Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 142-143)

Tafsir: al-Muḥarrar al-waǧīz fī tafsīr al-kitāb al-ʿazīz

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أعلم الله تعالى في هذه الآية أنهم سيقولون في شأن تحول المؤمنين من الشام إلى الكعبة : { ما ولاهم } ؟ و { السفهاء } هم الخفاف الأحلام والعقول ، والسفه الخفة والهلهلة ، ثوب سفيه أي غير متقن النسج ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ] @ مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعالَيَها مرُّ الرياحِ النواسمِ @@ أي استخفتها ، وخص بقوله { من الناس } ، لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات ، والمراد بـ { السفهاء } هنا جميع من قال { ما ولاهم } ، وقالها فِرَقٌ . واختلف في تعيينهم ، فقال ابن عباس : " قالها الأحبار منهم " ، وذلك أنهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ما ولاك عن قبلتنا ؟ ارجع إليها ونؤمن بك ، يريدون فتنته ، وقال السدي : قالها بعض اليهود والمنافقون استهزاء ، وذلك أنهم قالوا : اشتاق الرجل إلى وطنه ، وقالت طائفة : قالها كفار قريش ، لأنهم قالوا : ما ولاه عن قبلته ؟ ما رجع إلينا إلا لعلمه أنَّا على الحق وسيرجع إلى ديننا كله ، و { ولاهم } معناه صرفهم ، والقبلة فعلة هيئة المقابل للشيء ، فهي كالقعدة والإزرة ، وجعل المستقبل موضع الماضي في قوله { سيقول } دلالة على استدامة ذلك ، وأنهم يستمرون على ذلك القول ، ونص ابن عباس وغيره أن الآية نزلت بعد قولهم . وقوله تعالى : { قل لله المشرق والمغرب } إقامة حجة ، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما ، ويهدي من يشاء ، إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم ، والصراط : الطريق . واختلف العلماء هل كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى في القرآن أو بوحي غير متلو ؟ ، فذكر ابن فورك عن ابن عباس قال : أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وقال الجمهور : بل كان أمر قبلة بيت المقدس بوحي غير متلو ، وقال الربيع : خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في النواحي فاختار بيت المقدس ، ليستألف بها أهل الكتاب ، ومن قال كان بوحي غير متلو قال : كان ذلك ليختبر الله تعالى من آمن من العرب ، لأنهم كانوا يألفون الكعبة وينافرون بيت المقدس وغيره . واختلف كم صلى إلى بيت المقدس ، ففي البخاري : ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ، وروي عن أنس بن مالك : تسعة أو عشرة أشهر ، وروي عن غيره : ثلاثة عشرة شهراً ، وحكى مكي عن إبراهيم بن إسحاق أنه قال : أول أمر الصلاة أنها فرضت بمكة ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره ، ثم كان الإسراء ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الآخر ، قبل الهجرة بسنة ، ففرضت الخمس ، وأمَّ فيها جبريل عليه السلام ، وكانت أول صلاة الظهر ، وتوجه بالنبي صلى الله عليهما وسلم إلى بيت المقدس ، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ربيع الأول ، وتمادى إلى بيت المقدس إلى رجب من سنة اثنتين ، وقيل إلى جمادى ، وقيل إلى نصف شعبان . وقوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } ، الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله { يهدي من يشاء } ، أي كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته كذلك جعلناكم أمة وسطاً ، و { أمة } مفعول ثان ، و { وسطاً } نعت ، والأمة القرون من الناس ، و { وسطاً } معناه عدولاً ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتظاهرت به عبارة المفسرين ، والوسط الخيار والأعلى من الشيء ، كما تقول وسط القوم ، وواسطة القلادة أنفس حجر فيها ، والأمير وسط الجيش ، وكقوله تعالى { قال أوسطهم } [ القلم : 28 ] ، والوسط بإسكان السين ظرف مبني على الفتح ، وقد جاء متمكناً في بعض الروايات في بيت الفرزدق : @ فجاءت بملجوم كأن جبينه صلاءة ورس وسطُها قد تفلقا @@ برفع الطاء والضمير عائد على الصلاءة ، وروي بفتح الطاء والضمير عائد على الجاثية ، فإذا قلت حفرت وسْطَ الدار أو وَسَطَ الدار فالمعنى مختلف . قال بعض العلماء : أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تغل في الدين كما فعلت اليهود ، ولا افترت كالنصارى ، فهي متوسطة ، فهي أعلاها وخيرها من هذه الجهة ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " خير الأمور أوساطها " أي خيارها ، وقد يكون العلو والخير في الشيء لما بأنه أنفس جنسه ، وأما أن يكون بين الإفراط والتقصير فهو خيار من هذه الجهة و { شهداء } جمع شاهد في هذا الموضع . واختلف المفسرون في المراد بـ { الناس } في هذا الموضع ، فقالت فرقة : هم جميع الجنس ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد يوم القيامة للأنبياء على أممهم بالتبليغ ، وذلك أن نوحاً تناكره أمته في التبليغ ، فتقول له أمة محمد نحن نشهد لك ، فيشهدون ، فيقول الله لهم : كيف شهدتم على ما لم تحضروا ؟ ، فيقولون : أي ربنا جاءنا رسولك ونزل إلينا كتابك فنحن نشهد بما عهدت إلينا وأعلمتنا به ، فيقول الله تعالى : صدقتم ، وروي في هذا المعنى حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وروي عنه أن أمته تشهد لكل نبي ناكره قومه ، وقال مجاهد : معنى الآية تشهدون لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ الناس في مدته من اليهود والنصارى والمجوس . وقالت طائفة : معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرت به جنازة فأثني عليها بالخير ، فقال : وجبت ، ثم مر بأخرى ، فأثني عليها بشرّ ، فقال : وجبت ، ويعني الجنة والنار ، فسئل عن ذلك ، فقال : " أنتم شهداء الله في الأرض " ، وروي في بعض الطرق أنه قرأ { لتكونوا شهداء على الناس } . { ويكون الرسول عليكم شهيداً } قيل : معناه بأعمالكم يوم القيامة ، وقيل : عليكم بمعنى لكم أي يشهد لكم بالإيمان ، وقيل : أي يشهد عليكم بالتبليغ إليكم . وقوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } الآية ، قال قتادة والسدي وعطاء وغيرهم : القبلة هنا بيت المقدس : والمعنى لم نجعلها حين أمرناك بها أولاً إلا فتنة لنعلم من يتبعك من العرب الذين إنما يألفون مسجد مكة ، أو من اليهود على ما قال الضحاك من أن الأحبار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء ، فإن صليت إليه اتبعناك ، فأمره الله بالصلاة إليه امتحاناً لهم فلم يؤمنوا ، وقال بعض من ذكر : القبلة بيت المقدس ، والمعنى : وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها وتحويلها ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقال ابن عباس : القبلة في الآية الكعبة ، وكنت بمعنى أنت كقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] بمعنى أنتم ، أي وما جعلناها وصرفناك إليها إلا فتنة ، وروي في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حول إلى الكعبة أكثر في ذلك اليهود والمنافقون وارتاب بعض المؤمنين حتى نزلت الآية ، وقال ابن جريج : بلغني أن ناساً ممن كان أسلم رجعوا عن الإسلام ، ومعنى قوله تعالى : { لنعلم } أي ليعلم رسولي والمؤمنون به ، وجاء الإسناد بنون العظمة إذ هم حزبه وخالصته ، وهذا شائع في كلام العرب كما تقول : فتح عمر العراق وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك جنده