Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 139-182)
Tafsir: Madārik at-tanzīl wa-ḥaqāʾiq at-taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ } الإباق : الهرب إلى حيث لا يهتدي إليه الطلب ، فسمى هربه من قومه بغير إذن ربه إباقاً مجازاً { إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } المملوء . وكان يونس عليه السلام وعد قومه العذاب ، فلما تأخر العذاب عنهم خرج كالمستور منهم فقصد البحر وركب السفينة فوقفت فقالوا : ههنا عبد آبق من سيده . وفيما يزعم البحارون أن السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فقال : أنا الآبق ، وزج بنفسه في الماء فذلك قوله { فَسَـٰهَمَ } فقارعهم مرة أو ثلاثاً بالسهام . والمساهمة : إلقاء السهام على جهة القرعة { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ } المغلوبين بالقرعة { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ } فابتلعه { وَهُوَ مُلِيمٌ } داخل في الملامة . { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } من الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح . أو من القائلين { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أو من المصلين قبل ذلك . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة . ويقال : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر { لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } الظاهر لبثه حياً إلى يوم البعث . وعن قتادة : لكان بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة . وقد لبث في بطنه ثلاثة أيام أو سبعة أو أربعين يوماً . وعن الشعبي : التقمه ضحوة ولفظه عشية { فَنَبَذْنَـٰهُ بِٱلْعَرَاءِ } فألقيناه بالمكان الخالي الذي لا شجر فيه ولا نبات { وَهُوَ سَقِيمٌ } عليل مما ناله من التقام الحوت . ورُوي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد { وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً } أي أنبتناها فوقه مظلة له كما يطنّب البيت على الإنسان { مِّن يَقْطِينٍ } الجمهور على أنه القرع ، وفائدته أن الذباب لا يجتمع عنده وأنه أسرع الأشجار نباتاً وامتداداً وارتفاعاً . وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لتحب القرع قال : " أجل هي شجرة أخي يونس " { وَأَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ } المراد به القوم الذين بعث إليهم قبل الالتقام فتكون « قد » مضمرة { أَوْ يَزِيدُونَ } في مرأى الناظر أي إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر . وقال الزجاج : قال غير واحد : معناه بل يزيدون . قال ذلك الفراء وأبو عبيدة ونقل عن ابن عباس كذلك { فَـئَامَنُواْ } به وبما أرسل به { فَمَتَّعْنَـٰهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } إلى منتهى آجالهم . { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلْبَنُونَ } معطوف على مثله في أول السورة أي على { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } وإن تباعدت بينهما المسافة . أمر رسول الله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولاً ، ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها حيث جعلوا لله تعالى الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم الملائكة بنات الله مع كراهتهم الشديدة لهن ووأدهم واستنكافهم من ذكرهن { أَمْ خَلَقْنَا ٱلْمَلَـٰئِكَةَ إِنَـٰثاً وَهُمْ شَـٰهِدُونَ } حاضرون تخصيص علمهم بالمشاهدة استهزاء بهم وتجهيل لهم لأنهم كما لم يعلموا ذلك مشاهدة لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ولا بإخبار صادق ولا بطريق استدلال ونظر ، أو معناه أنهم يقولون ذلك عن طمأنينة نفس لإفراط جهلهم كأنهم شاهدوا خلقهم { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } في قولهم . { أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ عَلَىٰ ٱلْبَنِينَ } بفتح الهمزة للاستفهام ، وهو استفهام توبيخ . وحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } هذا الحكم الفاسد . { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } بالتخفيف : حمزة وعلي وحفص { أَمْ لَكُمْ سُلْطَـٰنٌ مُّبِينٌ } حجة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله { فَأْتُواْ بِكِتَـٰبِكُمْ } الذي أنزل عليكم { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } في دعواكم { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ } بين الله { وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ } الملائكة لاستتارهم { نَسَباً } وهو زعمهم أنهم بناته أو قالوا إن الله تزوج من الجن فولدت له الملائكة { وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } ولقد علمت الملائكة إن الذين قالوا هذا القول لمحضرون في النار { سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } نزه نفسه عن الولد والصاحبة { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } استثناء منقطع من المحضرين معناه ولكن المخلصين ناجون من النار و { سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ } اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه ، ويجوز أن يقع الاستثناء من واو { يَصِفُونَ } أي يصفه هؤلاء بذلك ولكن المخلصون براء من أن يصفوه به { فَإِنَّكُمْ } يا أهل مكة { وَمَا تَعْبُدُونَ } ومعبوديكم { مَآ أَنتُمْ } وهم جميعاً { عَلَيْهِ } على الله { بِفَـٰتِنِينَ } بمضلين { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ ٱلْجَحِيمِ } بكسر اللام أي لستم تضلون أحداً إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها . يقال : فتن فلان على فلان امرأته كما تقول أفسدها عليه . وقال الحسن : فإنكم أيها القائلون بهذا القول والذي تعبدونه من الأصنام ، ما أنتم على عبادة الأوثان بمضلين أحداً إلا من قدر عليه أن يصلى الجحيم أي يدخل النار . وقيل : ما أنتم بمضلين إلا من أوجبت عليه الضلال في السابقة . و « ما » في { مَا أَنتُمْ } نافية و « من » في موضع النصب بـ { فاتنين } وقرأ الحسن { هُوَ صالُ ٱلْجَحِيمِ } بضم اللام ، ووجهه أن يكون جمعاً فحذفت النون للإضافة وحذفت الواو لالتفاء الساكنين هي واللام في الجحيم ومن موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالون على معناه . { وَمَا مِنَّا } أحد { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } في العبادة لا يتجاوزه فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه { وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ } نصف أقدامنا في الصلاة أو نصف حول العرش داعين للمؤمنين { وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ } المنزهون أو المصلون . والوجه أن يكون هذا وما قبله من قوله { سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } من كلام الملائكة حتى يتصل بذكرهم في قوله { وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ } كأنه قيل : ولقد علم الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا سبحان الله ، فنزهوه عن ذلك واستثنوا عباد الله المخلصين وبرؤوهم منه وقالوا للكفرة : فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه وتضلوه إلا من كان من أهل النار ، وكيف نكون مناسبين لرب العزة وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه لكل منا مقام معلوم من الطاعة لا يستطيع أن يزل عنه ظفراً خشوعاً لعظمته ، ونحن الصافون أقدامنا لعبادته مسبحين ممجدين كما يجب على العباد لربهم ؟ وقيل : هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله من قوله تعالى : { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ] ثم ذكر أعمالهم وأنهم الذين يصطفون في الصلاة ويسبحون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه . { وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ } أي مشركو قريش قبل مبعثه عليه السلام { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ ٱلأَوَّلِينَ } أي كتاباً من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل { لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا كما كذبوا ولما خالفنا كما خالفوا ، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب { فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } مغبة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام . و « إن » مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وفي ذلك أنهم كانوا يقولونه مؤكدين للقول جادين فيه فكم بين أول أمرهم وآخره { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ } الكلمة قوله { إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ } وإنما سماها كلمة وهي كلمات لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة ، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة . وعن الحسن : ما غلب نبي في حرب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في العقبى . والحاصل أن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه الظفر والنصرة وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة والعبرة للغالب . { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } فأعرض عنهم { حَتَّىٰ حِينٍ } إلى مدة يسيرة وهي المدة التي أمهلوا فيها أو إلى يوم بدر أو إلى فتح مكة { وَأَبصِرْهُمْ } أي أبصر ما ينالهم يومئذ { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } ذلك وهو للوعيد لا للتبعيد ، أو انظر إليهم إذا عذبوا فسوف يبصرون ما أنكروا ، أو أعلمهم فسوف يعلمون . { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } قبل حينه { فَإِذَا نَزَلَ } العذاب { بِسَاحَتِهِمْ } بفنائهم { فَسَآءَ صَبَاحُ ٱلْمُنْذَرِينَ } صباحهم . واللام في { ٱلْمُنْذَرِينَ } مبهم في جنس من أنذروا ، لأن « ساء » و « بئس » يقتضيان ذلك . وقيل : هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة . مثّل العذاب النازل بهم بعدما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض نصّاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة ، وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحاً فسميت الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } وإنما ثنى ليكون تسلية على تسلية وتأكيداً لوقوع الميعاد إلى تأكيد ، وفيه فائدة زائدة وهي إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول وأنه يبصروهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة . وقيل : أريد بأحدهما عذاب الدنيا وبالآخرة عذاب الآخرة . { سُبْحَـٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ } أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق ، ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد إلا وهو ربها ومالكها كقوله ، { تعز مَن تَشَاء } [ آل عمران : 26 ] { عَمَّا يَصِفُونَ } من الولد والصاحبة والشريك { وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ } عم الرسل بالسلام بعدما خص البعض في السورة لأن في تخصيص كل بالذكر تطويلاً { وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء . اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوه إليه مما هو منزه عنه وما عاناه المرسلون من جهتهم وما خولوه في العاقبة من النصرة عليهم ، فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون والتسليم على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين على ما قيض لهم من حسن العواقب . والمراد تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يخلّوا به ولا يغفلوا عن مضمنات كتاب الكريم ومودعات قرآنه المجيد . وعن علي رضي الله عنه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه { سُبْحَـٰنَ رَبّكَ رَبّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } .