Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 78-83)
Tafsir: al-Muḥarrar al-waǧīz fī tafsīr al-kitāb al-ʿazīz
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الضمير في { منهم } ، عائد على أهل الكتاب ، و " الفريق " ، الجماعة من الناس هي مأخوذة من فرق ، إذا فصل وأبان شيئاً عن شيء ، و { يلوون } معناه : يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : راعنا واسمع غير مسمع ونحو ذلك وليس التبديل المحض بليٍّ ، وحقيق الليّ في الثياب والحبال ونحوها ، فتلها وإراغتها ، ومنه ليّ العنق ثم استعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات تشبيهاً بتلك الإراغة التي في الأجرام فمنه قولهم ، خصم ألوى ومنه قول الشاعر : [ الطويل ] @ فَلَوْ كَانَ فِي لَيْلَى شَذًى مِنْ خُصُومَةٍ لَلَوَّيْتُ أَعْنَاقَ الْخُصُومِ الملاويا @@ وقال الآخر : [ الرجز ] @ ألْفَيْتَني ألوي بعيداً مستمر @@ وقرأ جمهور الناس ، " يلوون " ، مضارع لوى ، على وزن فعل بتخفيف العين وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، " يلوّون " بتشديد الواو وفتح اللام ، من لوّى ، على وزن فعّل بتشديد العين ، وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، وقرأ حميد " يلُوْن " بضم اللام وسكون الواو ، وهي في الأصل " يلون " مثل قراءة الجماعة ، فهمزت الواو المضمومة لأنها عرفها في بعض اللغات ، فجاء " يلوون " فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام فجاء " يلون " و { الكتاب } في هذا الموضع التوراة ، وضمير الفاعل في قوله { لتحسبوه } هو للمسلمين قوله { وما هو من عند الله } نفي أن يكون منزلاً كما ادعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ومنهم بالتكسب ولم تعن الآية إلا لمعنى التنزيل فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله ، وما هو من عند الله ، وقد تقدم نظير قوله تعالى { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } . وقوله تعالى : { ما كان لبشر } معناه لأحد من الناس ، والبشر اسم جنس يقع للكثير والواحد ولا مفرد له من لفظه ، وهذا الكلام لفظه النفي التام كقول أبي بكر رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يعلم مبلغها من النفي بقرينة الكلام الذي هي فيه ، كقوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } [ آل عمران : 145 ] وقوله تعالى : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } [ النحل : 60 ] فهذا منتف عقلاً ، وأما آيتنا هذه فإن النفي على الكمال لأنّا نقطع أن الله تعالى لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين ، و { الكتاب } في هذه الآية اسم جنس ، و { الحكم } بمعنى الحكمة ، ومنه قول النبي عليه السلام : " إن من الشعر لحكماً " ، و { ثم } في قوله تعالى : { ثم يقول } معطية تعظيم الذنب في القول ، بعد مهلة من هذا الإنعام ، وقوله { عباداً } هو جمع عبد ، ومن جموعه عبيد وعبدى ، قال بعض اللغويين ، وهذه الجموع بمعنى ، وقال قوم ، العباد لله ، العبيد والعبدى للبشر ، وقال قوم : العبدى ، إنما تقال في العبيد بني العبيد ، وكأنه بناء مبالغة ، تقتضي الإغراق في العبودية . قال القاضي أبو محمد : والذي استقريت في لفظة العباد ، أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وانظر قوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } [ البقرة : 207 ] [ آل عمران : 30 ] و { عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله { إن تعذبهم فإنهم عبادك } [ المائدة : 118 ] فنوه بهم ، وقال بعض اللغويين : إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد فلم ينته بهم إلى اسم العبيد ، وقال قوم بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد كأنه انتساب إلى عبادة الله ، وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، ومنه قول امرىء القيس : [ السريع ] . @ قُولا لِدُوَدان عبيدِ العَصَى مَا غَرَّكُمْ بالأَسَد الباسلِ @@ ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلا عبيد ومنه قول الله تعالى : { وما ربك بظلاّم للعبيد } [ فصلت : 46 ] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ] . قال الإمام أبو محمد : فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : { كونوا عباداً لي من دون الله } اعبدوني واجعلوني إلهاً . واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله تعالى : { ما كان لبشر } فقال النقاش وغيره : الإشارة إلى عيسى عليه السلام ، والآية رادة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة ومستندة إلى أوامره ، وقال ابن عباس والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين : بل الإشارة إلى محمد عليه السلام ، وسبب نزول الآية ، أن أبا رافع القرظي ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، حين اجتمعت الأحبار من يهود والوفد من نصارى نجران : يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى ، فقال الرئيس من نصارى نجران : أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله ما بذلك أمرت ، ولا إليه دعوت " ، فنزلت الآية ، في ذلك ، قال بعض العلماء : أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمداً صلى الله عليه وسلم ، لما تلا عليهم { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } [ آل عمران : 31 ] وإنما معنى الآية ، فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله ، فحرفوها بتأويلهم ، وهذا من نوع ليِّهم الكتاب بألسنتهم ، وقرأ جمهور القراء " ثم يقولَ " بالنصب ، وروى شبل عن ابن كثير ومحبوب عن أبي عمرو " ثم يقولُ " برفع اللام وهذا على القطع وإضمار مبتدأ ، وقرأ عيسى بن عمر ، " عباداً ليَ " بتحريك الياء مفتوحة . وقوله تعالى : { وَلَكِن كُونُواْ رَبَّنِيِّنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْملاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنَصُرُنَّهُ } المعنى { ولكن } يقول : { كونوا ربانيين } وهو جمع رباني ، واختلف النحاة في هذه النسبة ، فقال قوم : هو منسوب إلى الرب من حيث هو العالم ما علمه ، العامل بطاعته ، المعلم للناس ما أمر به ، وزيدت الألف والنون مبالغة كما قالوا ، لحياني وشعراني في النسبة إلى اللحية والشعر ، وقال قوم الرباني منسوب إلى الربان وهو معلم الناس ، وعالمهم السائس لأمرهم ، مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى ، وزيدت فيه هذه النون كما زيدت في غضبان وعطشان ، ثم نسب إليه رباني ، واختلف العلماء في صفة من يستحق أن يقال له رباني ، فقال أبو رزين : الرباني : الحيكم العالم ، وقال مجاهد : الرباني الفقيه ، وقال قتادة وغيره : الرباني العالم الحليم ، وقال ابن عباس : هو الحكيم الفقيه ، وقال الضحاك : هو الفقيه العالم ، وقال ابن زيد : الرباني والي الأمر ، يرب الناس أي يصلحهم ، فالربانيون الولاة والأحبار والعلماء ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر لأن الحبر هو العالم والرباني هو الذي جمع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم ، وفي البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره . قال الفقيه أبو محمد : فجملة ما يقال في الرباني إنه العالم بالرب والشرع المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس ، وقوله { بما كنتم } معناه : بسبب كونكم عالمين دارسين ، فما مصدرية ، ولا يجوز أن تكون موصولة ، لأن العائد الذي كان يلزم لم يكن بد أن يتضمنه : { كنتم تعلمون } ، ولا يصح شيء من ذلك لأن " كان " قد استوفت خبرها ظاهراً ، وهو { تعلمون } وكذلك { تعلمون } قد استوفى مفعوله وهو { الكتاب } ظاهراً ، فلم يبق إلا أن { ما } مصدرية ، إذ لا يمكن عائد ، و { تعلمون } بمعنى تعرفون ، فهي متعدية إلى مفعول واحد ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : " تعْلمون " بسكون العين ، وتخفيف اللام ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي " تُعلِّمون " مثقلاً ، بضم التاء وكسر اللام ، وهذا على تعدية الفعل بالتضعيف ، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف ، تقديره : تعلمون الناس الكتاب . قال الفقيه الإمام : والقراءتان متقاربتا المعنى ، وقد رجحت قراءة التخفيف بتخفيفهم { تدرسون } وبأن العلم هو العلة التي توجب للموفق من الناس أن يكون ربانياً ، وليس التعليم شرطاً في ذلك ، ورجحت الأخرى بأن التعليم يتضمن العلم ، والعلم لا يتضمن التعليم ، فتجيء قراءة التثقيل أبلغ في المدح . قال الفقيه الإمام : ومن حيث العالم بحال