Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 3-6)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

القصص : مصدر قص ، واسم مفعول إما لتسميته بالمصدر ، وأما لكون الفعل يكون للمفعول ، كالقبض والنقص . والقصص هنا يحتمل الأوجه الثلاثة . فإن كان المصدر فالمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة ، وأحسن أسلوب . ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين ، وفي كتب التواريخ ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن ، وإن كان المفعول فكان أحسنه لما يتضمن من العبر والحكم والنكت والعجائب التي ليس في غيره . والظاهر أنه أحسن ما يقص في بابه كما يقال للرجل : هو أعلم الناس وأفضلهم ، يراد في فنه . وقيل : كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها من ذكر الأنبياء ، والصالحين ، والملائكة ، والشياطين ، والجن ، والإنس ، والأنعام ، والطير ، وسير الملوك ، والممالك ، والتجار ، والعلماء ، والرجال ، والنساء وكيدهن ومكرهن ، مع ما فيها من ذكر التوحيد ، والفقه ، والسير ، والسياسة ، وحسن الملكة ، والعفو عند المقدرة ، وحسن المعاشرة ، والحيل ، وتدبير المعاش ، والمعاد ، وحسن العاقبة ، في العفة ، والجهاد ، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب ، وذكر الحبيب والمحبوب ، ومرأى السنين وتعبير الرؤيا ، والعجائب التي تصلح للدين والدنيا . وقيل : كانت أحسن القصص لأنّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة . انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز والملك أسلم بيوسف وحسن إسلامه . ومعبر الرؤيا الساقي ، والشاهد فيما يقال . وقيل : أحسن هنا ليست أفعل التفضيل ، بل هي بمعنى حسن ، كأنه قيل : حسن القصص ، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي : القصص الحسن . وما في بما أوحينا مصدرية أي : بإيحائنا . وإذا كان القصص مصدراً فمفعول نقص من حيث المعنى هو هذا القرآن ، إلا أنه من باب الإعمال ، إذ تنازعه نقص . وأوحينا فاعمل الثاني على الأكثر ، والضمير في من قبله يعود على الإيحاء . وتقدمت مذاهب النحاة في أن المخففة ومجيء اللام في ثاني الجزءين . ومعنى من الغافلين : لم يكن لك شعور بهذه القصة ، ولا سبق لك علم فيها ، ولا طرق سمعك طرف منها . والعامل في إذ قال الزمخشري وابن عطية : اذكر . وأجاز الزمخشري أن تكون بدلاً من أحسن القصص قال : وهو بدل اشتمال ، لأن الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص ، فإذا قص وقته فقد قص . وقال ابن عطية : ويجوز أن يعمل فيه نقص كان المعنى : نقص عليك الحال ، إذ وهذه التقديرات لا تتجه حتى تخلع إذ من دلالتها على الوقت الماضي ، وتجرد للوقت المطلق الصالح للأزمان كلها على جهة البدلية . وحكى مكي أنّ العامل في إذ الغافلين ، والذي يظهر أن العامل فيه قال : يا بني ، كما تقول : إذ قام زيد قام عمر ، وتبقى إذ على وضعها الأصلي من كونها ظرفاً لما مضى . ويوسف اسم عبراني ، وتقدمت ست لغات فيه . ومنعه الصرف دليل على بطلان قول من ذهب إلى أنه عربي مشتق من الأسف ، وإن كان في بعض لغاته يكون فيه الوزن الغالب ، لامتناع أن يكون أعجمياً غير أعجمي . وقرأ طلحة بن مصرف بالهمز وفتح السين . وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ، والأعرج : يا أبت بفتح التاء ، وباقي السبعة والجمهور بكسرها ، ووقف الابنان عليها بالهاء ، وهذه التاء عوض من ياء الإضافة فلا يجتمعان ، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء قال : يا أبتا علك أو عساكا . ووجه الاقتصار على التاء مفتوحة أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف ، أو رخم بحذف التاء ، ثم أقحمت قاله أبو علي . أو الألف في أبتا للندبة ، فحذفها قاله : الفراء ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، وقطرب . ورد بأنه ليس موضع ندبة أو الأصل يا أبة بالتنوين ، فحذف والنداء ناد حذف قاله قطرب ، ورد بأنّ التنوين لا يحذف من المنادي المنصوب نحو : يا ضارباً رجلاً ، وفتح أبو جعفر ياء إني . وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وطلحة بن سليمان : أحد عشر بسكون العين لتوالي الحركات ، وليظهر جعل الاسمين اسماً واحداً . ورأيت هي حلمية لدلالة متعلقها على أنه منام ، والظاهر أنه رأى في منامه كواكب الشمس والقمر . وقيل : رأى إخوته وأبويه ، فعبر عنهم بذلك ، وعبر عن الشمس عن أمه . وقيل : عن خالته راحيل ، لأنّ أمه كانت ماتت . ومن حديث جابر بن عبد الله : أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف ، فسكت عنه ، ونزل جبريل فأخبره بأسمائها ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي فقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك ؟ فقال : نعم . قال : جريان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكتفين ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروح ، والفرغ ، والضياء ، والنور . فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها . وذكر السهيلي مسنداً إلى الحرث بن أبي أسامة فذكر الحديث ، وفيه بعض اختلاف ، وذكر النطح عوضاً عن المصبح . وعن وهب أن يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة ، وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها ، فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب سجوداً له فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل ، وكان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة ، وقيل : ثمانون . وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة . والظاهر أنّ الشمس والقمر ليسا مندرجين في الأحد عشر كوكباً ، ولذلك حين عدهما الرسول لليهودي ذكر أحد عشر كوكباً غير الشمس والقمر ، ويظهر من كلام الزمخشري أنهما مندرجان في الأحد عشر . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم أخر الشمس والقمر ؟ ( قلت ) : أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص إثباتاً لفضلهما ، واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع ، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ثم عطفهما عليهما . لذلك ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ، أي : رأيت الكواكب مع الشمس والقمر انتهى . والذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جرياً على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه . قال تعالى : { الشمس والقمر بحسبان } [ الرحمن : 5 ] وقال : وجمع الشمس والقمر { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً } [ يونس : 5 ] وقدمت عليه لسطوع نورها وكبر جرمها وغرابة سيرها ، واستمداده منها ، وعلو مكانها . والظاهر أنّ رأيتهم كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل ، كما كرر إنكم في قوله { أَنكم مخرجون } [ المؤمنون : 35 ] لطول الفصل بالظرف وما تعلق به . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى تكرار رأيتهم ؟ ( قلت ) : ليس بتكرار ، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له ، كان يعقوب عليه السلام قال له عند قوله : إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ، كيف رأيتها سائلاً عن حال رؤيتها ؟ فقال : رأيتهم لي ساجدين انتهى . وجمعهم جمع من يعقل ، لصدور السجود له ، وهو صفة من يعقل ، وهذا سائغ في كلام العرب ، وهو أنْ يعطى الشيء حكم الشيء للاشتراك في وصف ما ، وإن كان ذلك الوصف أصله أن يخص أحدهما . والسجود : سجود كرامة ، كما سجدت الملائكة لآدم . وقيل : كان في ذلك الوقت السجود تحية بعضهم لبعض . ولما خاطب يوسف أباه بقوله : يا أبت ، وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه بقوله : يا بني ، تصغير التحبيب والتقريب والشفقة . وقرأ حفص هنا وفي لقمان ، والصافات : يا بني بفتح الياء . وابن كثير في لقمان { يا بني لا تشرك } [ لقمان : 13 ] وقنبل يا بنيْ أقمْ بإسكانها ، وباقي السبعة بالكسر . وقرأ زيد بن علي : لا تقص مدغماً ، وهي لغة تميم ، والجمهور بالفك وهي لغة الحجاز . والرؤيا مصدر كالبقيا . وقال الزمخشري : الرؤيا بمعنى الرؤية ، إلا أنها مختصة بما كان في النوم دون اليقظة ، فرق بينهما بحر في التأنيث كما قيل : القربة والقربى انتهى . وقرأ الجمهور : رؤياك والرؤيا حيث وقعت بالهمز من غير إمالة . وقرأ الكسائي : بالإمالة وبغير الهمز ، وهي لغة أهل الحجاز . وإخوة يوسف : هم كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ونفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويقال باللام كجبريل ، وجبرين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشير ، فيكيدوا لك : منصوب بإضمار أنْ على جواب النهي ، وعدي فيكيدوا باللام ، وفي { فكيدوني } [ هود : 55 ] بنفسه ، فاحتمل أن يكون من باب شكرت زيداً وشكرت لزيد ، واحتمل أن يكون من باب التضمين ، ضمّن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام ، فكأنه قال : فيحتالوا لك بالكيد ، والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين ، وللمبالغة أكد بالمصدر . ونبه يعقوب على سبب الكيد وهو : ما يزينه الشيطان للإنسان ويسوله له ، وذلك للعداوة التي بينهما ، فهو يجتهد دائماً أنْ يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويحضه عليها ، وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف عليهما السلام على أنّ الله تعالى يبلغه مبلغاً من الحكمة ، ويصطفه للنبوة ، وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه ، فخاف عليه من حسد إخوته ، فنهاه من أن يقص رؤياه لهم . وفي خطاب يعقوب ليوسف تنهيه عن أن يقص على إخوته مخافة كيدهم ، دلالة على تحذير المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه ، والتنبيه على بعض ما لا يليق ، ولا يكون ذلك داخلاً في باب الغيبة . وكذلك يجتبيك ربك أي : مثل ذلك الاجتباء ، وهو ما أراه من تلك الرؤيا التي دلت على جليل قدره ، وشريف منصبه ، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك . ويجتبيك : يختارك ربك للنبوة والملك . قال الحسن : للنبوة ، وقال مقاتل : للسجود لك ، وقال الزمخشري : لأمور عظام . ويعلمك من تأويل الأحاديث كلام مستأنف ليس داخلاً في التشبيه ، كأنه قال : وهو يعلمك . قال مجاهد والسدي : تأويل الأحاديث عبارة الرؤيا . وقال الحسن : عواقب الأمور ، وقيل : عامة لذلك ولغيره من المغيبات ، وقال مقاتل : غرائب الرؤيا ، وقال ابن زيد : العلم والحكمة . وقال الزمخشري : الأحاديث الرؤى ، لأن الرؤى إما حديث نفس أو ملك أو شيطان ، وتأويلها عبارتها وتفسيرها ، فكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا وأصحهم عبارة . ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسير الأنبياء ، وما غمض واشتبه على الناس في أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ، ويدلهم على مودعات حكمها . وسميت أحاديث لأنها تحدث بها عن الله ورسله فيقال : قال الله : وقال الرسول : كذا وكذا . ألا ترى إلى قوله : { فبأي حديث بعده يؤمنون } [ الأعراف : 185 ] { الله نزل أحسن الحديث } [ الزمر : 23 ] كتاباً وهي اسم جمع للحديث ، وليس بجمع أحدوثة انتهى . وليس باسم جمع كما ذكر ، بل هو جمع تكسير لحديث على غير قياس ، كما قالوا : أباطل وأباطيل ، ولم يأت اسم جمع على هذا الوزن . وإذا كانوا يقولون في عباديد ويناذير أنهما جمعا تكسير ولم يلفظ لهما بمفرد ، فكيف لا يكون أحاديث وأباطيل جمعي تكسير ؟ . ويتم نعمته عليك ، وإتمامها بأنه تعالى وصل لهم نعمة الدنيا بأن جعلهم أنبياء وملوكاً ، بنعمة الآخرة بأن نقلهم إلى أعلى الدرجات في الجنة . وقال مقاتل : بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك ، وقال الحسن : هذا شيء أعلمه الله يعقوب من أنه سيعطي يوسف النبوّة . وقيل : بأن يحوج إخوتك إليك ، فتقابل الذنب بالغفران ، والإساءة بالإحسان . وقيل : بإنجائك من كل مكروه . وآل يعقوب الظاهر أنه أولاده ونسلهم أي : نجعل النبوة فيهم . وقال الزمخشري : هم نسلهم وغيرهم . وقيل أهل دينه وأتباعهم ، كما جاء في الحديث : من آلك ؟ فقال : « كل تقي » وقيل : امرأته وأولاده الأحد عشر . وقيل : المراد يعقوب نفسه خاصة . وإتمام النعمة على إبراهيم بالخلة ، والإنجاء من النار ، وإهلاك عدوه نمروذ . وعلى إسحاق بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه . وسمي الجد وأبا الجد أبوين ، لأنهما في عمود النسب كما قال : { وإله آبائك } [ البقرة : 133 ] ولهذا يقولون : ابن فلان ، وإن كان بينهما عدة في عمود النسب . إن ربك عليم بمن يستحق الاجتباء ، حكيم يضع الأشياء مواضعها . وهذان الوصفان مناسبان لهذا الوعد الذي وعده يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام في قوله : وكذلك يجتبيك ربك قيل : وعلم يعقوب عليه السلام ذلك من دعوة إسحاق عليه السلام حين تشبه له بعيصو .