Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 97, Ayat: 1-5)

Tafsir: Zād al-masīr fī ʿilm at-tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { إنا أنزلناه } يعني : القرآن { في ليلة القدر } وذلك أنه أنزل جملةً في تلك الليلة إلى بيت العِزَّة ، وهو بيت في السماء الدنيا . وقد ذكرنا هذا الحديث في أول كتابنا . والهاء في « إنا أنزلناه » كناية عن غير مذكور . وقال الزجاج : قد جرى ذكره في قوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } [ الدخان : 3 ] . فأما { ليلة القدر } ففي تسميتها بذلك خمسة أقوال . أحدها : أن القَدْرَ : العظمةُ ، من قولك : لفلان قَدْر ، قاله الزهري . ويشهد له قوله تعالى : { وما قَدَرُوا الله حق قَدْرِه } [ الأنعام : 91 ] و [ الزمر : 67 ] . والثاني : أنه من الضيق ، أي : هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون ، قاله الخليل بن أحمد ، ويشهد له قوله تعالى : { وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُه } [ الطلاق : 7 ] . والثالث : أن القَدْرَ : الحُكم كأن الأشياء تقَدَّرُ فيها ، قاله ابن قتيبة . والرابع : لأن من لم يكن له قَدْر صار بمراعاتها ذَا قَدْر ، قاله أبو بكر الورَّاق . والخامس : لأنه نزل فيها كتاب ذُو قَدر ، وتنزل فيها رحمة ذات قَدْر ، وملائكةٌ ذوُو قَدْر ، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله . فصل واختلف العلماء هل ليلة القدر باقية ، أم كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ؟ والصحيح بقاؤها . وهل هي في جميع السنة ، أم في رمضان ؟ فيه قولان . أحدهما : في رمضان ، قاله الجمهور . والثاني : في جميع السنة ، قاله ابن مسعود . واختلف القائلون بأنها في شهر رمضان هل تختص ببعضه دون بعض ؟ على قولين : أحدهما : أنها في العشر الأواخر ، قاله الجمهور ، وأكثر الأحاديث الصحيحة تدل عليه . وقد روى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، في تاسعةٍ تبقى ، أو سابعة تبقى ، أو في خامسة تبقى " وفي حديث أبي بَكْرَة قال : ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلاَ في العشر الأواخر ، فإني سمعته يقول : " التمسوها في تسع يبقين ، أو سبع يبقين ، أو خمس يبقين ، أو ثلاث يبقين ، أو آخر ليلة " . والقول الثاني : أنها في جميع رمضان ، قاله الحسن البصري . واختلف القائلون بأنها في العشر الأواخر هل تختص ليالي الوتر دون الشفع ؟ على قولين . أحدهما : أنها تختص الأفراد ، قاله الجمهور . والأحاديث الصحاح كلها تدل عليه . وقد أخرج البخاري ومسلم في « الصحيحين » من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ابتغوها في العشر الأواخر في الوتر منها " . والثاني : أنها تكون في الشفع كما تكون في الوتر ، قاله الحسن . وروي عن الحسن ومالك بن أنس قالا : هي ليلة ثماني عشرة . واختلف القائلون بأنها في الأفراد في أخص الليالي بها على خمسة أقوال . أحدها : أن الأخص بها ليلة إحدَى وعشرين . فروى البخاري ومسلم في « الصحيحين » من حديث أبي سعيد الخدري قال : اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوسط ، واعتكفنا معه ، فلما أصبحنا صبيحة عشرين رجع ، ورجعنا معه ، وأُرِيَ ليلةَ القدر ، ثم أُنسيها ، فقال : " إني رأيتُ ليلة القدر ، ثم أُنسيتها وأُراني أسجد في ماء وطين ، فمن اعتكف فليرجع إلى مُعتَكفه ، وهاجت علينا السماء آخر تلك العشية ، وكان سَقْفُ المسجد عريشاً من جريد ، فوكف [ المسجد ] فوالذي هو أكرمه ، وأنزل عليه الكتاب لَرَأَيْتُه يصلي ، بدأ المغرب ليلة إحدى وعشرين ، وإن جبهته وأرنبة أنفه لفي الماء والطين " وهذا مذهب الشافعي . والثاني : أن الأخص بها ليلة ثلاث وعشرين . روى أبو هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة ثلاث وعشرين : « اطلبوها الليلة » " . وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئاً فليقم ليلة ثلاث وعشرين " . وروى مسلم في أفراده من " حديث عبد الله بن أُنَيْس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أُرِيتُ ليلةَ القدر ثم أُنسيتُها ، وأُراني صُبْحَها أسجد في ماء وطين . قال : فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه " قال : وكان عبد الله بن أُنَيْس يقول ليلة ثلاث وعشرين . والثالث : ليلة خمس وعشرين ، روى هذا المعنى أبو بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . والرابع : ليلة سبع وعشرين ، روى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من