Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 44-51)

Tafsir: Baḥr al-ʿulūm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { ذٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ ٱلْغَيْبِ } يعني الذي ذكر في هذه الآية من قصة زكريا ومريم ، من أخبار الغيب ، مما غاب عنك خبره ولم تكن حاضراً ، وفي الآية [ دليل ] نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم [ ولم يكن قرأ الكتب ، وأخبر عن ذلك ] وصدقه أهل الكتاب بذلك فذلك قوله تعالى { ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ ٱلْغَيْبِ } { نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } يعني لم تكن عندهم ، وإنما تخبر عن الوحي ، فقال : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } { إِذْ يُلْقُون أَقْلَـٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } يعني يطرحون أقلامهم في النهر بالقرعة { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } في أمر مريم . { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ } يعني جبريل [ عليه السلام ] وحده { إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } . قرأ نافع وعاصم وابن عامر " يُبَشِّرك " بالتشديد في جميع القرآن ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد في جميع القرآن إلا في : " حم ، عسق " : ذلك الذي يبشر الله عباده بالتخفيف ، وقرأ حمزة بالتخفيف إلا في قوله { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] ووافقه الكسائي في بعضها ، فمن قرأ بالتشديد فهو من ( المباشرة ) ، ومن قرأ بالتخفيف ، فمعناه يفرحك . وكانت قصة البشارة أن مريم لما طهرت من الحيض ، ودخلت المغتسل كما قال في سورة مريم : { إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } [ مريم : 16 ] ، يعني أرادت أن تغتسل في جانب المشرفة ، فلما دخلت المغتسل رأت بشراً كهيئة الإنسان كما قال { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] ، فخافت مريم ، ثم قالت : { إِنِّىۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } [ مريم : 18 ] ، لأن التقي يخاف الرحمن ، فقال لها جبريل { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَـٰماً زَكِيّاً } [ مريم : 19 ] ، وذكرها هنا بلفظ آخر ومعناه واحد قال : { إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } [ آل عمران : 45 ] ، أي بولد بغير أب يصير مخلوقاً بكلمة من الله وهو قوله كن فكان { ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } ويقال : إنما سمي المسيح لأنه يسيح في الأرض ويقال : [ المسيح بمعنى ] الماسح ، كان يمسح وجه الأعمى فيبصر . وقال الكلبي : المسيح الملك . ثم قال : { وَجِيهاً } أي ذا جاه { فِي ٱلدُّنُيَا } له [ منزلة ] { وَٱلآخِرَةِ } . وقال مقاتل : فيها تقديم ، يعني وجيهاً في الدنيا [ { وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } في ] الآخرة عند ربه . وقال الكلبي وجيهاً في الدنيا ، يعني في أهل الدنيا بالمنزلة وفي الآخرة من المقربين في جنة عدن . { وَيُكَلّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } أي في حال صغره وهو [ طفل ] في حجر أمه طفلاً ، وكهلاً ، يعني إذا اجتمع عقله وكبر . فإن قيل : ما معنى قوله كهلاً ؟ والكلام من الكهل لا يكون عجباً ، قيل له : المراد منه كلام الحكمة والعبرة . ويقال : كهلاً بعد نزوله من السماء وهو قول الكلبي . { وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } مع آبائه في الجنة { قَالَتْ } مريم { رَبّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ } يعني من أين يكون لي ولد { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } وهو كناية عن الجماع فـ { قَالَ } جبريل { كَذٰلِكَ } يعني هكذا كما قلت أنه لم يمسسك بشر ، ولكن { ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا } يعني إذا أراد أن يخلق خَلْقاً { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فنفخ جبريل في جيبها ، يعني في نفسها . قال بعضهم : وقع نفخ جبريل في رحمها ، فعلقت بذلك . وقال بعضهم : لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل ، لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة وبعضه من الإنس ولكن سبب ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم - عليه السلام - وأخذ الميثاق من ذريته ، فجعل بعضهم في أصلاب الآباء ، وبعضهم في أرحام الأمهات ، فإذا اجتمع الماءان صار ولداً وإن الله تعالى جعل المَاءَيْن جميعاً في مريم ، بعضه في رحمها ، وبعضه في صلبها ، فنفخ فيها جبريل لتهيج شهوتها ، لأن المرأة ما لم تهج شهوتها لا تحبل ، فلما هاجت شهوتها بنفخة جبريل ، وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها فاختلط الماءان فعلقت بذلك ، فذلك قوله : { إِذَا قَضَى أَمْرًا } ، يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً سبحانه ، { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ } بغير أب . ثم قال تعالى : { وَيُعَلّمُهُ ٱلْكِتَـٰبَ } . قرأ نافع وعاصم { وَيُعلِّمه } بالياء يعني أن الله يعلمه ، وقرأ الباقون بالنون ، ومعناه ، أن الله يقول ونعلمه { ٱلْكِتَـٰبَ } ، يعني كتب الأنبياء ، [ وهذا ] قول الكلبي . وقال مقاتل : يعني الخط ، والكتابة ، فعلّمه الله بالوحي والإلهام { وَٱلْحِكْــمَةَ } يعني الفقه { وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ } يعني يحفظ التوراة [ عن ] ظهر قلبه وقال بعضهم وهو عالم بالتوراة . وقال بعضهم : ألهمه الله بعدما كبر حتى تعلم في مدة يسيرة . ثم قال : { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِي إِسْرٰءِيلَ } نصب رسولاً لمعنيين : أحدهما : يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل . والثاني ويكلم الناس ورسولاً . أي في حال رسالته إلى بني إسرائيل دليله أنه قال : { أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } . [ وذكر الزجاج : فالمعنى - والله أعلم - ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم ] . ثم أخبر عن أداء رسالته بعدما أوحى إليه في حال الكبر حيث قال لقومه : [ أني ] قد جئتكم بآية [ من ربكم ] . يعني علامة لنبوتي . ثم بيّن العلامة فقال : { أَنِي أَخْلُقُ [ أي أقدر ] لَكُمْ مّنَ ٱلطّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ ٱللَّهِ } . ويقال : إن الناس سألوه عنه على وجه التعنت ، فقالوا له : اخلق لنا خفَّاشاً واجعل فيه روحاً إن كنت صادقاً في مقالتك فأخذ طيناً وجعل منه خفاشاً ، ونفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض فكأن تسوية الطين والنفخ من عيسى - عليه السلام - والخلق من الله عز وجل كما أن النفخ من جبريل عليه السلام والخلق من الله عز وجل . ويقال : إنما طلبوا منه خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ، ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما تبيض سائر الطيور ، ويكون له ضرع يخرج منه ابن ولا يبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة ، قبل أن يسفر جداً ، ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة ، فلما أن رأوا ذلك منه ضحكوا وقالوا : هذا سِحْر . ثم قال تعالى : { وَأُبْرِىء ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ } الأكمه : الذي ولد أعمى ، فقالوا : إن لنا أطباء يفعلون مثل هذا ، فذهبوا إلى جالينوس وأخبروه بذلك ، فقال جالينوس : إذا ولد أعمى لا يبصر بالعلاج ، والأبرص : إذا كان بحال إذا غرزت الإبرة فيه لا يخرج الدم منه لا يبرأ بالعلاج . فرجعوا إلى عيسى عليه السلام وجاءوا بالأكمه والأبرص ، فمسح يده عليهما فأبصر الأعمى وبرأ الأبرص ، فآمن به بعضهم وجَحَد بعضهم ، وقالوا : هذا سِحْر ، ثم قال تعالى : { وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } فأَخْبَروا بذلك " جالينوس " ، فقال : الميت لا يعيش ولا يحيى بالعلاج ، فإن كان هو يحيي