Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 30-30)
Tafsir: an-Nukat wa-l-ʿuyūn
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله عز وجل : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً } ، في قوله : { وَإِذْ } وجهان : أحدهما : أنه صلة زائدة ، وتقدير الكلام : وقال ربك للملائكة ، وهذا قول أبي عبيدة ، واستشهد بقول الأسود بن يعفر : @ فَإِذَا وَذلِكَ لاَ مَهَاةَ لذِكْرِهِ وَالدَّهْرُ يَعْقُبُ صَالِحاً بِفَسَادِ @@ والوجه الثاني : أن " إذ " كلمة مقصورة ، وليست بصلة زائدة ، وفيها لأهل التأويل قولان : أحدهما : أن الله تعالى لما ذكَّر خلقه نِعَمَهُ عليهم بما خلقه لهم في الأرض ، ذكّرهم نِعَمَهُ على أبيهم آدَمَ { إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } ، وهذا قول المفضَّل . والثاني : أن الله تعالى ذكر ابتداء الخلق فكأنه قال : وابتدأ خلقكم { إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } ، وهذا من المحذوف الذي دَلَّ عليه الكلام ، كما قال النمر بن تَوْلَبَ : @ فَإِنَّ الْمَنَّيةَ مَنْ يَخْشَهَا فَسَوفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا @@ يريد : أينما ذهب . فأما الملائكة فجمع مَلَكٍ ، وهو مأخوذ من الرسالة ، يقال : ألِكِني إليها أي أرسلني إليها ، قال الهذلي : @ ألِكْنِي وَخَيْرُ الرَّسُو لِ أَعْلَمُهُمْ بنواحِي الخَبَرْ @@ والألوك الرِّسالة ، قال لبيد بن ربيعة : @ وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَألْ @@ وإنما سميت الرسالة ألوكاً لأنها تُؤْلك في الفم ، والفرس يألك اللجام ويعلكه ، بمعنى يمضغ الحديد بفمه . والملائكة أفضل الحيوان وأعقل الخلق ، إلا أنهم لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا ينكحون ، ولا يتناسلون ، وهم رسل الله ، لا يعصونه في صغير ولا كبير ، ولهم أجسام لطيفة لا يُرَوْنَ إلا إذا قوَّى الله أبصارنا على رؤيتهم . وقوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً } اختلف في معنى { جاعل } على وجهين : أحدهما : أنه بمعنى خالق . والثاني : بمعنى جاعل ، لأن حقيقة الجَعْل فِعْلُ الشيء على صفةٍ ، وحقيقة الإحداث إيجاد الشيء بعد العدم . و { الأرض } قيل : إنها مكة ، وروى ابن سابط ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دُحِيَت الأرضُ من مكةَ " ولذلك سميت أم القرى ، قال : وقبر نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب بن زمزم ، والركن ، والمقام . وأما " الخليفة " فهو القائم مقام غيره ، من قولهم : خَلَفَ فلانٌ فلاناً ، والخَلَفُ بتحريك اللام من الصالحين ، والخَلْفُ بتسكينها من الطالحين ، وفي التنزيل : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ } [ مريم : 59 ] ، وفي الحديث : " ينقل هذا العِلْمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُهُ " . وفي خلافة آدم وذريته ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه كان في الأرض الجِنُّ ، فأفسدوا فيها ، سفكوا الدماء ، فأُهْلِكوا ، فَجُعِل آدم وذريته بدلهم ، وهذا قول ابن عباس . والثاني : أنه أراد قوماً يَخْلُفُ بعضهم بعضاً من ولد آدم ، الذين يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض ، وهذا قول الحسن البصري . والثالث : أنه أراد : جاعل في الأرض خليفةً يخْلُفُني في الحكم بين خلقي ، وهو آدم ، ومن قام مقامه من ولده ، وهذا قول ابن مسعود . قوله عز وجل : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مِنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ، وهذا جواب من الملائكة حين أخبرهم ، أنه جاعل في الأرض خليفةً ، واختلفوا في جوابهم هذا ، هل هو على طريق الاستفهام أو على طريق الإيجاب ؟ على وجهين : أحدهما : أنهم قالوه استفهماً واستخباراً حين قال لهم : إني جاعلٌ في الأرض خليفة ، فقالوا : يا ربنا أَعْلِمْنَا ، أجاعل أنت في الأرض من يُفْسِدُ فيها ويسفك الدماء ؟ فأجابهم : إني أعلم ما لا تعلمون ، ولم يخبرهم . والثاني : أنه إيجاب ، وإن خرجت الألف مَخْرج الاستفهام ، كما قال جرير : @ أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ @@ وعلى هذا الوجه في جوابهم بذلك قولان : أحدهما : أنهم قالوه ظناً وتوهُّماً ، لأنهم رأوا الجن من قبلهم ، قد أفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فتصوروا أنه إن استخلف استخلف في الأرض مَنْ يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماء . وفي جوابهم بهذا وجهان : أحدهما : أنهم قالوه استعظاماً لفعلهم ، أي كيف يفسدون فيها ، ويسفكون الدماء ، وقد أنعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال : إني أعلم ما لا تعلمون . والثاني : أنهم قالوه تعجباً من استخلافه لهم أي كيف تستخلفهم في الأرض وقد علمت أنهم يفسدون فيها ويسفكون الدماء فقال : { إني أعلم ما لا تعلمون } . وقوله : { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } السفك صب الدم خاصةً دون غَيْرِهِ من الماء والمائع ، والسفح مثله ، إلا أنه مستعمل في كل مائع على وجه التضييع ، ولذلك قالوا في الزنى : إنه سفاح لتضييع مائه فيه . قوله عز وجل : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } . والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على جهة التعظيم ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة : @ أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاجِرِ @@ أي براءةً من علقمة . ولا يجوز أن يسبَّحَ عَيْرُ اللهِ ، وإن كان منزهاً ، لأنه صار علَماً في الدين على أعلى مراتب التعظيم الَّتي لا يستحقها إلا اللهُ تعالى . وفي المراد بقولهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أربعة أقاويل : أحدها : معناه نصلي لك ، وفي التنزيل : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } [ الصافات : 143 ] ، أي من المصلين ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود . والثاني : معناه نعظِّمك ، وهذا قول مجاهد . والثالث : أنه التسبيح المعروف ، وهذا قول المفضل ، واستشهد بقول جرير : @ قَبَّحَ الإلهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا سَبَّحَ الْحَجِيجُ وَكَبَّرُوا إهْلاَلاَ @@ وأما قوله : { وَنُقَدِّسُ لَكَ } فأصل التقديس التطهير ، ومنه قوله تعالى : { الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } أي المطهَّرة ، وقال الشاعر : @ فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بالسَّاقِ وَالنَّسَا كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِ @@ أي المطهَّر . وفي المراد بقولهم : { وَنُقَدِّسُ لَكَ } ثلاثةُ أقاويلَ : أحدها : أنه الصلاة . والثاني : تطهيره من الأدناس . والثالث : التقديس المعروف . وفي قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لاَ تَعْلَمُونَ } ثلاثةُ أقاويل : أحدها : أراد ما أضمره إبليس من الاستكبار والمعصية فيما أُمِرُوا به من السجود لآدم ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود . والثاني : مَنْ في ذرية آدم في الأنبياء والرُّسُلِ الذين يُصْلِحُونَ في الأرض ولا يفسدون ، وهذا قول قتادة . والثالث : ما اختص بعلمه من تدبير المصالح .