كان متحرياً فليتحرها ليلة سبع وعشرين ، يعني : ليلة القدر ، وهذا مذهب عليٍّ وأُبَيِّ بن كعب . وكان أُبَيٌّ يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين ، وبه قال ابن عباس ، وعائشة ، ومعاوية ، واختاره أحمد رضي الله عنه . وروي عن ابن عباس : أنه استدل على ذلك بشيئين . أحدهما : أنه قال : إن الله تعالى خلق الإنسان على سبعة أصناف ، يشير إلى قوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة } [ المؤمنين : 12 ] الآيات . ثم جعل رزقه في سبعة أصناف يشير إلى قوله تعالى : { أنا صببنا الماء صباً } [ عبس : 25 ] ثم تصلى الجمعة على رأس سبعة أيام ، وجعل السموات سبعاً ، والأرضين سبعاً ، والمثاني سبعاً ، فلا أرى ليلة القدر إلا ليلة السابعة [ وعشرين ] . والثاني : أنه قال : قوله تعالى { سلام } هي الكلمة السابعة والعشرون ، فدل على أنها كذلك . واحتج بعضهم فقال : ليلة القدر كُرِّرت في هذه السورة ثلاث مرات ، وهي تسعة أحرف ، والتسعة إذا كُرِّرت ثلاثاً فهي سبع وعشرون ، وهذا تنبيه على ذلك . والقول الخامس : أن الأولى طلبها في أول ليلة من رمضان ، قاله أبو رزين العقيلي . وروى أيوب عن أبي قُلابة أنه قال : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر . فأما الحكمة في إخفائها فليتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان طَمَعاً منهم في إدراكها ، كما أخفى ساعة الجمعة ، وساعة الليل ، واسمه الأعظم ، والصلاة الوسطى ، والوليُّ في الناس . قوله تعالى : { وما أدراك ما ليلة القدر } هذا على سبيل التعظيم والتشوق إلى خيرها . قوله تعالى : { ليلة القدر خير من ألف شهر } قال مجاهد : قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر ، وهذا قول قتادة ، واختيار الفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج ، وروى عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر ، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك ، وتمنَّى أن يكون ذلك في أمته ، فأعطاه الله ليلة القدر ، وقال هي خير من ألف شهر التي حمل فيها الاسرائيلي السلاح في سبيل الله . وذكر بعض المفسرين أنه كان الرجل فيما مضى لا يستحق أن يقال له : عابد حتى يعبد الله ألف شهر كانوا يعبدون فيها . قوله تعالى : { تنزَّل الملائكة } قال أبو هريرة : الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى . وفي الروح ثلاثة أقوال . أحدها : أنه جبريل ، قاله الأكثرون . وفي حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلُّون ويسلِّمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل " . والثاني : أن الروح : طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، قاله كعب ، ومقاتل بن حيان . والثالث : أنه ملَك عظيم يفي بخلق من الملائكة ، قاله الواقدي . قوله تعالى : { فيها } أي : في ليلة القدر { بإذن ربهم } أي : بما أمر به وقضاه { من كل أمر } قال ابن قتيبة : أي : بكل أمر . قال المفسرون : يتنزَّلون بكل أمر قضاه الله في تلك السنة إلى قابل . وقرأ ابن عمر ، وابن عباس ، وأبو العالية ، وأبو عمران الجوني « من كل امرِىءٍ » بكسر الراء وبعدها همزة مكسورة منوَّنة ، وبوصل اللام من غير همز ، ولهذه القراءة وجهان . أحدهما : من كل مَلَك سلام . والثاني : أن تكون « من » بمعنى « على » تقديره : على كل أمر من المسلمين سلام من الملائكة ، كقوله تعالى : { ونصرناه من القوم الذين كذبوا } [ الأنبياء : 77 ] والقراءة الموافقة لخط المصحف هي الصواب . ويكون تمام الكلام عند قوله تعالى : « من كل أمر » ثم ابتدأ فقال تعالى : { سلام هي } أي : ليلة القدر سلام . وفي معنى السلام قولان . أحدهما : أنه لا يحدث فيها داءٌ ، ولا يُرسَل فيها شيطان ، قاله مجاهد . والثاني : أن معنى السلام : الخير والبركة ، قاله قتادة . وكان بعض العلماء يقول : الوقف على « سلام » على معنى تنزَّل الملائكة بالسلام . قوله تعالى : { حتى مطلع الفجر } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة « مطلَع » بفتح اللام . وقرأ الكسائي بكسرها . قال الفراء : والفتح أقوى في قياس العربية ، لأن المطلَع بالفتح : الطلوع ، وبالكسر : الموضع الذي يطلع منه ، إلا أن العرب تقول : طلعت الشمس مطلِعاً ، بالكسر ، وهم يريدون المصدر ، كما تقول : أكرمتك كرامة ، فتجتزئِ بالاسم عن المصدر . وقد شرحنا هذا المعنى في « الكهف » عند قوله تعالى : { مطلع الشمس } [ آية : 9 ] شرحاً كافياً ، ولله الحمد .