Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 34-35)
Tafsir: al-Muḥarrar al-waǧīz fī tafsīr al-kitāb al-ʿazīz
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين ، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك ، واللام في { ليأكلون } لام التأكيد ، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضاً باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أي النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله ، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه ، وقيل كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع ، وقيل كانوا يرتشون في الأحكام ، ونحو ذلك . قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى { بالباطل } ، يعم هذا كله ، وقوله { يصدون } ، الأشبه هنا أن يكون معدى أي يصدون غيرهم وهذا الترجيح إنما هو لنباهة منازلهم في قومهم و " صد " يستعمل واقفاً ومتجاوزاً ، ومنه قول الشاعر [ عمرو بن كلثوم ] : [ الوافر ] @ صددت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا @@ و { سبيل الله } الإسلام وشريعة محمد عليه السلام ، ويحتمل أن يريد ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل ، والأول أرجح ، وقوله { والذين } ابتداء وخبره { فبشرهم } ، ويجوز أن يكون { والذين } معطوفاً عل الضمير في قوله { يأكلون } على نظر في ذلك ، لأن الضمير لم يؤكد ، وأسند أبو حاتم إلى علباء بن أحمد أنه قال : لما أمر عثمان بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله { والذين يكنزون } فأبى ذلك أبي بن كعب وقال لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقها . قال القاضي أبو محمد : وعلى إرادة عثمان يجري قول معاوية ، إن الآية في أهل الكتاب وخالفه أبو ذر فقال : بل هي فينا ، فشكاه إلى عثمان فاستدعاه من الشام ثم خرج إلى الربذة ، والذي يظهر من الألفاظ أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين المال بالباطل ذكر بعد ذلك بقول عامر نقص الكافرين المانعين حق المال ، وقرأ طلحة بن مصرف " الذين يكنزون " بغير واو ، و { يكنزون } معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية ، ومنه قول المنخل الهذلي : [ البسيط ] @ لا در دري إن أطعمت نازلهم قرْف الحتيِّ وعندي البر مكنوز @@ أي محفوظ في أوعيته ، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظه المال أن يدفنوه حتى تورق في المدفون اسم الكنز ، ومن اللفظة قولهم رجل مكتنز الخلق أي مجتمع ، ومنه قول الراجز : [ الرجز ] @ على شديد لحمه كناز بات ينزيني على أوفاز @@ والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، ولذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، وأما المدفون إذا خرجت زكاته فليس بكنز كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل ما أديت زكاته فليس بكنز " وهذه الألفاظ مشهورة عن ابن عمر وروي هذا القول عن عكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته ، وقال أبو ذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل عن حاجة نفسه فهو كنز ، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط ، ولكن قال عمر بن عبد العزيز : هي منسوخة بقوله { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] فأتى فرض الزكاة على هذا كله . قال القاضي أبو محمد : كان مضمن الآية لا تجمعوا مالاً فتعذبوا فنسخه التقرير الذي في قوله { خذ من أموالهم } [ التوبة : 103 ] والضمير في قوله { ينفقونها } يجوز أن يعود على الأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى ، ويجوز أن يعود على الذهب والفضة هما أنواع ، وقيل عاد على الفضة واكتفي بضمير الواحد عن الضمير الآخر إذا فهمه المعنى وهذا نحو قول الشاعر [ قيس بن الخطيم ] : [ المنسرح ] @ نحن بما عندنا وأنت بما عنـ ـدك راضٍ والرأي مختلفُ @@ ونحن قول حسان : [ الخفيف ] @ إنّ شرَخ الشباب والشّعَر الأسـ ـود ما لم يعاص كان جنونا @@ وسيبويه يكره هذا في الكلام ، وقد شبه كثير من المفسرين هذه الآية بقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] وهي لا تشبهها ، لأن " أو " قد فصلت التجارة عن اللهو وحسنت عود الضمير على أحدهما دون الآخر ، والذهب تؤنث وتذكر والتأنيث أشهر ، وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قد ذم الله كسب الذهب والفضة ، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه ، فقال عمر : أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسأله ، فقال " لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المؤمن على دينه " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت الآية " تباً للذهب تباً للفضة " ، فحينئذ أشفق أصحابه وقالوا ما تقدم ، والفاء في قوله { فبشرهم } ، جواب كما في قوله { والذين } من معنى الشرط ، وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب وذلك أن البشارة تقيد بالخير والشر فإذا أطلقت لم تحمل إلا على الخير فقط ، وقيل بل هي أبداً للخير فمتى قيدت بشر فإنما المعنى أقم لهم مقام البشارة عذاباً أليماً ، وهذا نحو قول الشاعر [ عمرو بن معديكرب ] : [ الوافر ] @ وخيل قد دلفت لها بخيلٍ تحيةَ بيْنِهمْ ضرْبٌ وجيـعُ @@ وقوله تعالى { يوم يحمى عليها } الآية : { يوم } ظرف والعامل فيه { أليم } وقرأ جمهور الناس " يحمى " بالياء بمعنى يحمى الوقود ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن " تحمى " بالتاء من فوق بمعنى تحمى النار والضمير في عليها عائد على الكنوز أو الأموال حسبما تقدم ، وقرأ قوم " جباهم " بالإدغام وأشموها الضم حكاه أبو حاتم ، وردت أحاديث كثيرة في معنى هذه الآية من الوعيد لكنها مفسرة في منع الزكاة فقط لا في كسب المال الحلال وحفظه ، ويؤيد ذلك حال أصحابه وأموالهم رضي الله عنهم ، فمن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم : " من ترك بعده كنزاً لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع " الحديث . وأسند الطبري قال كان نعل سيف أبي هريرة من فضة فنهاه أبو ذر ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها " ، وأسند إلى أبي أمامة الباهلي قال : " مات رجل من أهل الصفة فوجد في برده دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كية ثم مات آخر فوجد له ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيتان " . قال القاضي أبو محمد : وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقات وعندهما التبر وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام ، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه ، ولو كان ضبط المال ممنوعاً لكان حقه أن يخرج كله لا زكاته فقط ، وليس في الأمة من يلزم هذا ، وقوله { هذا ما كنزتم } إشارة إلى المال الذي كوي به ، ويحتمل أن تكون إلى الفعل النازل بهم ، أي هذا جزاء ما كنزتم ، وقال ابن مسعود : والله لا يمس دينار ديناراً بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار وبكل درهم ، وقال الأحنف بن قيس : دخلت مسجد المدينة وإذا رجل خشن الهيئة رثها يطوف في الحلق وهو يقول : بشر أصحاب الكنوز بكي في جباهم وجنوبهم وظهورهم ، ثم انطلق يتذمر وهو يقول وما عسى تصنع في قريش .