Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 110, Ayat: 1-1)
Tafsir: Maʿālim at-tanzīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } , أراد فتح مكة . وكانت قصته - على ما ذكر محمد بن إسحاق وأصحاب الأخبار - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشاً عام الحديبية ، واصطلحوا على وضع الحرب بين الناس عشر سنين , يأمن فيهن الناس , ويكف بعضهم عن بعض ، وأنه من أحب أن يدخل في عَقْد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عَقْد قريش وعهدهم دخل فيه ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش ، ودخلت خُزَاعَةُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان بينهما شرٌّ قديم . ثم إن بني بكر عَدَتْ على خزاعة ، وهم على ماء لهم بأسفل مكة ، يقال له " الوَتِير " ، فخرج نوفل بن معاوية الدؤلي في بني الدّئل من بني بكر حتى بيَّت خزاعة ، وليس كلُّ بكرٍ تابعه , فأصابوا منهم رجلاً وتحاربوا واقتتلوا ، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح , وقاتل معهم من قريش من قاتل مستخفياً بالليل ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم , وكان ممن أعان بني بكر من قريش على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم متنكرين : صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، مع عبيدهم فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر : يا نوفل إنا دخلنا الحرم , إلَهك إلَهك , فقال كلمة عظيمة : إنه لا إله لي اليوم ، يا بني بكر أصيبوا ثأركم فيه . فلما تظاهرت قريش على خزاعة وأصابوا منهم ونقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد بما استحلوا من خزاعة - وكانوا في عقده - خرج عمرو بنُ سالم الخزاعيُّ حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ ، وكان ذلك مما هاج فتح مكَّة ، فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظَهْراني الناس ، فقال : @ لاهم إنِّي ناشِدٌ محمَّدَا حِلْفَ أبينا وأبيهِ الأتْلَدَا إنَ قريشاً أَخلَفُوكَ المَوْعِدَا ونقضُوا مِيثاقَك المؤكَّدا @@ الأبيات كما ذكرنا في سورة التوبة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم " ، ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء ، فقال : " إن هذه السحابةَ لتستهلُّ بِنَصْرِ بني كعبٍ " ، وهم رهط عمرو بن سالم . ثم خرج بُدَيْلُ بن وَرْقَاء في نفرٍ من خزاعة , حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس : كأنكم بأبي سفيان قد جاء لِيَشُدَّ العَقْدَ ويزيد في المدة . ومضى بديل بن ورقاء فلقي أبا سفيان بعُسْفَان ، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لِيَشُدَّ العقد ويزيد في المدة ، وقد رهبوا الذي صنعوا , فلما لقي أبو سفيان بُدَيلاً قال : من أين أقبلت يا بُدَيْل ؟ وظنَّ أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : سرت إلى خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي ، قال : أوَما أتيت محمداً ؟ قال : لا ، فلما راح بُدَيْل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان جاء المدينة لقد علف ناقته بها النَّوى , فعمد إلى مَبْرك ناقته فأخذ من بعرها ففتَّه فرأى فيه النَّوى ، فقال : أحلف بالله لقد جاء بُدَيْلٌ محمداً . ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخل على ابنته أمِّ حبيبةَ بنتِ أبي سفيان ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه ، فقال : يا بنية أرغبت بي عن هذا الفراش أم أرغبت به عني ؟ قالت : بلى هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت رجل مشرك نجس ، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : والله لقد أصابك يا بُنَيَّة بعدي شيء . ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئاً غير أنه قال : نقض أهل مكة العهد . ثم ذهب إلى أبي بكر فكلَّمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما أنا بفاعل , ثم أتى عمر بن الخطاب فكلَّمه فقال : أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! فوالله لو لم أجد إلا الذّرَّ لجاهدتُكم به , ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه , وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها الحسن بن علي رضي الله عنهما , غلامٌ يَدِبُّ بين يديها ، فقال : يا علي إنك أمسُّ القومِ بي رَحِماً وأقربُهم مني قرابةً ، وقد جئت في حاجةٍ فلا أرجعنَّ كما جئتُ خائباً ، اشفع لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ويحك يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمرٍ ما نستطيع أن نكلِّمه فيه , فالتفت إلى فاطمة فقال : يا بنت محمد , هل لك أن تأمري بُنَيَّكِ هذا فيجير بين الناس فيكون سيِّدَ العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت : والله ما بلغ بُنَيّ أن يجير بين الناس ، وما يجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد ، فقال : يا أبا الحسن - إني أرى الأمور قد اشتدَّت عليّ فانصحني ، قال : والله ما أعلم شيئاً يغني عنك ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأَجِرْ بين الناس ، ثم الحق بأرضك ، قال : أوَترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟ قال : لا والله ، ما أظن , ولكن لا أجد لك غير ذلك . فقام أبو سفيان في المسجد فقال : يا أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره فانطلق فلما قدم على قريش قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته والله ما رد عليّ شيئاً ثم جئت ابن أبي قحافة ، فلم أجد عنده خيراً ، فجئت ابن الخطاب فوجدته أَعْدَى القوم ، ثم أتيت عليَّ بن أبي طالب فوجدته ألين القوم ، وقد أشار عليّ بشيءٍ صنعتهُ , فوالله ما أدري هل يغنيني شيئاً أم لا ؟ قالوا : وماذا أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس ففعلت ، قالوا : فهل أجاز ذلك محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، قالوا : والله إن زاد عليٌّ على أن لعب بك , فلا يغني عنّا ما قلت ، قال : لا والله ما وجدت غير ذلك . قال : وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجَهَازِ ، وأمر أهله أن يجهِّزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها وهي تصلح بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أي بُنيّة أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تجهِّزوه ؟ قالت : نعم فتجهَّزْ ، قال : فأين تَرَيْنَهُ يريدُ ؟ قالت : ما أدري . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجد والتهيؤ ، وقال : اللهمَّ خُذِ العيونَ والأخبار عن قرش حتى نَبْغَتَها في بلادها , فتجهز الناس . وكتب حاطِبُ بنُ أبي بَلْتَعَةَ كتاباً إلى قريش - وفيه قصة ذكرناها في سورة الممتحنة - . ثم استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا رُهْم كلثومَ بنَ حُصَيْنٍ بن خلف الغفاري ، وخرج عامداً إلى مكة لعشر مَضَيْنَ من رمضان سنة ثمانٍ ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكديد - ما بين عُسْفَان وأمَجّ - أفطر . ثم مضى حتى نزل بمرِّ الظَّهْران , في عشرة آلاف من المسلمين ، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار عنه أحد ، فلما نزل بمر الظَّهران , وقد عميت الأخبار عن قرش ، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدرون ما هو فاعل ، فخرج في تلك الليلة : أبو سُفْيان بن حَرْب , وحكيمُ بن حِزَامٍ , وبُدَيْلُ بن ورقاء , يتحسسون الأخبار هل يجدون خبراً ؟ وقد قال العباس بن عبد المطلب ليلتئذٍ : وَاْصباحَ قريش ، والله لئن بغتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلادها فدخل مكة عنوة إنها لهلاك قريش إلى آخر الدهر . فخرج العباس على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطّاباً أو صاحبَ لبنٍ أو داخلاً يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتونه فيستأمنونه قبل أن يدخلها عليهم عنوة . قال العباس فخرجت وإني - والله - لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذْ سمعتُ صوتَ أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء ، وقد خرجوا يتحسسون الخبر ، فسمعت أبا سفيان يقول : والله ما رأيت كالليلة قطُّ نيراناً ، وقال بُدَيل : هذه والله نيرانُ خزاعةَ حَمَشَتْها الحرب ، فقال أبو سفيان خزاعة ألأمُ من ذلك وأذلُّ ، فعرفت صوتَه فقلت : يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي فقال : يا أبو الفضل ، فقلت : نعم ، فقال : مالَك فداك أبي وأمي ؟ قلت : ويحك يا أبا سفيان هذا , والله ، رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بما لا قِبَلَ لكم به , بعشرة آلاف من المسلمين ، قال : وما الحيلة ؟ قلت : والله لئن ظفر بك ليَضْرِبَنَّ عنقك , فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه ، فردفني , ورجع صاحباه فخرجت أركض به بغلةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، كلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إليّ وقالوا : هذا عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم , حتى مررت بنار عمر بن الخطاب ، فقال : من هذا ؟ وقام إليّ فلما رأى أبا سفيان على عَجُزِ الدابة , قال : أبو سفيان عدو الله ! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عَقْد ، ثم اشتدَّ نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فركضتُ البغلة وسبقته بما تسبق الدابةُ البطيئةُ الرجلَ البطيء ، فاقتحمت عن البغلة فدخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر , فقال : " يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد ، فدعني فلأضرب عنقه ، فقلت : يا رسول الله إني قد أَجَرتُه ، ثم جلست إلى رسول الله فأخذت برأسه وقلت : والله لا يناجيه الليلة أحدٌ دوني , فلما أكثر فيه عمر رضي الله عنه قلت : مهلاً يا عمر , فوالله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف ، ولو كان من بني عدِّي بن كعب ما قلتَ هذا . قال : مهلاً يا عباس فوالله لإِسلامُكَ يوم أسلمت كان أحبَّ إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ، وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اذهب به يا عباس إلى رَحْلِك , فإذا أصبحتَ فأْتِني به " ، قال : فذهبت إلى رَحْلي فبات عندي , فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه قال : " ويحك يا أبا سفيان ألم يَأْنِ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ " قال : بأبي أنت وأمي , ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! والله لقد ظننتُ أن لو كان مع الله إلهٌ غيره فقد أغنى عني شيئاً بعدُ ، قال : ويحك يا أبا سفيان ألم يَأْنِ لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! أمّا هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً ، قال العباس : قلت له : ويحك ! أَسْلِمْ واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، قبل أن يضرب عنقك ، قال فشهد شهادةَ الحقِّ وأسلم , قال العباس : قلت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر , فاجعلْ له شيئاً ، قال : نعم , مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمِنٌ ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن , ومن دخل المسجد فهو آمن , فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عباسُ احبِسْهُ بمَضِيق الوادي عند خَطْم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها , قال : فخرجت به حتى حبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم " . قال : ومرَّتْ به القبائلُ على راياتها ، كلَّما مرتْ قبيلة قال : من هؤلاء يا عباس ؟ قال : أقول : سُلَيْم ، قال يقول : مالي ولِسُلَيْمٍ ، ثم تمر القبيلة فيقول : من هؤلاء ؟ فأقول : مُزَيْنَةُ ، فيقول : مالي ولمزينة ، حتى نفذت القبائل لا تمرّ قبيلة إلا سألني عنها ، فإذا أخبرته يقول : مالي ولبني فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء , كتيبة رسول الله , فيها المهاجرون والأنصار ، لا يُرَى منهم إلا الحَدَق من الحديد ، قال : سبحان الله من هؤلاء يا عباس ؟ قلت : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار ، فقال : والله ما لأحدٍ بهؤلاء من قِبَل ولا طاقة ، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً ، فقال : ويحك ! إنها النبوة ، قال : نعم إذاً . فقلت : الْحَقِ الآن بقومك فحذِّرهم , فخرج سريعاً حتى أتى مكة فصرخ في المسجد بأعلى صوته : يا معشر قريش , هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به ، قالوا : فمه ؟ قال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، قالوا : ويحك وما تغني عنّا دارك ؟ قال : ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد . قال : وجاء حَكِيمُ بن حزام وبُدَيْل بن ورقاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرّ الظهران فأسلما وبايعاه ، فلما بايعاه بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه إلى قريش يَدْعُوَانهم إلى الإسلام . " ولما خرج حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء من عند النبي صلى الله عليه وسلم عامدين إلى مكة بعث في إثرهما الزبير وأعطاه رايته وأَمَّره على خيل المهاجرين والأنصار ، وأمره أن يركز رايته بأعلى مكة بالحُجُون ، وقال : لا تبرح حيث أمرتك أن تركز رايتي حتى آتِيَك ومن ثَمَّ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وضربت هناك قبته . وأمر خالد بن الوليد فيمن أسلم من قضاعة وبني سليم أن يدخل من أسفل مكة وبها بنو بكر فد استنفرتهم قريش وبنو الحارث بن عبد مناف ومن كان من الأحابيش , أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة ، وإن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ، وكانوا قد جمعوا أناساً بالخَنْدَمة ليقاتلوا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد والزبير حين بعثهما : لا تقاتلا إلا من قاتلكم وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كُدَي ، فقال سعد حين توجه داخلاً : اليوم يوم المَلْحَمة , اليوم تُسْتَحَلُّ الحرمةُ ، فسمعها رجل من المهاجرين فقال : يا رسول الله , اسمعْ ما قال سعد بن عبادة ، وما نأمن أن يكون له في قريش صولة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : أَدرِكْه فخذِ الراية منه ، فكن أنت الذي تدخل بها فلم يكن بأعلى مكة مِنْ قِبَل الزبير قتالٌ ، وأما خالد بن الوليد فقدم على قريش وبني بكر والأحابيش بأسفل مكة ، فقاتلهم فهزمهم الله ، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك " . وقتِل من المشركين قريبٌ من اثني عشر أو ثلاثة عشر ، ولم يُقتل من المسلمين إلا رجل من جُهَيْنَة يقال له : سَلَمة بن المَيْلاء , من خيل خالد بن الوليد ، ورجلان يقال لهما كُرْزُ بن جابرٍ وخُنَيْس بن خالد , كانا في خيل خالد بن الوليد ، فشذّا عنه وسلكا طريقاً غير طريقه ، فقتلا جميعاً . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا أحداً إلا من قاتلهم ، إلا أنه قد عهد في نَفَرٍ سمَّاهم أمر بقتلهم ، وإنْ وُجدوا تحت أستار الكعبة . منهم : عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وإنما أمر بقتله لأنه كان قد أسلم فارتدَّ مشركاً ، ففرّ إلى عثمان , وكان أخاه من الرضاعة ، فغيَّبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن أهل مكة ، فاستأمن له . وعبد الله بن خَطَل , كان رجلاً من بني تميم بن غالب ، وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلماً فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقاً ، وكان له مولى يخدمه وكان مسلماً ، فنزل منزلاً وأمر المولى أن يذبح له تَيْساً ويصنع له طعاماً ، ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركاً ، وكانت له قيْنَتَان تغنّيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بقتلهما معه . والحُوَيْرُث بن نُقَيْذ بن وهب , كان ممن يؤذيه بمكة . ومِقْيَس بن صبابة ، وإنما أمر بقتله , لقتله الأنصاريَ الذي قتل أخاه خطأً ورجوعه إلى قريش مرتداً . وسارة ؛ مولاة كانت لبعض بني المطلب كانت ممن يؤذيه بمكة . وعكرمة بن أبي جهل ، فأما عكرمة فهرب إلى اليمن , وأسلمت امرأتُه أمُّ حكيم بنت الحارث ابن هشام , فاستأمنَتْ له رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأمّنه ، فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم . وأما عبد الله بن خطل , فقتله سعدُ بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي , اشتركا في دمه ، وأما مقيس بن صبابة , فقتله تُمَيْلَةُ بن عبد الله , رجل من قومه , وأما قَيْنَتَا ابن خطل ؛ فقُتِلتْ إحداهما وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمنها ، وأما سارة , فتغيبت حتى استُؤمن لها فأمّنها ، فعاشت حتى أوطأها رجلٌ من الناس فرساً له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها , وأما الحويرث بن نقيد ، فقتله علي بن أبي طالب . فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة " وقف قائماً على باب الكعبة وقال : لا إله إلا الله وحده ، صدقَ وعدَه ، ونصرَ عبدَه ، وهزمَ الأحزابَ وحده ، ألا إن كل مَأْثُرَةٍ أو دمٍ أو مالٍ في الجاهلية يدّعى فهو تحت قدميَّ هاتين ، إلاّ سَدَانة البيت وسقاية الحاج ، يا معشر قريش , إن الله قد أذهب عنكم نَخْوَةَ الجاهلية وتعظُّمها بالآباء ، الناسُ من آدم وآدم خُلق من تراب ، ثم تلا : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } [ الحجرات : 13 ] الآية ، يا أهل مكة , ماذا ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيراً , أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم , قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء , فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة ، فلذلك سُمّي أهل مكة الطلقاء " . ثم اجتمع الناس للبيعة ؛ فجلس لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس ، فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا ، فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء . قال عروة بن الزبير : خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن , فقال عمير بن وهب الجمحي : يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيّدُ قومي ، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر ، فأَمِّنْهُ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو آمن ، قال : يا رسول الله أعطِني شيئاً يعرف به أمانك ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة ، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة ، وهو يريد أن يركب البحر ، فقال : يا صفوان فداك أبي وأمي أذكّركَ الله في نفسك أن تهلكها ، فهذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به ، فقال : ويلك اغْرُبْ عني فلا تكلِّمني ، قال : أي صفوان فداك أبي وأمي , أفضلُ الناس وأبُر الناس , وأحلمُ الناس , وخير الناس , ابن عمِّك عِزُّه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك ، قال : إني أخافه على نفسي ، قال : هو أحلم من ذلك وأكرم ، فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك أَمَّنْتَنِي ؟ قال : صدق ، قال فاجعلني في أمري بالخيار شهرين ، قال أنت فيه بالخيار أربعة أشهر . قال ابن إسحاق : وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف , وكان فتح مكة لعشر ليالٍ بَقِينَ من رمضان سنة ثمان ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة . ثم خرج إلى هوازن وثقيف ، وقد نزلوا حنيناً : أخبرنا عبد الواحد المليحي , أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي , أخبرنا محمد بن يوسف , حدثنا محمد بن إسماعيل , حدثنا أبو نعيم , حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة , أن خزاعة قتلوا رجلاً … وقال محمد بن إسماعيل : قال عبد الله بن رجاء : حدثنا حرب عن يحيى , حدثنا أبو سلمة " حدثنا أبو هريرة : " أنه عامَ فتحِ مكةَ قتلتْ خزاعةُ رجلاً من بني لَيْث بقتيلٍ لهم في الجاهلية ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله حبس عن مكة الفيل وسلَّط عليهم رسوله والمؤمنين ، ألا وإنها لم تَحِلَّ لأحد قبلي , ولا تحلُّ لأحدٍ من بعدي ، ألا وإنها أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهار ، ألا وإنها ساعتي هذه , حرام لا يُخْتَلى شوكُها ولا يُعْضَدُ شجُرها ، ولا يَلتقِط ساقطتَها إلا منشدٌ ، ومَنْ قُتِل له قتيلٌ فهو بخير النظر إما أن يؤدَّى وإما أن يقاد ، فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاهٍ فقال : اكتب لي يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتبوا لأبي شاه , ثم قام رجل من قريش فقال : يا رسول الله إلا الإِذْخِرَ فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إلا الإذخر " . أخبرنا أبو الحسن السرخسي , أخبرنا زاهر بن أحمد , أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي , أخبرنا أبو مصعب عن مالك , عن أبي النضر - مولى عمر بن عبيد الله - أن أبا مرّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول : " ذهبتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح , فوجدتُه يغتسل , وفاطمة ابنته تستره بثوبٍ ، قالت : فسلَّمتُ ، فقال : من هذه ؟ فقلت : أنا أم هانىء بنت أبي طالب ، قال : مرحباً بأمِّ هانئ , فلما فرغ من غسله قام فصلَّى ثماني ركعات مُلْتَحِفاً في ثوبٍ واحد ، ثم انصرفَ فقلت له : يا رسول الله , زعم ابن أمي , عليُّ بن أبي طالب , أنه قاتلٌ رجلاً أَجَرْتُه ، فلان بن هبيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أجَرْنَا من أجرتِ يا أم هانيءٍ , وذلك ضحىً " . قوله عزّ وجلّ : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ } إذا جاءك نصر الله يا محمد على من عاداك وهم قريش ، { وَٱلْفَتْحُ } فتح مكة .