وأتباعه ، فهذا وجه التجوز إذا ورد علم الله تعالى بلفظ استقبال لأنه قديم لم يزل ، ووجه آخر : وهو أن الله تعالى قد علم في الأزل من يتبع الرسول واستمر العلم حتى وقع حدوثهم واستمر في حين الاتباع والانقلاب ويستمر بعد ذلك ، والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم ، فأراد بقوله { لنعلم } ذكر علمه وقت مواقعتهم الطاعة والمعصية ، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب ، فليس معنى { لنعلم } لنبتدىء العلم وإنما المعنى لنعلم ذلك موجوداً ، وحكى ابن فورك أن معنى { لنعلم } لنثيب ، فالمعنى لنعلمهم في حال استحقوا فيها الثواب ، وعلق العلم بأفعالهم لتقوى الحجة ويقع التثبت فيما علمه لا مدافعة لهم فيه ، وحكى ابن فورك أيضاً أن معنى { لنعلم } لنميز ، وذكره الطبري عن ابن عباس ، وحكى الطبري أيضاً أن معنى { لنعلم } لنرى . قال القاضي أبو محمد : وهذا كله متقارب ، والقاعدة نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن ، وقرأ الزهري { ليعلم } على ما لم يسم فاعله . و { ينقلب على عقبيه } عبارة عن المرتد الراجع عما كان فيه من إيمان أو شغل أو غير ذلك والرجوع على العقب أسوأ حالات الراجع في مشيه عن وجهته ، فلذلك شبه المرتد في الدين به ، وظاهر التشبيه أن بالمتقهقر ، وهي مشية الحيوان الفازع من شيء قد قرب منه ، ويحتمل أن يكون هذا التشبيه بالذي رد ظهره ومشى أدراجه فإنه عند انقلابه إنما ينقلب على عقبيه . وقوله تعالى : { وإن كانت لكبيرة } الآية ، الضمير في { كانت } راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس أو إلى التحويلة إلى الكعبة حسب ما ذكرناه من الاختلاف في القبلة ، وقال ابن زيد : " هو راجع إلى الصلاة التي صليت إلى بيت المقدس " ، وشهد الله تعالى في هذه الآية للمتبعين بالهداية ، و { كبيرة } هنا معناه شاقة صعبة تكبر في الصدور ، و { إن } هي المخففة من الثقيلة ، ولذلك لزمتها اللام لتزيل اللبس الذي بينها وبين النافية ، وإذا ظهر التثقيل في { إن } فلربما لزمت اللام وربما لم تلزم ، وقال الفراء : { إن } بمعنى ما واللام بمنزلة إلا . ولما حولت القبلة كان من قول اليهود : يا محمد إن كانت الأولى حقاً فأنت الآن على باطل ، وإن كانت هذه حقاً فكنت في الأول على ضلال . فوجست نفوس بعض المؤمنين وأشفقوا على من مات قبل التحويل على صلاتهم السالفة : فنزلت { وما كان الله ليضيع إيمانكم } ، وخاطب الحاضرين والمراد من حضر ومن مات ، لأن الحاضر يغلب ، كما تقول العرب : ألم نقتلكم في موطن كذا ؟ ، ومن خوطب لم يقتل ولكنه غلب لحضوره ، وقرأ الضحاك { ليضَيّع } بفتح الضاد وشد الياء ، وقال ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي والربيع وغيرهم : الإيمان هنا الصلاة . وسمى الصلاة إيماناً لما كانت صادرة عن الإيمان والتصديق في وقت بيت المقدس وفي وقت التحويل ، ولما كان الإيمان قطباً عليه تدور الأعمال وكان ثابتاً في حال التوجه هنا وهنا ذكره ، إذ هو الأصل الذي به يرجع في الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهي ، ولئلا تندرج في اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس فذكر المعنى الذي هو ملاك الأمر ، وأيضاً فسميت إيماناً إذ هي من شعب الإيمان ، والرأفة أعلى منازل الرحمة ، وقرأ قوم { لرَؤُف } على وزن فَعُل ، ومنه قول الوليد بن عقبة : [ الطالبان ] : [ الوافر ] @ وشرُّ الطالِبَيْنِ فلا تكنْهُ بقاتِلِ عمِّهِ الرَّؤُفِ الرحيمِ @@ تقول العرب : رؤف ورؤوف ورئف كحذر ورأف وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع { لرووف } بغير همز ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى ساكنة كانت أو متحركة .