الموتى فهو نبي ، وليس بطبيب ، فطلبوا منه أن يحيي الموتى فأحيا أربعة نفر ، أحدهم : عازر ، وكان صديقاً له فبلغه أنه مات فذهب مع أصحابه ، وقد دفن ، وأتى عليه أيام ، فدعا الله فقام بإذن الله تعالى وَوَدَكُه يقطر ، فعاش وَوُلد له . والثاني : ابن العجوز ، مَرّ به وهو يحمل على سرير فدعا الله فقام بإذن الله تعالى ولبس ثيابه ، وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله . والثالث : [ ابنة ] من بنات العاشر ، ماتت ، وأتى عليها ليلة فدعا الله تعالى ، فعاشت بعد ذلك وولد لها . والرابع سام بن نوح ، لأن القوم قالوا له : إنك تحيي من كان موته قريباً فلعلهم لم يموتوا وأصابتهم سكتة ، فأحيي لنا سام بن نوح فقال : دلوني على قبره ، فخرج وخرج القوم معه حتى انتهوا إلى قبره فدعا الله [ تعالى فأحياه وخرج ] من قبره ، قد [ شابت ] رأسه ، فقال له عيسى كيف شابت رأسك ولم يكن في زمانكم شيب ، فقال : يا روح الله ، إنك لما دعوتني ، سمعت صوتاً يقول : أَجِبْ روحَ الله ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن ذلك الهول شابت رأسي ، فسأله عن النَّزْع ، فقال له : يا [ روح ] الله إن [ مرارة ] النزع لم تذهب عن حنجرتي ، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة ، [ ثم قال ] للقوم : صدقوه فإنه نبي [ الله ] ، فآمن به بعضهم [ وكذب به ] بعضهم ، وقالوا : هذا ساحر ، فأرنا آية نعلم أنك صادق فأخبرنا بما نأكل في بيوتنا ، وما نَدَّخر للغد ، فأخبرهم ، فقال : يا فلان أنت أكلت كذا وكذا ، وأنت أكلت كذا وكذا ، وادّخرت كذا وكذا ، فذلك قوله عز وجل { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } ، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر ويقال : إن الله بعث كل نبي إلى قومه وأظهر لهم نوع ما كانوا يعرفونه ، فكان في زمن موسى - عليه السلام - الغالب عليهم السحر ، فبيَّن لهم من جنس ذلك ، ليعرفوا أن ذلك ليس بِسِحْر ، وأنه من الله تعالى . وكان الغالب في زمن عيسى - عليه السلام - علم الطب فجاءهم عيسى بما عجز الأطباء عنه ، فعرف الأطباء أن ذلك ليس من الطب . وكان في زمن نبينا - عليه السلام - الفصاحة والشعر ، فجاءهم بقرآن عجز الفصحاء ، والشعراء عن إتيان مثله ثم قال تعالى : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ } يعني فيما صنع عيسى - عليه السلام - علامة لنبوته { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي مصدقين أنه نبي . قرأ نافع : فيكون طائراً ، وكذلك في سورة المائدة وقرأ الباقون بغير ألف : ومعناهما واحد ، ويقال : الطائر واحد ، والطير جماعة . ثم قال : { وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } ومعناه ، جئتكم مصدقاً ، يعني [ الكتاب ] الذي أنزل على وهو الإنجيل " مُصَدِّقاً " أي موافقاً لما بين يدي من التوراة . { وَلأُِحِلَّ لَكُم } يعني أرخص لكم { بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } مثل الشحوم ، ولحوم الإبل ، ولحم كل ذي ظفر ، وأما الميت ولحم الخنزير فهو حرام [ أبداً ] قوله : { وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } يعني أني لم أحل لكم شيئاً بغير برهان ، فحقيق عليكم اتباعي لأني أتيتكم ببرهان ، [ وأتيتكم ] بتحليل الطيبات { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [ فيما أمركم ونهاكم ] { وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم ، وأنهاكم وأنصح لكم { إِنَّ ٱللَّهَ رَبّي وَرَبُّكُمْ } هذا تكذيب لقول النصارى حيث قالوا : إن الله هو المسيح ، وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، فاعترف عيسى أنه عبد الله ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ رَبّي وَرَبُّكُمْ } أي خالقي وخالقكم ، ورازقي ورازقكم ، { فَٱعْبُدُوهُ } أي وحدوه ولا تشركوا به شيئاً { هَـٰذَا صِرٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ } يعني هذا التوحيد الذي أدعوكم إليه طريق مستقيم لا عوج فيه وهو طريق الجنة .