Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 31-34)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر تعالى حال الكفار وكفرهم نعمته ، وجعلهم له أنداداً ، وتهددهم أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم ، وإلزام عمودي الإسلام الصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة . ومعمول قل ، محذوف تقديره : أقيموا الصلاة يقيموا . ويقيموا مجزوم على جواب الأمر ، وهذا قول : الأخفش ، والمازني . ورد بأنه لا يلزم من القول إنْ يقيموا ، ورد هذا الردّ بأنه أمر المؤمنين بالإقامة لا الكافرين ، والمؤمنون حتى أمرهم الرسول بشيء فعلوه لا محالة . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون يقيموا جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله : قل وذلك أن تجعل قل في هذه الآية بمعنى بلّغ وأدّ الشريعة يقيموا الصلاة انتهى . وهذا قريب مما قبله ، إلا أن في ما قبله معمول القول : أقيموا ، وفي هذه الشريعة على تقدير بلِّغ الشريعة . وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن معمول قل هو قوله : يقيموا ، وهو أمر مجزوم بلام الأمر محذوفة على حد قول الشاعر : @ محمـد تفـد نفسـك كـل نفـس @@ أنشده سيبويه إلا أنه قال : إنّ هذا لا يجوز إلا في الشعر . وقال الزمخشري في هذا القول : وإنما جاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو قل ، عوض منه . ولو قيل : يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام ، لم يجز انتهى . وذهب المبرد إلى أنّ التقدير : قل لهم أقيموا يقيموا ، فيقيموا المصرح به جواب أقيموا المحذوف قيل . وهو فاسد لوجهين : أحدهما : أنّ جواب الشرط يخالف الشرط إما في الفعل ، أو في الفاعل ، أو فيهما . فأما إذا كان مثله فيما فهو خطأ كقولك : قم يقم ، والتقدير على هذا الوجه : أن يقيموا يقيموا . والوجه الثاني : أن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً . وقيل : التقدير أن تقل لهم أقيموا يقيموا قاله سيبويه فيما حكاه ابن عطية . وقال الفراء : جواب الأمر معه شرط مقدر تقول : أطع الله يدخلك الجنة ، أي إن تطعه يدخلك الجنة . ومخالفة هذا القول للقول قبله أنَّ الشرط في هذا مقدر بعد فعل الأمر ، وفي الذي قبله الأمر مضمن معنى الشرط . وقيل : هو مضارع بلفظ الخبر صرف عن لفظ الأمر ، والمعنى : أقيموا ، قاله أبو علي فرقة . ورد بأنه لو كان مضارعاً بلفظ الخبر ومعناه الأمر ، لبقي على إعرابه بالنون كقوله : { هل أدلكم على تجارة } [ الصف : 10 ] ثم قال : { تؤمنون } [ الصف : 11 ] والمعنى : آمنوا . واعتل أبو علي لذلك بأنه لما كان بمعنى الأمر بني يعني : على حذف النون ، لأن المراد أقيموا ، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك : يا زيد ، يعني على الضمة لما شبه بقبل وبعد انتهى ، ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدر في هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق ، إلا في قول ابن عطية فمتعلقه الشريعة فهو أعم ، إذ قدر قُلْ بمعنى بلِّغ وأدّ الشريعة . قال ابن عطية : ويظهر أن المقول هو الآية التي بعد أعني قوله : الله الذي خلق السموات والأرض انتهى . وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله تعالى الله الذي الآية تفكيك للكلام ، يخالفه ترتيب التركيب ، ويكون قوله : يقيموا الصلاة كلاماً مفلتاً من القول ومعموله ، أو يكون جواباً فصل به بين القول ومعموله ، ولا يترتب أن يكون جواباً ، لأن قوله : الله الذي خلق السموات والأرض ، لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جداً . واحتمل الصلاة أنْ يراد بها العموم أي : كل صلاة فرض وتطوع ، وأن يراد بها الخمس ، وبذلك فسرها ابن عباس . وفسر الإنفاق بزكاة الأموال . وتقدم إعراب { سراً وعلانيةً } [ البقرة : 274 ] وشرحها في أواخر البقرة . وقال أبو عبيدة : البيع هنا البذل ، والخلال المخالة ، وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة وهي المصاحبة انتهى . ويعني بالبذل مقابل شيء . وقال امرؤ القيس : @ صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ولست بمقلي الخلال ولا قال @@ وقال الأخفش : الخلال جمع خلة . وتقدم الخلاف في قراءة { لا بيع فيه ولا خلال } [ إبراهيم : 31 ] بالفتح أو بالرفع في البقرة ، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال ؟ ( قلت ) : من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات ، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستخرجوا بهداياهم أمثالها وخيراً منها ، وأما الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله : وما لا حد عنده من نعمة تجزي إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة ، ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله انتهى . ولما أطال تعالى الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء ، وكان حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته ، والشقاوة بالجهل ، بذلك ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته فقال : الله الذي خلق السموات والأرض وذكر عشرة أنواع من الدلائل فذكر أولاً إبداعه وإنشاء السموات والأرض ، ثم أعقب بباقي الدلائل ، وأبرزها في جمل مستقلة ليدل وينبّه على أنّ كل جملة منها مستقلة في الدلالة ، ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد ، والله مرفوع على الابتداء ، والذي خبره . قال ابن عطية : ومن أخبر بهذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق انتهى . يشير إلى ما تقدم من قوله : إنّ معمول قل هو قوله تعالى الله الذي خلق السموات والأرض الآية . فكأنه يقول : يقيموا الصلاة ، جواب لقوله : قل لعبادي الله الذي خلق السموات والأرض . والظاهر أن مفعول أخرج هو رزقاً لكم ، ومِنْ للتبعيض . ولما تقدّم على النكرة كان في موضع الحال ، ويكون المعنى : إن الرزق هو بعض جنى الأشجار ، ويخرج منها ما ليس برزق كالمجرد للمضرات . ويجوز أن تكون مِن لبيان الجنس قاله ابن عطية والزمخشري ، وكأنه قال : فأخرج به رزقاً لكم هو الثمرات . وهذا ليس بجيد ، لأنّ من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ، ورزقاً حالاً من المفعول ، أو نصباً على المصدر من أخرج ، لأنه في معنى رزق . وقيل : من زائدة ، وهذا لا يجوز عند جمهور البصريين ، لأنّ ما قبلها واجب ، وبعدها معرفة ، ويجوز عند الأخفش . والفلك هنا جمع فلك ، ولذلك قال : لتجري . ومعنى بأمره : راجع إلى الأمر القائم بالذات . وقال الزمخشري : لقوله ، كن . وانطوى في تسخير الفلك تسخير البحار ، وتسخير الرياح . وأما تسخير الأنهار فبجريانها وبتفجيرها للانتفاع بها . وانتصب دائبين على الحال والمعنى : يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات ، عن مقاتل بن حبان يرفعه إلى ابن عباس أنه قال : معناه دائبين في طاعة الله . قال ابن عطية : وهذا قول إن كان يراد به أنّ الطاعة انقياد منهما في التسخير ، فذلك موجود في قوله : سخر ، وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر فهذا جيد ، والله أعلم انتهى . وتسخير الليل والنهار كونهما يتعاقبان خلفةً للمنام والمعاش . وقال المتكلمون : تسخير الليل والنهار مجاز ، لأنّهما عرضان ، والاعراض لا تسخر . ولما ذكر تعالى تلك النعم العظيمة ، ذكر أنه لم يقتصر عليها فقال : وآتاكم من كل ما سألتموه ، والخطاب للجنس من البشر أي : أن الإنسان قد أوتي من كل ما شأن أنْ يسأل وينتفع به ، ولا يطرد هذا في كل واحد واحد من الناس ، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر فيقال : بحسب هذا الجميع أوتيتم كذا على جهة التقرير للنعمة . وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، والحسن ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وعمرو بن قائد ، وقتادة ، وسلام ، ويعقوب ، ونافع في رواية : من كل بالتنوين ، أي : من كل هذه المخلوقات المذكورات . وما موصولة مفعول ثان أي : ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب الانتفاع به . وقيل : ما نافية ، والمفعول الثاني هو من كل كقوله : { وأوتيت من كل شيء } [ النمل : 23 ] أي غير سائليه . أخبر بسبوغ نعمته عليهم بما لم يسألوه من النعم ، ولم يعرض لما سألوه . والجملة المنفية في موضع نصب على الحال ، وهذا القول بدأ به الزمخشري ، وثنى به ابن عطية وقال : إنه تفسير الضحاك . وهذا التفسير يظهر أنه مناف لقراءة الجمهور من كل ما سألتموه بالإضافة ، لأنّ في تلك القراءة على ذلك التخريج تكون ما نافية ، فيكونون لم يسألوه . وفي هذه القراءة يكونون قد سألوه ، وما بمعنى الذي . وأجيز أن تكون مصدرية ، ويكون المصدر بمعنى المفعول . ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة وبين تلك على تقدير أنّ ما نافية قال : ويجوز أن تكون ما موصولة على وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ، ولم تصلح أحوالكم ومعائشكم إلا به ، فكأنكم سألتموه ، أو طلبتموه بلسان الحال . فتأول سألتموه بقوله : ما احتجتم إليه . والضمير في سألتموه إن كانت ما مصدرية عائد على الله تعالى ، ويكون المصدر يراد به المسؤول . وإن كانت موصولة بمعنى الذي عاد عليها ، والتقدير : من كل الذي سألتموه إياه . ولا يجوز أن يكون عائداً على الله . والرابط للصلة بالموصول محذوف ، لأنك إن قدرته متصلاً فيكون التقدير : ما سألتموهوه ، فلا يجوز . أو منفصلاً فيكون التقدير : ما سألتموه إياه ، فالمنفصل لا يجوز حذفه . والنعمة هنا قال الواحدي : اسم أقيم مقام المصدر ، يقال : أنعم إنعاماً ونعمة ، أقيم الاسم مقام الانعام كقولك : أنفقت إنفاقاً ونفقة ، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر انتهى . والذي يظهر أن النعمة هو المنعم به ، وأنه هو اسم جنس لا يراد به الواحد بل يراد به الجمع ، كأنه قيل : وإن تعدوا نعمة الله ومعنى لا تحصوها ، لا تحصوها ، لا تحصروها ولا تطيقوا عدها ، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال . وأما التفصيل فلا يقدر عليه ، ولا يعلمه إلا الله . وقال أبو الدرداء : من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه ، وحضر عذابه . والمراد بالإنسان هنا الجنس أي : توجد فيه هذه الخلال وهي : الظلم ، والكفر ، يظلم النعمة بإغفال شكرها ، ويكفرها بجحدها . وقيل : ظلوم في الشدة فيشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع . وفي النحل : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم } [ النحل : 18 ] والفرق بين الختمين : أنه هنا تقدم قوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وبعده ، وجعلوا لله أنداداً ، فكان ذلك نصاً على ما فعلوا من القبائح من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك ، بجعل الأنداد ناسب أن يحتم بذم من وقع ذلك منه ، فجاء إن الإنسان لظلوم كفار . وأما في النحل فلما ذكر عدة تفضلات ، وأطنب فيها ، وقال : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [ النحل : 17 ] أي : من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ولا على شيء منه ، ذكر من تفضلاته اتصافه بالعذاب والرحمة تحريضاً على الرجوع إليه ، وأن هاتين الصفتين هو متصف بهما ، كما هو متصف بالخلق ، ففي ذلك إطماع لمن آمن به . وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق أنه يغفر زلَلـه السابق ويرحمه ، وأيضاً فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان ، ذكر ما حصل من المنعم ، ومن جنس المنعم عليه ، فحصل من المنعم ما يناسبه حالة عطائه وهو الغفران والرحمة ، إذ لولاهما لما أنعم عليه . وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسبه حالة الإنعام عليه ، وهو الظلم والكفران ، فكأنه قيل : إن صدر من الإنسان ظلم فالله غفور ، أو كفران نعمة فالله رحيم ، لعلمه يعجز الإنسان وقصوره . ودعوى أن هذه الآية منسوخة بآية النحل لا يلتفت إليها ، ونقل ذلك السخاوي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .