Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 111, Ayat: 1-5)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وتقدم الكلام على التباب في سورة غافر ، وهنا قال ابن عباس : خابت ، وقتادة : خسرت ، وابن جبير : هلكت ، وعطاء : ضلت ، ويمان بن رياب : صفرت من كل خير ، وهذه الأقوال متقاربة في المعنى . وقالوا فيما حكى إشابة : أم تابة : أي هالكة من الهرم والتعجيز . وإسناد الهلاك إلى اليدين ، لأن العمل أكثر ما يكون بهما ، وهو في الحقيقة للنفس ، كقوله : { ذلك بما قدمت يداك } [ الحج : 10 ] وقيل : أخذ بيديه حجراً ليرمي به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأسند التب إليهما . والظاهر أن التب دعاء ، وتب : إخبار بحصول ذلك ، كما قال الشاعر : @ جزاني جزاه الله شرّ جزائه جزاء الكلاب العاويات وقد فعل @@ ويدل عليه قراءة عبد الله : وقد تب . روي أنه لما نزل : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] قال : " يا صفية بنت عبد المطلب ، يا فاطمة بنت محمد ، لا أغني لكما من الله شيئاً ، سلاني من مالي ما شئتما ثم صعد الصفا ، فنادى بطون قريش : يا بني فلان يا بني فلان . وروي أنه صاح بأعلى صوته : « يا صباحاه » . فاجتمعوا إليه من كل وجه ، فقال لهم : « أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلاً بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقي ؟ » قالوا : نعم ، قال : « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » . فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ فافترقوا عنه ، ونزلت هذه السورة " وأبو لهب اسمه عبد العزى ، ابن عم المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرأ ابن محيصن وابن كثير : أبي لهب بسكون الهاء ، وفتحها باقي السبعة ولم يختلفوا في ذات لهب ، لأنها فاصلة ، والسكون يزيلها على حسن الفاصلة . قال الزمخشري : وهو من تغيير الأعلام ، كقولهم : شمس مالك بالضم . انتهى ، يعني : سكون الهاء في لهب وضم الشين في شمس ، ويعني في قول الشاعر : @ وإني لمهد من ثنائي فقاصد به لابن عمي الصدق شمس بن مالك @@ فأما في لهب ، فالمشهور في كنيته فتح الهاء ، وأما شمس بن مالك ، فلا يتعين أن يكون من تغيير الأعلام ، بل يمكن أن يكون مسمى بشمس المنقول من شمس الجمع ، كما جاء أذناب خيل شمس . قيل : وكني بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه ، ولم يذكره تعالى باسمه لأن اسمه عبد العزى ، فعدل عنه إلى الكنية ، أو لأن الكنية كانت أغلب عليه من الاسم ؛ أو لأن مآله إلى النار ، فوافقت حالته كنيته ، كما يقال للشرير : أبو الشر ، وللخير أبو الخير ؛ أو لأن الاسم أشرف من الكنية ، فعدل إلى الأنقص ؛ ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم ولم يكنّ أحداً منهم . والظاهر أن ما في { ما أغنى عنه ماله } نفي ، أي لم يغن عنه ماله الموروث عن آبائه ، وما كسب هو بنفسه أو ماشيته ، وما كسب من نسلها ومنافعها ، أو ما كسب من أرباح ماله الذي يتجر به . ويجوز أن تكون ما استفهاماً في موضع نصب ، أي : أيّ شيء يغني عنه ماله على وجه التقرير والإنكار ؟ والمعنى : أين الغني الذي لماله ولكسبه ؟ والظاهر أن ما في قوله : { وما كسب } موصولة ، وأجيز أن تكون مصدرية . وإذا كانت ما في { ما أغنى } استفهاماً ، فيجوز أن تكون ما في { وما كسب } استفهاماً أيضاً ، أي : وأي شيء كسب ؟ أي لم يكسب شيئاً . وعن ابن عباس : { وما كسب } ولده . وفي الحديث : " ولد الرجل من كسبه " وعن الضحاك : { وما كسب } هو عمله الخبيث في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم . وعن قتادة : وعمله الذي ظن أنه منه على شيء . وروي عنه أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً ، فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي . وقرأ عبد الله : وما اكتسب بتاء الافتعال . وقرأ أبو حيوة وابن مقسم وعباس في اختياره ، وهو أيضاً سيصلى بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام ، ومريئته ؛ وعنه أيضاً : ومريته على التصغير فيهما بالهمز وبإبدالها ياء وإدغام ياء التصغير فيها . وقرأ أيضاً : حمالة للحطب ، بالتنوين في حمالة ، وبلام الجر في الحطب . