Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 51-60)

Tafsir: Lubāb at-taʾwīl fī maʿānī at-tanzīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } لما أخبر الله عز وجل في الآية المتقدمة أن كل ما في السموات والأرض خاضعون لله ، منقادون لأمره عابدون له ، وأنهم في ملكه وتحت قدرته ، وقبضته نهى في هذه الآية عن الشرك ، وعن اتخاذ إلهين اثنين فقال { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } قال الزجاج : ذكر الاثنين توكيداً لقوله إلهين وقال : صاحب النظم : فيه تقديم وتأخير تقديره ، لا تتخذوا اثنين إلهين يعني أن الاثنين لا يكون كل واحد منهما إلهاً ، ولكن اتخذوا إلهاً واحداً ، وهو قوله تبارك وتعالى { إنما هو إله واحد } لأن الإلهين لا يكونان إلا متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال والقدرة والإرادة ، فصارت الاثنينية منافية للإلهية ، وذلك قوله تعالى إنما هو إله واحد يعني لايجوز أن يكون في الوجود إلهان اثنان إنما هو إله واحد { فإياي فارهبون } يعني فخافون والرهب مخافة مع حزن واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور ، وهو من طريق الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله ، فإياه فارهبوا فهو من بديع الكلام وبليغه وقوله فإياي يفيد الحصر ، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه ولا يرغبون إلا إليه وإلى كرمه وفضله وإحسانه { وله ما في السموات والأرض } لما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أن إله العالم لا شريك له في الإلهية ، وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيداً له وفي ملكه وتصرفه ، وتحت قدرته فذلك قوله تعالى وله ما في السموات والأرض يعني ، عبيداً وملكاً { وله الدين واصباً } يعني وله العبادة والطاعة وإخلاص العمل دائماً ثابتاً والواصب : الدائم . قال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت ، إلا الحق سبحانه وتعالى فإن طاعته واجبه أبداً ، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائماً أبداً { أفغير الله تتقون } يعني أنكم عرفتم أن الله واحد لا شريك له في ملكه ، وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه فبعد هذه المعرفة كيف تخافون غيره ، وتتقون سواه فهو استفهام بمعنى التعجب وقيل هو استفهام على طريق الإنكار . قوله عز وجل { وما بكم من نعمة فمن الله } يعني من نعمة الإسلام ، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق ، وكل ما أعطاكم من مال أو ولد فكل ذلك من الله تعالى ، إنما هو المتفضل بها على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه . ولما بين في الآية المتقدمة أنه يجب على جميع العباد أن لا يخافوا إلا الله تعالى بين في هذه الآية أن جميع النعم منه لا يشكر عليها إلا إياه ، لأنه هو المتفضل بها على عباده فيجب عليهم شكره عليها { ثم إذا مسَّكم الضر } أي الشدة والأمراض والأسقام { فإليه تجأرون } يعني إليه تستغيثون ، وتصيحون وتضجون بالدعاء ليكشف عنكم ما نزل بكم من الضرر والشدة وأصل الجؤار هو رفع الصوت الشديد ، ومنه جؤار البقر . والمعنى أن النعم لما كانت كلها ابتداء منه فإن حصل شدة ، وضر في بعض الأوقات فلا يلجأ إلا إليه ولا يدعي إلا إياه ليكشفها ، فإنه هو القادر على كشفها وهو قوله تعالى { ثم إذا كشف الضر عنكم } يعني ثم إذا أزال الشدة ، والبلاء عنكم { إذا فريق منكم } يعني طائفة وجماعة منكم { بربهم يشركون } يعني أنهم يضيفون كشف الضر إلى العوائد ، والأسباب ولا يضيفونه إلى الله عز وجل فهذا من جملة شركهم الذي كانوا عليه ، وإنما قسمهم فريقين لأن فريق المؤمنين لا يرون كشف الضر إلا من الله تعالى { ليكفروا بما آتيناهم } قيل : إن هذه اللام لام كي ويكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر عنهم وقيل : إنها لام العاقبة والمعنى عاقبة أمرهم ، هو كفرهم بما آتيناهم من النعماء وكشفنا عنهم الضر والبلاء { فتمتعوا } لفظة أمر والمراد منه التهديد والوعيد . يعني : فعيشوا في اللذة التي أنتم فيها إلى المدة التي ضربها الله لكم { فسوف تعلمون } يعني عاقبة أمركم إلى ماذا تصير ، وهو نزول العذاب بكم . قوله سبحانه وتعالى { ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً } قيل الضمير في قوله : لما لا يعلمون عائد إلى المشركين يعني أن المشركين لا يعلمون . وقيل إنه عائد إلى الأصنام يعني أن الأصنام لا تعلم شيئاً ألبتة لأنها جماد والجماد لا علم له ، ومنهم من رجح القول الأول لأن نفي العلم عن الحي حقيقة ، وعن الجماد مجاز فكان عود الضمير إلى المشركين أولى ، لأنه قال لما لا يعلمون فجمعهم بالواو والنون ، وهو جمع لمن يعقل ومنهم من