقالت اليهود طمعاً في أموال الملوك : هو غير هذا ، فأعطاهم الملوك مالاً فقال الله تعالى : { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُوتُواْ } أي بما أعطاهم الملوك : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } لأنهم كانوا يقولون نحن على دين إبراهيم ، ولم يكونوا على دينه ويقال كانوا يقولون نحن أهل الصلاة ، والصوم والكتاب ، ويريدون أن يحمدوا بذلك . قال الله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } يقول فلا تظنهم { بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ } معناه ، لا تظنن أنهم ينجون من العذاب بذلك { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي دائم لا يخرجون منه أبداً : { وَللَّهِ مُلْك ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي خزائن السماوات المطر ، وخزائن الأرض النبات . ويقال : جميع من في السماوات والأرض عبيده وفي ملكه . { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } " من النبات وغيره . ويقال : هذا معطوف على أول الكلام : إنهم لا ينجون من عذابه يأخذهم متى شاء لأنه على كل شيء قدير " { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بآية لصحة دعواه ، لأنه كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، فنزل { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي خلقين عظيمين . ويقال : فيما خلق في السماوات من الشمس والقمر والنجوم ، وما خلق في الأرض من الجبال والبحار والأشجار . { وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } يقول : وذهاب الليل ومجيء النهار ويقال : اختلاف لونيهما { لاَيَاتٍ } أي لعبرات { لأَِوْلِي ٱلأَلْبَـٰبِ } أي لذوي العقول . { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً } أي يصلون لله " قياماً " إن استطاعوا على القيام ، " وقعوداً " إن لم يستطيعوا القيام { وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } إن لم يستطيعوا القعود لزمانة ، ويقال : معناه الذين يذكرون الله في الأحوال كلها في حال القيام والقعود والاضطجاع ، كما قال في آية أخرى : { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [ الأحزاب : 41 ] ثم قال : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي يعتبرون في خلقهما . قال : حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا السراج قال : حدثنا قتيبة قال : حدثنا ابن زرارة الحلبي عن أبي حباب ، " عن عطاء بن أبي رباح ، قال : دخلت مع ابن عمر وعبيد بن عمير على عائشة ، ( فسلمنا ) عليها ، فقالت : من هؤلاء ؟ فقلت عبد الله بن عمر وعبيد بن عمير ، فقالت : مرحباً بك يا عبيد بن عمير ، ما لك لا تزورنا ؟ فقال عبيد : زر غبّاً تَزْدَدْ حُبّاً ، فقال ابن عمر : دعونا من هذا ، حدثينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم - فبكت بكاء شديداً ثم قالت : كل أمره عجب ، أتاني في ليلتي ، فدخل في فراشي حتى ألصق جلده بجلدي ، فقال : " يا عائشة أتأذنين لي أن أعبد ربي " فقلت : والله إني لأحب قربك ، والله إني لأحب هواك ، فقام إلى قربة ماء فتوضأ ثم قام فبكى وهو قائم حتى روت الدموع حجره ، ثم اتكأ على شقه الأيمن ووضع يده اليمنى تحت خده الأيمن فبكى حتى روت الدموع الأرض ، ثم أتاه بلال بعدما أذن للفجر فلما رآه يبكي قال : أتبكي يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال : " يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً وما لي لا أبكي وقد أنزلت علي الليلة : { إِنَّ فِي خَلْق ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } … إِلَى قَوله { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق " ، وقال صلى الله عليه وسلم " تفكر ساعة خير من عبادة سنة " ، ثم قال تعالى عز وجل : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً } أي يتفكرون ويقولون : ربنا ما خلقت هذا باطلاً ، عبثاً بغير شيء ، ولكن خلقتهما لأمر هو كائن { سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } يعني ادفع عذاب النار . وقال الزجاج : معنى سبحانك ، أي تنزيهاً لك من أن تكون خلقتهما باطلاً ، { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي صدَّقْنا رسلك ، وسلَّمنا أن لك جنة وناراً ، فقنا عذاب النار . { رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ } { فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي أهنته وفضحته { وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } يعني ما