Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 61-65)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما حكى الله تعالى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر ونسبة التولد له ، بيَّن تعالى أنه يمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً لفضله ورحمته . ويؤاخذ : مضارع آخذ ، والظاهر أنه بمعنى المجرد الذي هو أخذه . وقال ابن عطية : كان أحد المؤاخذين يأخذ من الآخر ، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى ، أو بإذاية في جهة المخلوقين ، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء انتهى . والظاهر : عموم الناس . وقيل : أهل مكة ، والباء في بظلمهم للسبب . وظلمهم كفرهم ومعاصيهم . والضمير في عليها عائد على غير مذكور ، ودل على أنه الأرض قوله : من دابة ، لأن الدبيب من الناس لا يكون إلا في الأرض ، فهو كقوله : { فأثرن به نقعاً } [ العاديات : 4 ] أي بالمكان لأن { والعاديات } [ العاديات : 1 ] معلوم أنها لا تعدو إلا في مكان ، وكذلك الإثارة والنقع . والظاهر عموم من دابة فيهلك الصالح بالطالح ، فكان يهلك جميع ما يدب على الأرض حتى الجعلان في جحرها قاله : ابن مسعود . قال قتادة : وقد فعل تعالى في زمن نوح عليه السلام . وقال السدي ومقاتل : إذا قحط المطر لم تبق دابة إلا هلكت . وسمع أبو هريرة رجلاً يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، فقال : بلى والله حتى أن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم . وهذا نظير : { واتقوا فتنة } [ الأنفال : 25 ] الآية والحديث « أنهلك وفينا الصالحون » وقال ابن السائب ، واختاره الزجاج : من دابة من الإنس والجن . وقال ابن جريج : من الناس خاصة . وقالت فرقة منهم ابن عباس : من دابة من مشرك يدب عليها ، ولكن يؤخرهم إلى أجل الآية ، تقدّم تفسير ما يشبهه في الأعراف . وما في ما يكرهون لمن يعقل ، أريد بها النوع كقوله : { فانكحوا ما طاب لكم } [ النساء : 3 ] ومعنى : ويجعلون ، يصفونه بذلك ويحكمون به . وقال الزمخشري : ما يكرهون لأنفسهم من البنات ، ومن شركاء في رئاستهم ، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم ، ويجعلون له أرذل أموالهم ، ولأصنامهم أكرمها ، وتصف ألسنتهم مع ذلك أنّ لهم الحسنى عند الله كقوله : { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } [ فصلت : 50 ] انتهى . وقال مجاهد : الحسنى قول قريش لنا البنون ، يعني قالوا : لله البنات ولنا البنون . وقيل : الحسنى الجنة ، ويؤيده : لا جرم أن لهم النار ، والمعنى على هذا : يجعلون لله المكروه ، ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة كما تقول : أنت تعصي الله وتقول مع ذلك : أنك تنجو ، أي هذا بعيد مع هذا . وهذا القول لا يتأتى إلا ممن يقول بالبعث ، وكان فيهم من يقول به . أو على تقدير أنْ كان ما يقول من البعث صحيحاً ، وأنّ لهم الحسنى بدل من الكذب ، أو على إسقاط الحرف أي : بأن لهم . وقرأ الحسن ومجاهد باختلاف ألسنتهم : بإسكان التاء ، وهي لغة تميم جمع لساناً المذكر نحو : حمار وأحمرة ، وفي التأنيث : ألسن كذراع وأذرع . وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام : الكذب بضم الكاف والذال والباء صفة للألسن ، جمع كذوب كصبور وصبر ، وهو مقيس ، أو جمع كاذب كشارف وشرف ولا ينقاس ، وعلى هذه القراءة أنّ لهم مفعول تصف ، وتقدم الكلام في لا جرم أن . وقرأ الحسن وعيسى بن عمران : لهم بكسر الهمزة ، وأن جواب قسم أغنت عنه لا جرم . وقرأ ابن عباس ، وابن مسعود وأبو رجاء ، وشيبة ، ونافع ، وأكثر أهل المدينة : مفرطون بكسر الراء من أفرط حقيقة أي : متجاوزون الحد في معاصي الله . وباقي السبعة ، والحسن ، والأعرج ، وأصحاب ابن عباس ، ونافع في رواية ، بفتح الراء من أفرطته إلى كذا قدمته ، معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه . قال القطامي : @ واستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد @@ ومنه « أنا فرطكم