Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 48-49)

Tafsir: al-Muḥarrar al-waǧīz fī tafsīr al-kitāb al-ʿazīz

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ } قرأ نافع وعاصم " ويعلمه " بالياء ، وذلك عطف على { يبشرك بكلمة } [ آل عمران : 45 ] كذا قال أبو علي : ويحتمل أن يكون في موضع الحال عطفاً على { ويكلم } [ آل عمران : 46 ] ، وقرأ الباقون ، و " نعلمه " بالنون ، وهي مثل قراءة الياء في المعنى لكن جاءت بنون العظمة ، قال الطبري : قراءة الياء عطف على قوله : { يخلق ما يشاء } [ آل عمران : 47 ] ، وقراءة النون عطف على قوله : { نوحيه إليك } [ آل عمران : 43 ] . قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا الذي قاله خطأ في الوجهين مفسد للمعنى و { الكتاب } هو الخط باليد فهو مصدر كتب يكتب . هذا قول ابن جريج وجماعة المفسرين ، وقال بعضهم : هي إشارة إلى كتاب منزل لم يعين وهذه دعوى لا حجة عليها ، وأما { الحكمة } ، فهي السنة التي يتكلم بها الأنبياء ، في الشرعيات ، والمواعظ ، ونحو ذلك ، مما لم يوح إليهم في كتاب ولا بملك ، لكنهم يلهمون إليه وتقوى غرائزهم عليه ، وقد عبر بعض العلماء عن { الحكمة } بأنها الإصابة في القول والعمل ، فذكر الله تعالى في هذه الآية أنه يعلم عيسى عليه السلام الحكمة ، والتعليم متمكن فيما كان من الحكمة بوحي أو مأثوراً عمن تقدم عيسى من نبي وعالم ، وأما ما كان من حكمة عيسى الخاصة به فإنما يقال فيها يعلمه على معنى يهيىء غريزته لها ويقدره ويجعله يتمرن في استخراجها ويجري ذهنه إلى ذلك ، و { التوراة } هي المنزلة على موسى عليه السلام ، ويروى أن عيسى كان يستظهر التوراة وكان أعمل الناس بما فيها ، ويروى أنه لم يحفظها عن ظهر قلب إلا أربعة ، موسى ويوشع بن نون وعزير وعيسى عليهم السلام ، وذكر { الإنجيل } لمريم وهو ينزل - بعد - لأنه كان كتاباً مذكوراً عند الأنبياء والعلماء وأنه سيزل . وقوله : { ورسولاً } حال معطوفة على { ويعلمه } إذ التقدير ، ومعلماً الكتاب ، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله { وجيهاً } [ آل عمران : 45 ] ، ويحتمل أن يكون التقدير ، ويجعله رسولاً ، وكانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ، مبيناً حكم التوراة ونادباً إلى العمل بها ومحللاً أشياء مما حرم فيها ، كالثروب ولحوم الإبل وأشياء من الحيتان والطير ، ومن أول القول لمريم إلى قوله { إسرائيل } خطاب لمريم ، ومن قوله ، { إني قد جئتكم } إلى قوله { مستقيم } يحتمل أن يكون خطاباً لمريم على معنى يكون من قوله لبني إٍسرائيل ، كيت وكيت ، ويكون في آخر الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره ، فجاء عيسى بني إسرائيل رسولاً فقال لهم ما تقدم ذكره فلما أحس ويحتمل أن يكون المتروك مقدراً في صدر الكلام بعد قوله ، { إلا بني إسرائيل } فيكون تقديره ، فجاء عيسى كما بشر الله رسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم ، ويكون قوله : { إني قد جئتكم } ليس بخطاب لمريم ، والأول أظهر ، وقرأ جمهور الناس " أني قد جئتكم " بفتح الألف ، تقديره بأني وقرىء في الشاذ ، " إني قد جئتكم " ، وجمهور الناس قرؤوا بآية على الإفراد وفي مصحف ابن مسعود " بآيات " وكذلك في قوله بعد هذا { وجئتكم بآيات من ربكم } واختلف القراء في فتح الألف وكسرها من قوله : { أني أخلق } ، فقرأ نافع وجماعة من العلماء ، " إني " بكسر الألف ، وقرأ باقي السبعة وجماعة من العلماء ، " أني " بفتح الألف ، فوجه قراءة نافع ، إما القطع والاستئناف وإما أنه فسر الآية بقوله ، " إني " كما فسر المثل في قوله كمثل آدم بقوله ، خلقه من تراب إلى غير ذلك من الأمثلة ووجه قراءة الباقين البدل من آية ، كأنه قال : " وجئتكم بأني أخلق " ، وقيل : هي بدل من { أني } الأولى ، وهذا كله يتقارب في المعنى و { أخلق } معناه ، أقدر وأُهيىء بيدي ، ومن ذلك قول الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] : [ الكامل ] @ وَلأَنْتَ تَفْري مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ ـضُ الْقَوْمِ يَخْلقُ ثمّ لا يُفْري @@ وقوله { لكم } تقييد لقوله ، { أخلق } لأنه يدل دلالة ما ، على أنه لم يرد الإيجاد من العدم ، ويصرح بذلك قوله { بإذن الله } وحقيقة الخلق في الأجرام ، ويستعمل في المعاني ، ومنه قوله تعالى : { وتخلقون إفكاً } [ العنكبوت : 17 ] ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل مرفّل ] @ من كان يخلق ما يقو ل فحيلتي فيه قليله @@ وجمهور الناس قرأ " كهيئة " على وزن فعلة بفتح الفاء وهو مصدر من قولك ، هاء الشيء يهاء هيئاً وهيئة ، إذا ترتب واستقر على حال ما ، وهو الذي تعديه فتقول : هيأت ، وقرأ الزهري " كهِيَّئة الطير " ، بكسر الهاء وياء مفتوحة مشددة ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، " كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائراً " على الإفراد في الموضعين ، فالأول اسم الجنس والثاني مفرد ، أي يكون طائراً من الطيور ، وقرأ نافع وحده ، " كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائراً " بالإفراد في الأخير ، وهكذا قرأ في المائدة الباقون " كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً " بالجمع فيهما ، وكذلك في سورة المائدة ، ومعاني هذه القراءات بينة ، و { الطير } اسم جمع وليس من أبنية الجموع ، وإنما البناء في جمع طائر أطيار ، وجمع الجمع طيور ، وحكاه أبو علي بن أبي الحسن ، وقوله { فأنفخ فيه } ذكر الضمير هنا لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيأ . ويحتمل أن يريد فانفخ في المذكور ، وأنث المضير في سورة المائدة في قوله ، { فتنفخ فيها } [ المائدة : 110 ] لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة أو على تأنيث لفظ الجماعة في قوله { الطير } وكون عيسى عليه السلام خالقاً بيده ونافخاً بفيه إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة ، وأنها جاءت من قبله ، وأما الإيجاد من العدم وخلق الحياة في ذلك الطين فمن الله تعالى وحده لا شريك له . وقوله { بإذن الله } ، معناه بعلم منه تعالى أني أفعل ذلك وتمكين منه لي ، وحقيقة الإذن في الشيء هي العلم بأنه يفعل والتمكين من ذلك ، فإن اقترن بذلك قول فذلك أمكن في الإذن وأبلغ ، ويخرج من حد الإذن إلى حد الأمر ولكن تجده أبداً في قسم الإباحة ، وتأمل قوله تعالى : { فهزموهم بإذن الله } [ البقرة : 251 ] ، وقول النبي عليه السلام ، وإذنها صماتها ، وروي في قصص هذه الآية ، أن عيسى عليه السلام كان يقول لبني إسرائيل : أي الطير أشد خلقة وأصعب أن يحكى ؟ فيقولون : الخفاش ، لأنه طائر لا ريش له ، فكان يصنع من الطين خفافيش ثم ينفخ فيها فتطير ، وكل ذلك بحضرة الناس ومعاينتهم ، فكانوا يقولون : هذا ساحر . قوله تعالى : { وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } { أبرىء } ، معناه أزيل المرض يقال برأ المريض وأبرأه غيره ، ويقال : برىء المريض أيضاً كما يقال في الذنب والدين ، واختلف المفسرون في { الأكمه } فقال مجاهد : { الأكمه } هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، وقال ابن عباس والحسن والسدي : { الأكمه } الأعمى على الإطلاق ، وقال عكرمة : { الأكمه } الأعمش ، وحكى النقاش قولاً : أن { الأكمه } هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم ، الميت الفؤاد ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : { الأكمه } الذي يولد أعمى مضموم العين . قال القاضي : وقد كان عيسى عليه السلام يبرىء بدعائه ومسح يده كل علة ، ولكن الاحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرىء منها طبيب بوجه ، فليس يتخلص من هذه الأقوال في { الأكمه } إلا القول الأخير ، إذ { الأكمه } في اللغة هو الأعمى ، وكمهت العين عميت ، ولولا ضبط اللغة لكان القول الذي حكى النقاش حسناً في معنى قيام الحجة به ، { والأبرص } معروف ، وهو داء لا يبرأ منه إذا تمكن ، وروي في إحيائه الموتى ، أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة ، فيحيي الإنسان ويكلمه ، وروي في أنه أحيى سام بن نوح عليه السلام ، وروي أن الذي كان يحييه كانت تدوم حياته ، وروي أنه كان يعود لموته سريعاً ، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها ، وإحياء الموتى هي آيته المعجزة المعرضة للتحدي ، وهي بالمعنى متحدى بها وإن كان لم ينص علىالتحدي بها ، وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب ، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب ، وذلك إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند الله ، وهذا كأمر السحرة مع موسى ، والفصحاء مع محمد عليه السلام . ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء أن جالينوس ، كان في زمن عيسى عليه السلام وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه فمات في طريقه ذلك . واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وأنبئكم } الآية ، فقال السدي وسعيد بن جبير وابن إسحاق ومجاهد وعطاء : كان عيسى من لدن طفولته وهو في الكتّاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم في منازلهم وبما يؤكل من الطعام ويدخر حتى قال بنو إسرائيل لأبنائهم لا تخالطوا هذا الساحر ، وكذلك إلى أن نبىء ، فكان يقول لكل من سأله عن هذا المعنى ، أكلت البارحة كذا ، وادخرت كذا ، قال ابن إسحاق ، وكان معلمه يريد أن يعلمه الشيء فيسبقه إليه عيسى فيتعجب معلمه من ذلك ويذكره للناس ، وقال قتادة معنى الآية إنما هو في نزول المائدة عليهم . وذلك أنها لما أنزلت أخذ عليهم عهداً أن يأكلوا ولا يخبىء أحد شيئاً ولا يدخره ويحمله إلى بيته فخانوا وجعلوا يخبئون من ثمار الجنة وطعامها الذي كان ينزل على المائدة . فكان عيسى عليه السلام يخبر كل أحد عما أكل وعما ادخر في بيته من ذلك وعوقبوا على ذلك ، وما في قوله { بما تأكلون } يحتمل أن تكون بمعنى الذي وتحتمل المصدرية وكذلك { وما تدخرون } ، وقرأ الجمهور ، " تدّخِرون " بدال مشددة وخاء مكسورة ، وهو تفتعلون من ذخرت أصله ، " تذخرون " استثقل النطق بالذال والتاء ، لتقاربهما في المخرج فأبدلت التاء دالاً وأدغمت الذال في الدال ، كما صنع في مدكر ، ومطلع ، بمعنى مضطلع وغير ذلك نحو قول الشاعر : [ زهير ] [ البسيط ] @ إن الكَريمَ الذي يُعطيكَ نَائِلَهُ عَفْواً وَيظْلِمُ أحْياناً فَيَطَّلِمُ @@ بالطاء غير منقوطة ، وقرأ الزهري ومجاهد وأيوب السختياني وأبو السمال " تدْخَرون " - بدال - ساكنة وخاء مفتوحة ، وقوله : { إن في ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الإحياء والإبراء والإنباء ، وفي مصحف ابن مسعود " لآيات " على الجمع ، وقوله { إن كنتم مؤمنين } ، توقيف والمعنى ، لآيات نافعة هادية إن آمنتم وأبصرتم وإلا فليست بنافعة ولا هادية ، فأما كونها آيات فعلى كل حال آمنوا أو كفروا ، هذا كله على أن المخاطبة لمن لم يؤمن - بعد - وهو ظاهر حاله مع بني إسرائيل ، وإن كان خطابه لمؤمنين ، أو كما كانوا مؤمنين بموسى ، فمعنى الآية التثبيت وهز النفس كما تقول لإنسان تقيم نفسه إلى شيء : ما أنت يا فلان يلزمك أن تفعل كذا وكذا إن كنت من الرجال .