Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 109, Ayat: 1-6)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي قوله : { قل } دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله ، وخطابه لهم بيا أيها الكافرون في ناديهم ، ومكان بسطة أيديهم مع ما في الوصف من الأرذال بهم دليل على أنه محروس من عند الله تعالى لا يبالي بهم . والكافرون ناس مخصوصون ، وهم الذين قالوا له تلك المقالة : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطلب ، وأمية وأبيّ ابنا خلف ، وأبو جهل ، وابنا الحجاج ونظراؤهم ممن لم يسلم ، ووافى على الكفر تصديقاً للإخبار في قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } . وللمفسرين في هذه الجمل أقوال : أحدها : أنها للتوكيد . فقوله : { ولا أنا عابد ما عبدتم } توكيداً لقوله : { لا أعبد ما تعبدون } ، وقوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ثانياً تأكيد لقوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } أولاً . والتوكيد في لسان العرب كثير جداً ، وحكوا من ذلك نظماً ونثراً ما لا يكاد يحصر . وفائدة هذا التوكيد قطع أطماع الكفار ، وتحقيق الأخبار بموافاتهم على الكفر ، وأنهم لا يسلمون أبداً . والثاني : أنه ليس للتوكيد ، واختلفوا . فقال الأخفش : المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون السنة ما أعبد ، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد ، فزال التوكيد ، إذ قد تقيدت كل جملة بزمان مغاير . وقال أبو مسلم : ما في الأوليين بمعنى الذي ، والمقصود المعبود . وما في الأخريين مصدرية ، أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر ، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين . وقال ابن عطية : لما كان قوله : { لا أعبد } محتملاً أن يراد به الآن ، ويبقى المستأنف منتظراً ما يكون فيه ، جاء البيان بقوله : { ولا أنا عابد ما عبدتم } أبداً وما حييت . ثم جاء قوله : { ولا أنتم عـابدون ما أعبد } الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون به أبداً ، كالذي كشف الغيب . فهذا كما قيل لنوح عليه السلام : { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [ هود : 36 ] أما أن هذا في معينين ، وقوم نوح عموا بذلك ، فهذا معنى الترديد الذي في السورة ، وهو بارع الفصاحة ، وليس بتكرار فقط ، بل فيه ما ذكرته ، انتهى . وقال الزمخشري : { لا أعبد } ، أريدت به العبادة فيما يستقبل ، لأن لا لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال ، والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي . { ولا أنا عابد ما عبدتم } : أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه ، يعني : لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام ؟ { ولا أنتم عابدون ما أعبد } : أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته . فإن قلت : فهلا قيل ما عبدت كما قيل ما عبدتم ؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث ، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت ، انتهى . أما حصره في قوله : لأن لا لا تدخل ، وفي قوله : ما لا تدخل ، فليس بصيح ، بل ذلك غالب فيهما لا متحتم . وقد ذكر النحاة دخول لا على المضارع يراد به الحال ، ودخول ما على المضارع يراد به الاستقبال ، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو ؛ ولذلك لم يورد سيبويه ذلك بأداة الحصر ، إنما قال : وتكون لا نفياً لقوله يفعل ولم يقع الفعل . وقال : وأما ما فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كان في حال الفعل ، فذكر الغالب فيهما . وأما قوله : في قوله { ولا أنا عابد ما عبدتم } : أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه ، فلا يستقيم ، لأن عابداً اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم ، فلا يفسر بالماضي ، إنما يفسر بالحال أو الاستقبال ؛ وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي وهشام من جواز إعماله ماضياً . وأما قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } : أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته ، فعابدون قد أعمله فيما أعبد ، فلا يفسر بالماضي . وأما قوله ، وهو لم يكن إلى آخره ، فسوء أدب منه على منصب النبوة ، وهو أيضاً غير صحيح ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل موحداً لله عز وجل منزهاً له عن كل ما لا يليق بجلاله ، مجتنباً لأصنامهم بحج بيت الله ، ويقف بمشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام . وهذه عبادة لله تعالى ، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم ! والمعرفة بالله تعالى من أعظم العبادات ، قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] قال المفسرون : معناه ليعرفون . فسمى الله تعالى المعرفة به عباده . والذي أختاره في هذه الجمل أنه أولاً : نفى عبادته في المستقبل ، لأن لا الغالب أنها تنفي المستقبل ، قيل : ثم عطف عليه { ولا أنتم عابدون ما أعبد } نفياً للمستقبل على سبيل المقابلة ؛ ثم قال : { ولا أنا عابد ما عبدتم } نفياً للحال ، لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال ؛ ثم عطف عليه { ولا أنتم عابدون ما أعبد } نفياً للحال على سبيل المقابلة ، فانتظم المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد ما يعبدون ، لا حالاً ولا مستقبلاً ، وهم كذلك ، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر . ولما قال : { لا أعبد ما تعبدون } ، فأطلق ما على الأصنام ، قابل الكلام بما في قوله : { ما أعبد } ، وإن كانت يراد بها الله تعالى ، لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ مع الانفراد ، وهذا على مذهب من يقول : إن ما لا تقع على آحاد من يعلم . أما من جوّز ذلك ، وهو منسوب إلى سيبويه ، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل . وقيل : ما مصدرية في قوله : { ما أعبد } . وقيل : فيها جميعها . وقال الزمخشري : المراد الصفة ، كأنه قيل : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق . { لكم دينكم ولي دين } : أي لكم شرككم ولي توحيدي ، وهذا غاية في التبرؤ . ولما كان الأهم انتفاءه عليه الصلاة والسلام من دينهم ، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه . ولما تحقق النفي رجع إلى خطابهم في قوله : { لكم دينكم } على سبيل المهادنة ، وهي منسوخة بآية السيف . وقرأ سلام : ديني بياء وصلاً ووقفاً ، وحذفها القراء السبعة ، والله تعالى أعلم .