Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 209-212)
Tafsir: al-Muḥarrar al-waǧīz fī tafsīr al-kitāb al-ʿazīz
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرأ جمهور الناس " زلَلتم " بفتح اللام ، وقرأ أبو السمال " زلِلتم " بكسرها ، وأصل الزلل في القدم ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك ، والمعنى ضللتم وعجتم عن الحق ، و { البينات } محمد وآياته ومعجزاته إذا كان الخطاب أولاً لجماعة المؤمنين ، وإذا كان الخطاب لأهل الكتابين ، فالبينات ما ورد في شرائعهم من الإعلام بمحمد صلى الله عليه وسلم والتعريف به ، و { عزيز } صفة مقتضية أنه قادر عليكم لا تعجزونه ، ولا تمتنعون منه ، و { حكيم } أي محكم فيما يعاقبكم به لزللكم . وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن ، فأقرأه الذي كان يعلمه : فاعلموا أن الله غفور رحيم ، فقال كعب : إني لأستنكر أن يكون هكذا ، ومر بهما رجل ، فقال كعب : كيف تقرأ هذه الآية ؟ فقرأ الرجل : { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } ، فقال كعب : هكذا ينبغي . وقوله تعالى : { هل ينظرون } الآية ، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، و { هل } من حروف الابتداء كأما ، و { ينظرون } معناه ينتظرون ، والمراد هؤلاء الذين يزلون ، والظلل جمع ظلة وهي ما أظل من فوق ، وقرأ قتادة والضحاك " في ظلال " ، وكذلك روى هارون بن حاتم عن أبي بكر عن عاصم هنا ، وفي الحرفين في الزمر . وقال عكرمة : { ظلل } طاقات ، وقرأ الحسن ويزيد بن القعقاع وأبو حيوة " والملائكةِ " بالخفض عطفاً على { الغمام } ، وقرأ جمهور الناس بالرفع عطفاً على { الله } ، والمعنى يأتيهم حكم الله وأمره ونهيه وعقابه إياهم ، وذهب ابن جريج وغيره إلى أن هذا التوعد هو بما يقع في الدنيا . وقال قوم : بل هو توعد بيوم القيامة ، وقال قوم : قوله { إلا أن يأتيهم الله } وعيد بيوم القيامة ، وأما الملائكة فالوعيد هو بإتيانهم عند الموت ، و { الغمام } أرق السحاب وأصفاه وأحسنه ، وهو الذي ظلل به بنو إسرائيل . وقال النقاش : " هو ضباب أبيض " ، وفي قراءة ابن مسعود " إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام " ، و { قضي الأمر } معناه وقع الجزاء وعذب أهل العصيان ، وقرأ معاذ بن جبل " وقضاء الأمر " ، وقرأ بحيى بن يعمر " وقضى الأمور " بالجمع ، وقرأ ابن عامر وحمزة الكسائي " تَرجع " على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ الباقون " تُرجَع " على بنائه للمفعول ، وهي راجعة إليه تعالى قبل وبعد ، وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا . وقوله تعالى : { سل بني إسرائيل } الآية ، الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وفيه إباحة السؤال لمن شاء من أمته ، ومعنى الآية توبيخهم على عنادهم بعد الآيات البينة . وقرأ أبو عمرو في رواية عباس عنه " اسأل " على الأصل ، وقرأ قوم " اسل " على نقل الحركة إلى السين وترك الاعتداد بذلك في إبقاء ألف الوصل على لغة من قال الحمر ، ومن قرأ " سل " فإنه أزال ألف الوصل حين نقل واستغنى عنها . و { كم } في موضع نصب إما بفعل مضمر بعدها لأن لها صدر الكلام ، تقديره كم آتينا آتيناهم ، وإما بـ { آتيناهم } . وقوله : { من آية } هو على التقدير الأول مفعول ثان لـ { آتيناهم } ، وعلى الثاني في موضع التمييز . ويصح أن تكون { كم } في موضع رفع بالابتداء والخبر في { آتيناهم } . ويصير فيه عائد على { كم } تقديره كم آتيناهموه ، والمراد بالآية : كم جاءهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم من آية معرفة به دالة عليه ، و { نعمة الله } لفظ عام لجميع أنعامه ، ولكن يقوي من حال النبي معهم أن المشار إليه هنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : ومن يبدل من بني إسرائيل صفة نعمة الله ، ثم جاء اللفظ منسحباً على كل مبدل نعمة لله تعالى . وقال الطبري : " النعمة هنا الإسلام " ، وهذا قريب من الأول ، ويدخل في اللفظ أيضاً كفار قريش الذين بعث محمد منهم نعمة عليهم ، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفراً ، والتوراة أيضاً نعمة على بني إسرائيل أرشدتهم وهدتهم ، فبدلوها بالتحريف لها وجحد أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { فإن الله شديد العقاب } خبر يقتضي ويتضمن الوعيد ، و { العقاب } مأخوذ من العقب ، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه ، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر . وقوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } المزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر ، ويزينها أيضاً الشيطان بوسوسته وإغوائه ، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس وأبو حيوة " زَيَن " على بناء الفعل للفاعل ونصب " الحياة " ، وقرأ ابن أبي عبلة " زينت " بإظهار العلامة ، والقراءة دون علامة هي للحائل ولكون التأنيث غير حقيقي ، وخص الذين كفروا الذكر لقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة سببها ، والتزيين من الله تعالى واقع للكل ، وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلوا الخلق أيهم أحسن عملاً ، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة ، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها ، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال : " اللهم إنّا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا " . وقوله تعالى : { ويسخرون } إشارة إلى كفار قريش لأنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها ويسخرون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم ، فذكر الله قبيح فعلهم ونبه على خفض منزلتهم بقوله : { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } ، ومعنى الفوق هنا في الدرجة والقدر فهي تقتضي التفضيل وإن لم يكن للكفار من القدر نصيب ، كما قال تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } [ الفرقان : 24 ] ، وتحتمل الآية أن المتقين هم في الآخر في التنعم والفوز بالرحمة فوق ما هم هؤلاء فيه في دنياهم ، وكذلك خير مستقراً من هؤلاء في نعمة الدنيا ، فعلى هذا الاحتمال وقع التفضيل في أمر فيه اشتراك ، وتحتمل هذه الآية أن يراد بالفوق المكان من حيث الجنة في السماء والنار في أسفل السافلين ، فيعلم من ترتيب الأمكنة أن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، وتحتمل الآيتان أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار ، فإنهم كانوا يقولون : وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم ، ومنه حديث خباب مع العاصي بن وائل ، وهذا كله من التحميلات حفظ لمذهب سيبويه والخليل في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة ، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك . وقوله تعالى : { والله يزرق من يشاء بغير حساب } يحتمل أن يكون المعنى : والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا فلا تستعظموا ذلك ولا تقيسوا عليه الآخرة ، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان بأن يحسب لهذا عمله ولهذا عمله فيرزقان بحساب ذلك ، بل الرزق بغير حساب الأعمال ، والأعمال ومجازاتها محاسبة ومعادة إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه ، فالمعنى أن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا فهو فوق يوم القيامة ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى أن الله يرزق هؤلاء المستضعفين علو المنزلة بكونهم فوق ، وما في ضمن ذلك من النعيم بغير حساب ، فالآية تنبيه على عظم النعمة عليهم وجعل رزقهم بغير حساب ، حيث هو دائم لا يتناهى ، فهو لا ينفد ، ويحتمل أن يكون { بغير حساب } صفة لرزق الله تعالى كيف تصرف ، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد ، ففضله كله بغير حساب ، ويحتمل أن يكون المعنى في الآية من حيث لا يحتسب هذا الذي يشاؤه الله ، كأنه قال بغير احتساب من المرزوقين ، كما قال تعالى : { ويرزقه من حيث لا يحتسب } [ الطلاق : 3 ] ، وإن اعترض معترض على هذه الآية بقوله تعالى : { عطاء حساباً } [ النبأ : 36 ] ، فالمعنى في ذلك محسباً ، وأيضاً فلو كان عداً لكان الحساب في الجزاء والمثوبة لأنها معادة وغير الحساب في التفضل والإنعام .