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : سيصلى بضم الياء وسكون الصاد ؛ وأبو قلابة : حاملة الحطب على وزن فاعلة مضافاً ، واختلس حركة الهاء في وامرأته أبو عمرو في رواية ؛ والحسن وزيد بن علي والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن محيصن وعاصم : حمالة بالنصب . وقرأ الجمهور : { سيصلى } بفتح الياء وسكون الصاد ، { وامرأته } على التكبير ، { حمالة } على وزن فعالة للمبالغة مضافاً إلى الحطب مرفوعاً ، والسين للاستقبال وإن تراخى الزمان ، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة . وارتفع { وامرأته } عطفاً على الضمير المستكن في { سيصلى } ، وحسنه وجود الفصل بالمفعول وصفته ، و { حمالة } في قراءة الجمهور خبر مبتدأ محذوف ، أو صفة لامرأته ، لأنه مثال ماض فيعرف بالإضافة ، وفعال أحد الأمثلة الستة وحكمها كاسم الفاعل . وفي قراءة النصب ، انتصب على الذم . وأجازوا في قراءة الرفع أن يكون { وامرأته } مبتدأ ، وحمالة ، واسمها أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ، وكانت عوراء . والظاهر أنها كانت تحمل الحطب ، أي ما فيه شوك ، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لتعقرهم ، فذمت بذلك وسميت حمالة الحطب ، قاله ابن عباس . فحمالة معرفة ، فإن كان صار لقباً لها جاز فيه حالة الرفع أن يكون عطف بيان ، وأن يكون بدلاً . قيل : وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة والسدي : كانت تمشي بالنميمة ، ويقال للمشاء بها : يحمل الحطب بين الناس ، أي يوقد بينهم النائرة ويورث الشر . قال الشاعر : @ من البيض لم يصطد على ظهر لامه ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب @@ جعله رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر . وقال الراجز : @ إن بني الأرزم حمالو الحطب هم الوشاة في الرضا وفي الغضب @@ وقال ابن جبير : حمالة الخطايا والذنوب ، من قولهم : يحطب على ظهره . قال تعالى : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } [ الأنعام : 31 ] . وقيل : الحطب جمع حاطب ، كحارس وحرس ، أي يحمل الجناة على الجنايات ، والظاهر أن الحبل من مسد . وقال عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان : استعارة ، والمراد سلسلة من حديد في جهنم . وقال قتادة : قلادة من ودع . وقال ابن المسيب : قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقنها على عداوة محمد . قال ابن عطية : وإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها ، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث ، انتهى . وقال الحسن : إنما كانت خرزاً . وقال الزمخشري : والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها ، كما يفعل الحطابون تخسيساً لحالها وتحقيراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة . ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب ، فقال : @ ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي أم ما تعير من حمالة الحطب غرساء شاذخة في المجد سامية كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب @@ ويحتمل أن يكون المعنى : إن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك ، فلا يزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو الضريع ، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار ، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه ، انتهى . ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر ، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر ، فقالت : بلغني أن صاحبك هجاني ، ولأفعلنّ وأفعلن ؛ وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فروي أن أبا بكر ، رضي الله تعالى عنه ، قال لها : هل تري معي أحداً ؟ فقالت : أتهزأ بي ؟ لا أرى غيرك . وإن كان شاعراً فأنا مثله أقول : @ مذمماً أبينا ودينه قلينا وأمـره عصينـا @@ فسكت أبو بكر ومضت هي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله شرها " وذكر أنها ماتت مخنوقة بحبلها ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال .