Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 108-109)
Tafsir: al-Muḥarrar al-waǧīz fī tafsīr al-kitāb al-ʿazīz
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت { لا تقم فيه أبداً } كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد ، وهذا النهي إنما هو لأن البانين لمسجد الضرار قد كانوا خادعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : بنينا مسجداً للضرورات والسيل الحائل بيننا وبين قومنا فنريد أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة ، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشي معهم إلى ذلك ، واستدعى قميصه لينهض فنزلت الآية { لا تقم فيه أبداً } وقوله : { لمسجد } قيل إن اللام لام قسم ، وقيل هي لام الابتداء كما تقول : لزيد أحسن الناس فعلاً ، وهي مقتضية تأكيداً ، وقال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين : المراد " بالمسجد الذي أسس على التقوى " هو مسجد قباء . وروي عن عمر وأبي سعيد وزيد بن ثابت أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ويليق القول الأول بالقصة ، إلا أن القول الثاني روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نظر مع الحديث ، وأسند الطبري في ذلك عن أبي سعيد الخدري أنه قال : اختلف رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف فقال الخدري : هو مسجد الرسول وقال الآخر : هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال : هو مسجدي هذا ، وفي الآخر خير كثير إلى كثير من الآثار في هذا عن أبي بن كعب وسهل بن سعد . قال القاضي أبو محمد : ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان في بقعته نخل وقبور مشركين ومربد ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة ، وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، الأولى بالسميط وهي لبنة أمام لبنة ، والثانية بالصعيدة ، وهي لبنة ونصف في عرض الحائط ، والثالثة بالأنثى والذكر ، وهي لبنتان تعرض عليهما لبنتان ، وكان في طوله سبعون ذراعاً وكان عمده النخل وكان عريشاً يكف في المطر ، وعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيانه ورفعه فقال : لا بل يكون عريشاً كعريش أخي موسى كان إذا قام ضرب رأسه في سقفه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل فيه اللبن على صدره ، ويقال إن أول من وضع في أساسه حجراً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم وضع أبو بكر حجراً ، ثم وضع عمر حجراً ، ثم وضع عثمان حجراً ، ثم رمى الناس بالحجارة فتفاءل بذلك بعض الصحابة في أنها الخلافة فصدق فأله ، قوله : { من أول يوم } قيل معناه منذ أول يوم ، وقيل معناه من تأسيس أول يوم ، وإنما دعا إلى هذا الاختلاف أن من أصول النحويين أن " من " لا تجر بها الأزمان ، وإنما تجر الأزمان بمنذ ، تقول ما رأيته منذ يومين أو سنة أو يوم ، ولا تقول من شهر ولا من سنة ولا من يوم ، فإذا وقعت " من " من الكلام وهي تلي زمناً فيقدر مضمر يليق أن تجره " من " كقول الشاعر : [ زهير بن أبي سلمى ] @ لمن الديار كقنة الحجر أقوين من حجج ومن دهر @@ ومن شهر رواية ، فقدروه من مر حجج ومن مر دهر ، ولما كان " أول يوم " يوماً وهو اسم زمان احتاجوا فيه إلى تقدير من تأسيس ، ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير وأن تكون " من " تجر لفظة " أول " لأنها بمعنى البدأة كأنه قال من مبتدأ الأيام ، وهي هاهنا تقوم المر في البيت المتقدم ، وهي كما تقول جئت من قبلك ومن بعدك وأنت لا تدل بهاتين اللفظتين إلا على الزمن ، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو ، ومعنى { أن تقوم فيه } أي بصلاتك وعبادتك ، وقرأ جمهور الناس " أن تقوم فيهِ فيهِ رجال " بكسر الهاء ، وقرأ عبد الله بن زيد " أن تقوم فيه فيهُ " بضم الهاء الثانية على الأصل ويحسنه تجنب تكرار لفظ واحد ، وقال قتادة وغيره : الضمير عائد على مسجد الرسول ، و " الرجال " جماعة الأنصار . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " يا معشر الأنصار إني رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون ؟ " فقالوا يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء . قال القاضي أبو محمد : يريد الاستنجاء بالماء ، ففعلنا نحن ذلك فلما جاء الإسلام لم ندعه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلا تدعوه أبداً " ، وقال عبد الله بن سلا م وغيره ما معناه : إن الضمير عائد على مسجد قباء والمراد بنو عمرو بن عوف . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما قال المقالة المتقدمة لبني عمرو بن عوف والأول أكثر ، واختلف أهل العلم في الأفضل بين الاستنجاء بالماء أو بالحجارة فقيل هذا وقيل هذا ، ورأت فرقة من أهل العلم الجمع بينهما فينقي بالحجارة ثم يتبع بالماء ، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض علماء القيروان كانوا يتخذون في متوضياتهم أحجاراً في تراب ينقون بها ، ثم يستنجون بالماء أخذاً بهذا القول . قال القاضي أبو محمد : وإنما يتصور الخلاف في البلا التي يمكن فيها أن تنقى الحجارة ، وابن حبيب لا يجيز الاستنجاء بالحجارة حيث يوجد الماء ، وهو قول شذ فيه ، وقرأ جمور الناس " يتطهروا " وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش " يطهروا " بالإدغام ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " المتطهرين " بالتاء ، وأسند الطبري عن عطاء أنه قال : أحدث قوم من أهل قباء الاستنجاء بالماء فنزلت الآية فيهم . وروي أن رسول الله صلة الله عليه وسلم قال : منهم عويم بن ساعدة ولم يسم أحد منهم غير عويم ، وقوله : { أفمن أسس بنيانه } الآية استفهام بمعنى تقرير ، وقرأ نافع وابن عامر وجماعة " أَسس بنيانُه " على بناء " أسس " للمفعول ورفع " بنيان " فيهما ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وجماعة " أسس بنيانَه " على بناء الفعل للفاعل ونصب " بنيان " فيهما ، وقرأ عمارة بن ضبا رواه يعقوب الأول على بناء الفعل للمفعول والثاني على بنائه للفاعل ، والآية تتضمن معادلة بين شيئين ، فإما بين البناءين وإما بين البانين ، فالمعادلة الأولى هي بتقدير أبناء من أسس ، وقرأ نصر بن علي ورويت عن نصر بن عاصم : " أفمن أس بنيانه " على إضافة " أس " إلى " بنيان " وقرأ نصر بن عاصم وأبو حيوة أيضاً " أساس بنيانه " وقرأ نصر بن عاصم أيضاً " أُسُس بنيانه " على وزن فُعُل بضم الفاء والعين وهو جمع أساس كقذال وقذل حكى ذلك أبو الفتح ، وذكر أبو حاتم أن هذه القراءة لنصر إنما هي " أَسَسُ " بهمزة مفتوحة وسين مفتوحة وسين مضمومة ، وعلى الحكايتين فالإضافة إلى البنيان ، وقرأ نصر بن علي أيضاً " أساس " على جمع " أس " و " البنيان " يقال بنى بيني بناء وبنياناً كالغفران فسمي به المبنى مثل الخلق إذا أردت به المخلوق ، وقيل هو جمع واحدة بنيانة ، وأنشد في ذلك أبو علي : [ الطويل ] @ كبنيانة القاري موضع رجلها وآثار نسعيها من الدق أبلق @@ وقرأ الجمهور { على تقوى } وقرأ عيسى بن عمر " على تقوًى " بتنوين الواو حكى هذه القراءة سيبويه وردها الناس ، قال أبو الفتح : قياسها أن تكون الألف للإلحاق كأرطى ونحوه ، وأما المراد بالبنيان الذي أسس على التقوى والرضوان فهو في ظاهر اللفظ وقول الجمهور المسجد المذكور قبل ويطرد فيه الخلاف المتقدم ، وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال : المراد بالمسجد المؤسس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بأنه أسس على تقوى من الله ، { ورضوان خير } هو مسجد قباء ، وأما البنيان الذي أسس { على شفا جرف هار } فهو مسجد الضرار بإجماع . و " الشفا " الحاشية والشفير و " الجرف " حول البئر ونحوه مما جرفته السيول والندوة والبلى . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وجماعة " جُرُف " بضم الراء ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة وجماعة " جرْف " بسكون الراء ، واختلف عن عاصم . وهما لغتان ، وقيل الأصل ضم الراء وتخفيفها بعد ذلك مستعمل و { هار } : معناه متهدم منهال وهو من هار يهور ويقال هار يهير ويهير ، وأصله هاير أو هاور ، فقيل قلبت راؤه قبل حرف العلة فجاء هارو أو هاري فصنع به ما صنع بقاض وغاز ، وعلى هذا يقال في حال النصب هارياً ، ومثله في يوم راح أصله رايح ومثله شاكي السلاح أصله شايك ومثله قول العجاج : [ الوافر ] @ لاث به الأشاء والعبري @@ أصله لايث . ومثله قول الشاعر [ الأجدع الهمداني ] : [ الكامل ] @ خَفَضُوا أسنتَهمْ فكلٌّ ناع @@ على أحد الوجهين : فإنه يحتمل أنه من نعى ينعي والمراد أنهم يقولون يا ثارات فلان ، ويحتمل أن يريد فكلهم نايع أي عاطش كما قال عامر بن شييم ، والأسل النياعا وقيل في { هار } إن حرف علته حذف حذفاً فعلى هذا يجري بوجوه الإعراب ، فتقول : جرف هار ورأيت جرفاً هاراً ، ومررت بحرف هار . واختلف القراء في إمالة { هار } و { انهار } ، وتأسيس البناء على تقوى إنما هو بحسن النية فيه وقصد وجه الله تعالى وإظهار شرعه ، كما صنع بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفي مسجد قباء . والتأسيس { على شفا جرف هار } إنما هو بفساد النية وقصد الرياء والتفريق بين المؤمنين ، فهذه تشبيهات صحيحة بارعة ، و { خير } في هذه الآية تفضيل ولا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد يأتي مسجد الضرار ، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل ، وقوله { فانهار به في نار جهنم } الظاهر منه وما صح من خبرهم وهدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجدهم أنه خارج مخرج المثل ، أي مثل هؤلاء المضارين من المنافقين في قصدهم معصية الله وحصولهم من ذلك على سخطه كمن ينهار بنيانه في نار جهنم ، ثم اقتضب الكلام اقتضاباً يدل عليه ظاهره ، وقيل بل ذلك حقيقة وإن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم ، قاله قتادة وابن جريج . وروي عن جابر بن عبد الله وغيره أنه قال : رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروي في بعض الكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه حين انهار حتى بلغ الأرض السابعة ففزع لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروي أنهم لم يصلوا فيه أكثر من ثلاثة أيام أكملوه يوم الجمعة وصلوا فيه يوم الجمعة وليلة السبت وانهار يوم الاثنين . قال القاضي أبو محمد : وهذا كله بإسناد لين ، وما قدمناه أصوب وأصح ، وكذلك بقي أمره والصلاة فيه من قبل سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك إلى أن يقبل صلى الله عليه وسلم . وقوله { والله لا يهدي القوم الظالمين } : طعن على هؤلاء المنافقين وإشارة إليهم ، والمعنى لا يهديهم من حيث هم الظالمون ، أو يكون المراد الخصوص فيمن يوافي على ظلمه ، وأسند الطبري عن خلف بن ياسين أنه قال : رأيت مسجد المنافقين الذين ذكر الله في القرآن ، فرأيت فيه مكاناً يخرج منه الدخان ، وذلك في زمن أبي جعفر المنصور . وروي شبيه بهذا أو نحوه عن ابن جريج أسنده الطبري .