على الحوض » أي متقدمكم . وقال ابن جبير ، ومجاهد ، وابن أبي هند : مفرطون مخلفون متروكون في النار من أفرطت فلاناً خلفى إذا خلفته ونسيته . قال أبو البقاء : تقول العرب أفرطت منهم ناساً أي خلفتهم ونسيتهم . وقرأ أبو جعفر : مفرطون مشدداً من فرط أي : مقصرون مضيعون . وعنه أيضاً : فتح الراء وشدها أي ، مقدمون من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى : تقدم . ثم أخبر تعالى بإرسال الرسل إلى أمم من قبل أممك ، مقسماً على ذلك ومؤكداً بالقسم وبقد التي تقتضي تحقيق الأمر على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يناله بسبب جهالات قومه ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز ، فزين لهم الشيطان أعمالهم من تماديهم على الكفر ، فهو وليهم اليوم حكاية حال ماضية أي : لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو ، أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسل لهم ، أو حكاية حال آتية وهي يوم القيامة . وأل في اليوم للعهد ، وهو اليوم المشهود ، فهو وليهم في ذلك اليوم أي : قرينهم وبئس القرين . والظاهر عود الضمير في وليهم إلى أمم . وقال الزمخشري : ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش ، وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم ، فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم . ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي : فهو ولي أمثالهم اليوم انتهى . وهذا فيه بعد ، لاختلاف الضمائر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك ، ولا إلى حذف المضاف . واللام في لتبين لام التعليل ، والكتاب القرآن ، والذي اختلفوا فيه من الشرك والتوحيد والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه ، وغير ذلك مما يعتقدون من الأحكام : كتحريم البحيرة ، وتحليل الميتة والدم ، وغير ذلك من الأحكام . وهدى ورحمة في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله ، وانتصبا لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما ، لأن المنزل هو الله وهو الهادي والراحم . ودخلت اللام في لتبين لاختلاف الفاعل ، لأن المنزل هو الله ، والتبيين مسند للمخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم . وقول الزمخشري : معطوف محل لتبين ليس بصحيح ، لأنّ محله ليس نصباً فيعطف منصوب عليه . ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل ؟ . والله أنزل من السماء ماء قال أبو عبد الله الرازي : المقصود من القرآن أربعة : الإلهيات ، والنبوات ، والمعاد ، والقدر ، والأعظم منها الإلهيات فابتدأ في ذكر دلائلها بالأجرام الفلكية ، ثم بالإنسان ثم بالحيوان ، ثم بالنبات ثم بأحوال البحر والأرض ، ثم عاد إلى تقدير الإلهيات فبدأ بذكر الفلكيات انتهى ملخصاً . وقال ابن عطية : لما أمره بتبيين ما اختلف فيه قص العبر المؤدية إلى بيان أمر الربوبية ، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر ، وهي ملاك الحياة ، وهي في غاية الظهور ، ولا يختلف فيها عاقل انتهى . ونقول : لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ، ولذلك ختم بقوله : لقوم يؤمنون أي : يصدقون . والتصديق محله القلب ، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها . ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن ، كما قال تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها ، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتاً بالجهل . وكذلك ختم بقوله : يسمعون هذا التشبيه المشار إليه ، والمعنى : سماع إنصاف وتدبر ، ولملاحظة هذا المعنى والله أعلم لم يختم بلقوم يبصرون ، وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد . وقال ابن عطية : وقوله يسمعون ، يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وتبيانه ، لأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر ، وإنما يحتاج البتة إلى أن يسمع القول فقط .