من يعلم ، فالتعليم كأنه في ضمن العلم ، وقراءة التخفيف عندي أرجح ، وقرأ مجاهد والحسن " تَعَلَّمون " بفتح التاء والعين ، وشد اللام المفتوحة ، وقرأ جمهور الناس ، " تدرُسون " بضم الراء ، من درس إذا أدمن قراءة الكتاب وكرره ، وقرأ أبو حيوة " تدرِسون " بكسر الراء ، وهذا على أنه يقال في مضارع درس ، يدرُس ويدرِس وروي عن أبي حيوة ، أنه قرأ " تُدرِّسون " بضم التاء ، وكسر الراء وشدها ، بمعنى تدرسون غيركم . وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو والكسائي : " ولا يأمرُكم " برفع الراء ، وكان أبو عمرو يختلس حركة الراء تخفيفاً ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة : " ولا يأمرَكم نصباً " ، ولا خلاف في الراء من قوله : { أيأمركم } إلا اختلاس أبي عامر ، فمن رفع قوله : " ولا يأمرُكم " فهو على القطع ، قال سيبويه : المعنى ولا يأمركم الله ، وقال ابن جريج وغيره : المعنى ولا يأمركم هذا البشر الذي أوتي هذه النعم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي قراءة ابن مسعود : " ولن يأمركم " ، فهذه قراءة تدل على القطع ، وأما قراءة من نصب الراء ، فهي عطف على قوله : { أن يؤتيه } [ آل عمران : 79 ] والمعنى ولا له أن يأمركم ، قاله أبو علي وغيره ، وقال الطبري : وقوله { ولا يأمركم } بالنصب ، معطوف على قوله ، { ثم يقول } [ آل عمران : 79 ] . قال الفقيه أبو محمد : وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى ، والأرباب في هذه الآية قوله تعالى : { أيأمركم بالكفر } تقرير على هذا المعنى الظاهر فساده . وقوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } الآية ، المعنى واذكر يا محمد " إذ " ويحتمل أن يكون " أخذ " هذا الميثاق حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسماً ، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه ، ثم جمع اللفظ ، في حكاية الحال في هذه الآية ، والمعنى : أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به ، الإيمان بمن أوتي بعده من الرسل ، الظاهرة براهينهم والنصرة له ، واختلف المفسرون في العبارة عن مقتضى ألفاظ هذه الآية ، فقال مجاهد والربيع : إنما أخذ ميثاق أهل الكتاب ، لا ميثاق النبيين ، وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ، قال مجاهد : هكذا هو القرآن ، وإثبات " النبيين " خطأ من الكتاب . قال الفقيه الإمام : وهذا لفظ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان رضي الله عنه ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : إنما { أخذ الله ميثاق النبيين } على قومهم ، فهو أخذ لميثاق الجميع ، وقال طاوس : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما بعث الله نبياً ، آدم فمن بعده ، إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره بأخذه على قومه ، ثم تلا هذه الآية ، وقاله السدي : وروي عن طاوس أنه قال : صدر الآية أخذ الميثاق على النبيين وقوله : { ثم جاءكم } مخاطبة لأهل الكتاب بأخذ الميثاق عليهم . قال الفقيه الإمام أبو محمد : حكاه الطبري وهو قول يفسده إعراب الآية ، وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ، لأن الأخذ على الأنبياء أخذ على الأمم . وقرأ حمزة وغيره سوى السبعة : " لما " بكسر اللام ، وهي لام الجر ، والتقدير لأجل ما آتيناكم ، إذ أنتم القادة والرؤوس ، ومن كان بهذه الحال فهو الذي يؤخذ ميثاقه ، و " ما " في هذه القراءة بمعنى الذي الموصولة ، والعائد إليها من الصلة تقديره آتيناكموه ، و " من " لبيان الجنس ، وقوله ، { ثم جاءكم } الآية ، جملة معطوفة على الصلة ، ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول ، فتقديره عند سيبويه : رسول به مصدق لما معكم ، وحذف تخفيفاً كما حذف الذي في الصلة بعينها لطول الكلام ، كما قال تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولاً } [ الفرقان : 41 ] والحذف من الصلات كثير جميل ، وأما أبو الحسن الأخفش ، فقال قوله تعالى : { لما معكم } . هو العائد عنده على الموصول ، إذ هو في المعنى بمنزلة الضمير الذي قدر سيبويه ، وكذلك قال الأخفش في قوله تعالى : { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [ يوسف : 90 ] لأن المعنى لا يضيع أجرهم ، إذ المحسنون هم من يتقي ويصبر ، وكذلك قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } [ الكهف : 30 ] وكذلك ما ضارع هذه الآيات ، وسيبويه رحمه الله لا يرى أن يضع المظهر موقع المضمر ، كما يراه أبو الحسن ، واللام في { لتؤمِننَّ } ، هي اللام المتعلقة للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور وذلك جائز . وقرأ سائر السبعة : " لَما " بفتح اللام ، وذلك يتخرج على وجهين ، أحدهما أن تكون " ما " موصولة في موضع رفع بالابتداء ، واللام لام الابتداء ، وهي متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق } وخبر الابتداء قوله { لتؤمنن } ، و { لتؤمنن } متعلق بقسم محذوف ، والمعنى والله لتؤمنن ، هكذا قال أبو علي الفارسي ، وفيه من جهة المعنى نظر ، إذا تأملت على أي شيء وقع التحليف لكنه متوجه بأن الحلف يقع مرتين تأكيداً فتأمل ، والعائد الذي في الصلة ، والعائد الذي في الجملة المعطوفة على الصلة هنا في هذه القراءة هما على حد ما ذكرناهما في قراءة حمزة ، أما أن هذا التأويل يقتضي عائداً من الخبر الذي هو { لتؤمنن } فهو قوله تعالى : { به } فالهاء من { به } عائدة على " ما " ، ولا يجوز أن تعود على { رسول } فيبقى الموصول حينئذ غير عائد عليه من خبره ذكر ، والوجه الثاني الذي تتخرج عليه قراءة القراء " لما " بفتح اللام ، هو أن تكون " ما " للجزاء شرطاً ، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها وهو مجزوم و { جاءكم } معطوف في موضع جزم ، واللام الداخلة على " ما " ليست المتلقية للقسم ، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم ، فهي بمنزلة اللام في قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 60 ] لانها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله ، لنغرينك بهم وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله : { لتؤمِننَّ } وهذه اللام الداخلة على " أن " لا يعتمد القسم عليها ، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة ، كما قال تعالى : { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } [ المائدة : 73 ] . قال الزجاج : لأن قولك ، والله لئن جئتني لأكرمنك ، إنما حلف على فعلك ، لأن الشرط معلق به ، فلذلك دخلت اللام على الشرط ، وما في هذا الوجه من كونها جزاء لا تحتاج إلى عائد لأنها مفعولة والمفعول لا يحتاج إلى ذكر عائد . والضمير في قوله تعالى : { لتؤمِننَّ به } عائد على { رسول } ، وكذلك هو على قراءة من كسر اللام ، وأما الضمير في قوله { ولَتنصرنَه } فلا يحتمل بوجه إلا العود على رسول ، قال أبو علي في الإغفال : وجزاء الشرط محذوف بدلالة قوله { لتؤمنن } عليه ، قال سيبويه : سألته ، يعني الخليل عن قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم } فقال : " ما " هنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما دخلت على إن ، حين قلت : لئن فعلت لأفعلن ، ثم استمر يفسر وجه الجزاء قال أبو علي : أراد الخليل بقوله : هي بمنزلة الذي ، أنها اسم كما أن الذي اسم ولَم يرد أنها موصولة كالذي ، وإنما فرّ من أن تكون " ما " حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله تعالى : { وإن كلاًّ لما ليوفينهم ربك أعمالهم } [ هود : 111 ] وفي قوله { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } [ الزخرف : 35 ] ، والله المستعان ، وحكى المهدوي ومكي عن سيبويه والخليل : أن خبر الابتداء فيمن جعل " ما " ابتداء على قراءة من فتح اللام هو في قوله : { من كتاب وحكمة } ولا أعرف من أين حكياه لأنه مفسد لمعنى الآية لا يليق بسيبويه ، والخليل ، وإنما الخبر في قوله ، { لتؤمنن } كما قال أبو علي الفارسي ومن جرى مجراه كالزجاج وغيره ، وقرأ الحسن : " لمّا آتيناكم " بفتح اللام وشدها قال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون اللام تؤول إلى الجزاء ، كما تقول لما جئتني أكرمتك . قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويظهر أن " لما " هذه هي الظرفية أي لما كنتم بهذه الحال ، رؤساء الناس وأماثلهم ، أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة ، وذهب ابن جني في " لما " في هذه الآية إلى أن أصلها " لمن ما " ، وزيدت " من " في الواجب على مذهب الأخفش ، ثم أدغمت ، كما يجب في مثل هذا ، فجاء لهما ، فثقل اجتماع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى فبقي " لما " ، وتتفسر هذه القراءة على هذا التوجيه المحلق تفسر " لما " بفتح الميم مخففة ، وقد تقدم ، وقرأ نافع وحده ، " آتيناكم " بالنون ، وقرأ الباقون ، " آتيتكم " بالتاء ، و { رسول } في هذه الآية اسم جنس ، وقال كثير من المفسرين : الإشارة بذلك إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف ابن مسعود : " مصدقاً " بالنصب على الحال . قوله تعالى : { قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأْوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذ عهد الله فيه ، وذلك يحتمل موطن القسم ، ويحتمل أن يراد بهذه العبارة الجامعة وصف ما فعل مع كل نبي في زمنه ، { وأخذتم } في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتاب والحكمة فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم أيضاً وقال الطبري : { أخذتم } في هذه الآية معناه : قبلتم ، و " الإصر " ، العهد ، لا تفسير له في هذا الموضع إلا لذلك ، وقوله تعالى { فاشهدوا } يحتمل معنيين : أحدهما فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم ، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد ، هذا قول الطبري وجماعة ، والمعنى الثاني ، بثوا الأمر عند أممكم واشهدوا به ، وشهادة الله تعالى هذا التأويل ، وفي التي في قوله { وأنا معكم من الشاهدين } هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم ، هذا قول الزجّاج وغيره . قال القاضي أبو محمد : فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفاظها ، والقول الثاني هو الأمر بأدائها ، وحكم الله تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق على أن قوله ، { فاشهدوا } أمر بالأداء وقرأ أبو عمرو : " يَبغون " بالياء مفتوحة ، و " تُرجعون " بالتاء مضمومة ، وقرأ عاصم ، " يبغون " و " يرجعون " بالياء معجمة من تحت فيهما ، وقرأ الباقون بالتاء فيهما ، ووجوه هذه القراءات لا تخفى بأدنى تأمل و { تبغون } معناه : تطلبون ، و { أسلم } في هذه الآية بمعنى : استسلم عند جمهور المفسرين ، و { من } في هذه الآية تعم الملائكة والثقلين ، واختلفوا في معنى قوله { طوعاً وكرهاً } فقال مجاهد : هذه الآية كقوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [ الزمر : 38 ] فالمعنى أن إقرار كل كافر بالصانع هو إسلام كرهاً . قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا عموم في لفظ الآية ، لأنه لا يبقى من لا يسلم على هذا التأويل و { أسلم } فيه بمعنى استسلم ، وقال بمثل هذا القول أبو العالية رفيع ، وعبارته رحمه الله : كل آدمي فقد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده ، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرهاً ، ومن أخلص فهذا الذي أسلم طوعاً ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ الميثاق ، وروي عن مجاهد أنه قال : الكره في هذه الآية هو بسجود ظل الكافر فيسجد المؤمن طوعاً ويسجد الكافر وهو كاره ، وقال الشعبي : الآية عبارة عن استقادة جميع البشر لله وإذعانهم لقدرته وإن نسب بعضهم الألوهية إلى غيره ، وذلك هو الذي يسجد كرهاً . قال الفقيه الإمام : وهذا هو قول مجاهد وأبي العالية المتقدم وإن اختلفت العبارات ، وقال الحسن بن أبي الحسن : معنى الآية : أنه أسلم قوم طوعاً ، وأسلم قوم خوف السيف ، وقال مطر الوراق : أسلمت الملائكة طوعاً ، وكذلك الأنصار وبنو سليم وعبد القيس ، وأسلم سائر الناس كرهاً حذر القتال والسيف . قال الفقيه الإمام : وهذا قول الإسلام فيه هو الذي في ضمنه الإيمان ، والآية ظاهرها العموم ومعناها الخصوص ، إذ من أهل الأرض من لم يسلم طوعاً ولا كرهاً على هذا الحد ، وقال قتادة : الإسلام كرهاً هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه . قال الفقيه الإمام : ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك ، وهذا غير موجود إلا في أفراد ، والمعنى في هذه الآية ، يفهم كل ناظر أن هذا القسم الذي هو الكره إنما هو في أهل الأرض خاصة ، والتوقيف بقوله { أفغَير } إنما هو لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار والكفار ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ، " أُصري " ، بضم الألف وهي لغة .