للمشركين من مانع من العذاب إذ نزل بهم . ويقولون أيضاً : { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَـٰنِ } يعني محمداً يدعو إلى التصديق { أَن ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ } أي صدقوا بتوحيد ربكم " فآمنا " أي صدقنا بتوحيد ربنا . وقال محمد بن كعب القرظي : ليس كل الناس لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن المنادي هو كتاب الله يدعو إلى الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن آمنوا بربكم فآمنا { رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَـٰتِنَا } . وقال الكلبي : الذنوب الكبائر ودون الكبائر ، والسيئات الشرك ، وقال الضحاك : ذنوبنا : يعني ما عملوا في حال الجاهلية ، " وكفر عنا سيئاتنا " . يعني : ما عملوا في حال الإسلام ، ويقال : الذنوب والسيئات بمعنى واحد . ويقال : الذنوب هي الكبائر ، والسيئات ما دون الكبائر التي تكفر من الصلاة إلى الصلاة . { وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ } أي مع المطيعين " ويقال : اجعل أرواحنا مع أرواح المطيعين " والصالحين . ويقولون أيضاً : { رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } يعني أعطنا ما وعدتنا من الخير والجنة على لسان رسلك ، ويقال هو ما ذكر من استغفار الملائكة والأنبياء للمؤمنين ، وهو قوله : { وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } [ الشورى : 5 ] وما ذكر من دعاء نوح وإبراهيم - عليهم السلام - للمؤمنين ، ثم قال تعالى : { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } يعني لا تعذبنا ويقال لا تخذلنا { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } يعني ما وعدت من الخير والثواب للمؤمنين { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } فأخبر الله عن فعلهم وذكر ما أجابهم به ، وأنجز لهم موعده ، وبين لهم ثوابه وهو قوله : { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } . روي عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال : من دعا بهذه الدعوات فإنه يستجاب له ، لأنه قال تعالى فاستجاب لهم ربهم { أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } يعني ثواب عمل عامل في طاعتي { مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ } يعني رجلاً أو امرأة ، قال : حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا الديبلي ، قال : حدثنا أبو عبيد الله ، قال : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن رجل من ولد أم سلمة ، يقال له سلمة بن الأكوع عن أم سلمة ، أنها قالت : يا رسول الله ، إني أسمع الله ذكر الهجرة ، فذكر فيها الرجال ولم يذكر فيها النساء . فأنزل الله تعالى : { أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ } { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } ، قال الكلبي : أي بعضكم أولياء بعض في الدين ، وقال الضحاك : يعني يشبه بعضكم بعضاً في الطاعة ، ويقال : بعضكم على أثر بعض ، ويقال : بعضكم على دين بعض . { فَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ } من مكة إلى المدينة { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ } يعني أن أهل مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } أي عُذّبوا في طاعتي { وَقَاتِلُواْ } مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشركين { وَقُتّلُواْ } أي قتلهم المشركون . قرأ حمزة والكسائي " وقتلوا وقاتلوا " على معنى التقديم والتأخير ، كقوله تعالى : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ } [ آل عمران : 55 ] وقرأ الباقون : " وقاتلوا وقتلوا " إلا ابن كثير وابن عامر : قرءا " وقتّلوا " بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة ، فذكر الله فعلهم ثم ذكر ثوابهم ، فقال : { لأُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ } أي لأمحون عنهم ذنوبهم { وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي تجري يعني من تحت قصورها وأشجارها الأنهار { ثَوَاباً مّن عِندِ ٱللَّهِ } يعني أن الجنات جزاء لأعمالهم من عند الله وقال الزجاج : إنما صار نصباً ، لأنه مصدر مؤكد ، معناه : لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ولأثيبنهم ثواباً . وروي عن الفراء أنه قال : إنما صار نصباً على التفسير ، { وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ } أي حسن الجزاء وهو الجنة ، ويقال : حسن المرجع في الآخرة خير من الدنيا .