Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 36-37)
Tafsir: al-Muḥarrar al-waǧīz fī tafsīr al-kitāb al-ʿazīz
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرأ أبو البرهسم : " وأَوحى " بفتح الهمزة على إسناد الفعل إلى الله عز وجل ، " إنه " بكسر الهمزة ، وقيل لنوح هذا بعد أن طال عليه كفر القرن بعد القرن به ، وكان يأتيه الرجل بابنه فيقول : يا بني لا تصدق هذا الشيخ فهكذا عهده أبي وجدي كذاباً مجنوناً ؛ رواه عبيد بن عمير وغيره ، وهذه الآية هي التي أيأست نوحاً عليه السلام من قومه ، فروي أنه لما أوحي إليه ذلك دعا فقال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] . و { تبتئس } من البؤس تفتعل ، ومعناه : لا تحزن نفسك ومنه قول الشاعر - وهو لبيد بن ربيعة - : [ مجزوء الكامل ] @ في مأتم كنعاج حا رة تبتئس بما لقينا @@ حارة : موضع . قال القاضي أبو محمد : وفي أمر نوح عليه السلام تدافع في ظاهر الآيات والأحاديث ينبغي أن نخلص القول فيه ، وذلك أن ظاهر أمره أنه عليه السلام دعا على الكافرين عامة من جميع الأمم ولم يخص قومه دون غيرهم ، وتظاهرت الروايات وكتب التفاسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض وعم الماء جميعها ، قال ابن عباس وغيره ، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان ، ولولا خوف إفناء أجناسها من جميع الأرض ، ما كان ذلك ، فلا يتفق لنا أن نقول إنه لم يكن في الأرض غير قوم نوح في ذلك الوقت ، لأنه يجب أن يكون نوح بعث إلى جميع الناس ، وقد صح أن هذه الفضيلة خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله : " أوتيت خمساً لم يؤتهن أحد قبلي " فلا بد أن نقرر كثيراً من الأمم كان في ذلك الوقت ، وإذا كان ذلك ، فكيف استحقوا العقوبة في جمعهم ونوح لم يبعث إلى كلهم ؟ وكنا نقدر هنا أن الله تعالى بعث إليهم رسلاً قبل نوح فكفروا بهم واستمر كفرهم ، لولا أنا نجد الحديث ينطق بأن نوحاً هو أول الرسل إلى أهل الأرض ؛ ولا يمكن أيضاً أن نقول : عذبوا دون رسالة ونحن نجد القرآن : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] . والتأويل المخلص من هذا كله هو أن نقول : إن نوحاً عليه السلام أول رسول بعث إلى كفار من أهل الأرض ليصلح الخلق ويبالغ في التبليغ ويحتمل المشقة من الناس - بحسب ما ثبت في الحديث - ثم نقول : إنه بعث إلى قومه خاصة بالتبليغ والدعاء والتنبيه ، وبقي أمم في الأرض لم يكلف القول لهم ، فتصح الخاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم نقول : إن الأمم التي لم يبعث ليخاطبها إذا كانت بحال كفر وعبادة أوثان ، وكانت الأدلة على الله تعالى منصوبة معرضة للنظر ، وكانوا متمكنين من النظر من جهة إدراكهم ، وكان الشرع - ببعث نوح - موجوداً مستقراً . فقد وجب عليهم النظر ، وصاروا بتركه بحال من يجب تعذيبه : فإن هذا رسول مبعوث وإن كان لم يبعث إليهم معينين ألا ترى أن لفظ الآية إنما هو { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ، أي حتى نوجده ، لأن بعثة الأنبياء إلى قوم مخصوصين إنما هو في معنى القتال والشدة ، وأما من جهة بذل النصيحة وقبول من آمن فالناس أجمع في ذلك سواء ؛ ونوح قد لبث ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو إلى الله ، فغير ممكن أن لم تبلغ نبوءته للقريب والبعيد ، ويجيء تعذيب الكل بالغرق بعد بعثة رسول وهو نوح صلى الله عليه وسلم . ولا يعارضنا مع هذه التأويلات شيء من الحديث ولا الآيات ، والله الموفق للصواب . وقوله تعالى : { واصنع الفلك } عطف على قوله : { فلا تبتئس } و { الفلك } : السفينة ، وجمعها أيضاً فلك ، وليس هو لفظاً للواحد والجمع وإنما هو فعل وجمع على فعل ومن حيث جاز أن يجمع فعل على فعل كأسد وأسد ، جاز أن يجمع فعل على فعل ، فظاهر لفظ الجمع فيها كظاهر لفظ واحد وليس به ، تدل على ذلك درجة التثنية التي بينهما لأنك تقول : فلك وفلكان وفلك ، فالحركة في الجمع نظير ضمة الصاد إذا ناديت " يا منصو " ، تريد " يا منصور " ، فرخمت على لغة من يقول : يا حار بالضم ، فإن ضمة الصاد هي في اللفظ كضمة الأصل ، وليست بها في الحكم . وقوله : { بأعيننا } يمكن - فيما يتأول - أن يريد به بمرأى منا وتحت إدراك ، فتكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ ، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال تعالى : { فنعم القادرون } [ المرسلات : 23 ] فرجع معنى الأعين في هذه وفي غيرها إلى معنى عين في قوله : { لتصنع على عيني } [ طه : 39 ] ، وذلك كله عبارة عن الإدراك وإحاطته بالمدركات ، وهو تعالى منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره . ويحتمل قوله { بأعيننا } أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على مواضع حفظك ومعونتك ، فيكون الجمع على هذا للتكثير . وقرأ طلحة بن مصرف " بأعينا " مدغماً . وقوله { ووحينا } معناه : وتعليمنا لك صورة العمل بالوحي ، وروي في ذلك أن نوحاً عليه السلام لما جهل كيفية صنع السفينة أوحى الله إليه : أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطير ، إلى غير ذلك مما عمله نوح من عملها ، فقد روي أيضاً أنها كانت مربعة الشكل طويلة في السماء ، ضيقة الأعلى ، وأن الغرض منها إنما كان الحفظ لا سرعة الجري ، والحديث الذي تضمن أنها كجؤجؤ الطائر أصح ومعناه أظهر : لأنها لو كانت مربعة لم تكن فلكاً بل كانت وعاء فقط ، وقد وصفها الله تعالى بالجري في البحر ، وفي الحديث : كان راز سفينة نوح عليه السلام جبريل عليه السلام والراز : القيم بعمل السفن . ومن فسر قوله { ووحينا } أي بأمرنا لك ، فذلك ضعيف لأن قوله : { واصنع الفلك } مغن عن ذلك . و { الذين ظلموا } هم قومه الذين أعرضوا عن الهداية حتى عمتهم النقمة ، قال ابن جريج : وهذه الآية تقدم الله فيها إلى نوح أن لا يشفع فيهم .