رجع القول الثاني . قال : لأنا إذا قلنا أنه عائد إلى المشركين احتجنا إلى إضمار فيكون المعنى : ويجعلون يعني المشركين لما لا يعلمون أنه إله ولا إله حتى نصيباً وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام لم نحتج إلى هذا الاضمار لأنها لا علم لها ، ولا فيهم وقوله { مما رزقناهم } يعني أن المشركين جعلوا للأصنام نصيباً من حروثهم وأنعامهم وأموالهم التي رزقهم الله ، وقد تقدم تفسيره في سورة الأنعام { تالله } أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة ، وهو قوله تعالى { لتسألن عما كنتم تفترون } يعني عما كنتم تكذبون في الدنيا في قولكم ، إن هذه الأصنام آلهة وإن لها نصيباً من أموالكم ، وهذا التفات من الغيبة إلى الحضور ، وهو من بديع الكلام وبليغه { ويجعلون لله البنات } هم خزاعة وكنانة قالوا : الملائكة بنات الله وإنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون كالنساء ، أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم { سبحانه } نزه الله نفسه عن الولد والبنات { ولهم ما يشتهون } يعني : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني البنين { وإذا بشر أحدهم بالأنثى } البشارة عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به ، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه كان كذلك الحزن ، والغم يظهر أثره على الوجه وهو الكمودة التي تعلو الوجه ، عند حصول الحزن والغم فثبت بهذا أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار والخبر المحزن ، فصح قوله : وإذا بشر أحدهم بالأنثى { ظل وجهه مسوداً } يعني متغيراً من الغم والحزن والغيظ والكراهة التي حصلت له عند هذه البشارة ، والمعنى أن هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت الأنثى أن تنسب إليه فكيف يرضى أن ينسبها إلى الله تعالى ففيه تبكيت لهم وتوبيخ . وقوله سبحانه وتعالى { وهو كظيم } يعني أنه ظل ممتلئاً غماً وحزناً { يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به } يعني أنه يختفي من ذلك القول الذي بشر به ، وذلك أن العرب كانوا في الجاهلية إذا قربت ولادة زوجة أحدهم ، توارى من القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن كان ولداً ابتهج بذلك وظهر وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياماً حتى يفكر ما يصنع بها وهو قوله تعالى { أيمسكه على هون } يعني على هوان ، وإنما ذكر الضمير في أيمسكه لأنه عائد إلى ما بشر به في قوله ، وإذا بشر أحدهم { أم يدسه في التراب } يعني أم يخفي الذي بشر به في التراب والدس إخفاء الشيء في الشيء قال أهل التفسير : إن مضر وخزاعة وتميماً كانوا يدفنون البنات أحياء ، والسبب في ذلك إما خوف الفقر وكثر العيال ولزوم النفقة أو الحمية فيخافون عليهن من الأسر ونحوه ، أو طمع غير الأكفّاء فيهن فكان الرجل من العرب في الجاهلية ، إذا ولدت له بنت أراد أن يستحييها تركها حتى إذا كبرت ألبسها جبة من صوف أو شعر ، وجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية ، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية ، قال لأمها : زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ويكون قد حفر لها حفرة في الصحراء فإذا بلغ بها تلك الحفرة قال لها : انظري إلى هذه البئر فإذا نظرت إليها دفعها من خلفها في تلك البئر ، ثم يهيل التراب على رأسها وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه بإبل إلى والد البنت حتى يحييها بذلك فقال الفرزدق يفتخر بذلك : @ وعمي الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم يوأد @@ عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الوائدة والموؤدة في النار " أخرجه أبو داود . وقوله تعالى { ألا ساء ما يحكمون } يعني بئس ما يصنعون ويقضون حيث يجعلون لله خلقهم البنات ، وهم يستنكفون منهن ويجعلون لأنفسهم البنين نظيره قوله سبحانه وتعالى { ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى } [ النجم : 21 - 22 ] وقيل : معناه ألا ساء ما يحكمون في وأد البنات { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } يعني صفة السوء من احتياجاتهم إلى الولد الذكر وكراهتهم الإناث وقتلهن خوف الفقر { ولله المثل الأعلى } أي الصفة العليا المقدسة ، وهي أن له التوحيد وأنه المنزه عن الولد وأنه لا إله إلا هو وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء السرمدي ، وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه . وقال ابن عباس : مثل السوء النار والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله { وهو العزيز } أي الممتنع في كبريائه وجلاله { الحكيم } يعني في جميع أفعاله .