Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 96, Ayat: 1-19)
Tafsir: al-Muḥarrar al-waǧīz fī tafsīr al-kitāb al-ʿazīz
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في صحيح البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها ، قال : أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه التحنث في غار حراء ، فكان يخلو فيه فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ثم ينصرف حتى جاءه الملك وهو في غار حراء ، فقال له : { اقرأ } ، فقال : ما أنا بقارىء ، قال : فأخذني فغطني ثم كذلك ثلاث مرات ، فقال له في الثالثة : { اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق } إلى قوله { ما لم يعلم } ، قال فرجع بها رسول ترجف بوادره الحديث بطوله ، ومعنى هذه الآية ، { اقرأ } هذا القرآن { باسم ربك } ، أي ابدأ فعلك بذكر اسم ربك ، كما قال : { اركبوا فيها بسم الله } [ هود : 41 ] هذا وجه . ووجه آخر في كتاب الثعلبي أن المعنى : { اقرأ } في أول كل سورة ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم ووجه آخر أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو { باسم ربك الذي خلق } ، كأنه قال له : { اقرأ } هذا اللفظ ، ولما ذكر الرب وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أرباباً جاءه بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها ، وهي قوله تعالى : { الذي خلق } ، ثم مثل لهم من المخلوقات ما لا مدافعة فيه ، وما يجده كل مفطور في نفسه ، فقال : { خلق الإنسان من علق } ، وخلقة الإنسان من أعظم العبر حتى أنه ليس في المخلوقات التي لدينا أكثر عبراً منه في عقله وإدراكه ورباطات بدنه وعظامه ، والعلق جمع علقة ، وهي القطعة اليسيرة من الدم ، و { الإنسان } هنا : اسم الجنس ، ويمشي الذهن معه إلى جميع الحيوان ، وليست الإشارة إلى آدم ، لأنه مخلوق من طين ، ولم يكن ذلك متقرراً عند الكفار المخاطبين بهذه الآية ، فلذلك ترك أصل الخلقة وسيق لهم الفرع الذي هم به مقرون تقريباً لأفهامهم ، ثم قال تعالى : { اقرأ وربك الأكرم } على جهة التأنيس ، كأنه يقول : امض لما أمرت به وربك ليس كهذه الأرباب ، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص ، فهو ينصرك ويظهرك ، ثم عدد تعالى نعمة الكتاب { بالقلم } على الناس وهي موضع عبرة وأعظم منفعة في المخاطبات وتخليد المعارف ، وقوله تعالى : { علم الإنسان ما لم يعلم } قيل : المراد محمد عليه السلام ، وقيل : اسم الجنس وهو الأظهر ، وعدد نعمته اكتساب المعارف بعد جهله بها ، وقوله تعالى : { كلا إن الإنسان ليطغى } الآية نزلت بعد مدة من شأن أبي جهل بن هشام ، وذلك أنه طغى لغناه ولكثرة من يغشى ناديه من الناس ، فناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة ونهاه عن الصلاة في المسجد ، ويروى أنه قال : لئن رأيت محمداً يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه ، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه القول وانتهره وتوعده ، فقال أبو جهل : أيتوعدني ، وما والي بالوادي أعظم ندياً مني ، ويروى أيضاً أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فهمَّ بأن يصل إليه ويمنعه من الصلاة ، ثم كع عنه وانصرف ، فقيل له : ما هذا ؟ فقال : لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار ، وهول وأجنحة ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو دنا مني لأخذته الملائكة عياناً " فهذه السورة من قوله : { كلا } إلى آخرها نزلت في أبي جهل ، و { كلا } : هي رد على أقوال أبي جهل وأفعاله ، ويتجه أن تكون بمعنى : حقاً ، فهي تثبيت لما بعدها من القول والطغيان : تجاوز الحدود الجميلة ، والغني : مطغ إلا من عصم الله والضمير في { رآه } للإنسان المذكور ، كأنه قال : أن رأى نفسه غنياً ، وهي رؤية قلب تقرب من العلم ، ولذلك جاز أن يعمل فعل الفاعل في نفسه ، كما تقول : وجدتني وطننتني ولا يجوز أن تقول : ضربتني ، وقرأ الجمهور : " أن رآه " ، بالمد على وزن رعاه ، واختلفوا في الإمالة وتركها ، وقرأ ابن كثير من طريق قنبل : " أن رأه " ، على وزن رعه ، على حذف لام الفعل وذلك تخفيف ، ثم حقر غنى هذا الإنسان وما له بقوله : { إن إلى ربك الرجعى } أي الحشر والبعث يوم القيامة ، و { الرجعى } : مصدر كالرجوع ، وهو على وزن : العقبى ونحوه ، وفي هذا الخبر : وعيد للطاغين من الناس ، ثم صرح بذكر الناهي لمحمد عليه السلام ، ولم يختلف أحد من المفسرين في أن الناهي : أبو جهل ، وأن العبد المصلي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { أرأيت } توقيف وهو فعل لا يتعدى إلى مفعولين على حد الرؤية من العلم بل يقتصر به ، وقوله تعالى : { ألم يعلم بأن الله يرى } إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوقيفات الثلاث يصلح مع كل واحد منهما فجاء بها في نسق ثم جاء بالوعيد الكافي لجميعها اختصاراً واقتضاباً ، ومع كل تقرير من الثلاثة تكملة مقدرة تتسع العبارات فيها ، وقوله : { ألم يعلم } دال عليها مغن ، وقوله تعالى : { إن كان } يعني العبد المصلي ، وقوله : { إن كذب وتولى } ، يعني الإنسان الذي ينهى ، ونسب الرؤية إلى الله تعالى بمعنى يدرك أعمال الجميع بإدراك : سماه رؤية ، والله منزه عن الجارحة وغير ذلك من المماثلات المحدثات ، ثم توعد تعالى إن لم ينته بأن يؤخذ بناصيته فيجر إلى جهنم ذليلاً ، تقول العرب : سفعت بيدي ناصية الفرس ، والرجل إذا جذبتها مذللاً له ، قال عمرو بن معد يكرب : [ الكامل ] @ قوم إذا سمعوا الصياح رأيتهم ما بين ملجم مهره أو سافع @@ فالآية على نحو قوله : { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } [ الرحمن : 41 ] وقال بعض العلماء بالتفسير : { لنسفعاً } معناه : لنحرقن من قولهم سفعته النار إذا أحرقته ، واكتفى بذكر الناصية لدلالتها على الوجه ، وجاء { لنسفعاً } في خط المصحف بألف بدل النون ، وقرأ أبو عمرو في رواية هارون : " لنسفعن " مثقلة النون ، وفي مصحف ابن مسعود : " لأسفعن بالناصية ناصية كاذبة فاجرة " ، وقرأ أبو حيوة : " ناصيةً كاذبةً خاطئةً " بالنصب في الثلاثة ، وروي عن الكسائي أنه قرأ بالرفع فيها كلها ، والناصية مقدم شعر الرأس ، ثم أبدل النكرة من المعرفة في قوله : { ناصية كاذبة } ووصفها بالكذب والخطإ من حيث صفة لصاحبها ، كما تقول : يد سارقة ، وقوله : { فليدع نادية } إشارة إلى قول أبي جهل ، وما بالوادي أكثر نادياً مني ، والنادي والندى المجلس ومنه دار الندوة ومنه قول زهير : [ الكامل ] @ وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل @@ ومنه قول الأعرابية : سيد ناديه ، وثمال عافية ، و { الزبانية } ملائكة العذاب واحدهم زبنية ، وقال الكسائي زبني ، وقال عيسى بن عمر والأخفش : زابن وهم الذين يدفعون الناس في النار ، والزبن الدفع ، ومنه حرب زبون أي تدفع الناس عن نفسها ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ] @ ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم @@ ومنه قول عتبة بن أبي سفيان : وقد زبنتنا الحرب وزبناها فنحن بنوها وهي أمنا ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ] @ عدتني عن زيارتك الأعادي وحالت بيننا حرب زبون @@ وحذف الواو من { سندع } في خط المصحف اختصاراً وتخفيفاً ، والمعنى : { سندع الزبانية } لعذاب هذا الذي يدعو ناديه ، وقرأ ابن مسعود : " فليدع إلى ناديه " ، ثم قال تعالى لمحمد عليه السلام : { كلا } رداً على قول هذا الكافر وأفعاله { لا تطعه } أي لا تلتفت إلى نهيه وكلامه ، واسجد لربك واقترب إليه بسجودك وبالطاعة والأعمال الصالحة ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد ، فأكثروا من الدعاء في السجود فقمين أن يستجاب لكم . " وقال مجاهد : ثم قال ألم تسمعوا : { واسجد واقترب } ، وروى ابن وهب عن جماعة من أهل العلم أن قوله تعالى : { واسجد } خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن { اقترب } خطاب لأبي جهل ، أي إن كنت تجترىء حتى ترى كيف تهلك ، وهذه السورة فيها سجدة عند جماعة من أهل العلم ، منهم في مذهب مالك ابن وهب .