Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 9-14)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ أم } هنا هي المنقطعة فتتقدر ببل والهمزة . قيل : للإضراب عن الكلام الأول بمعنى الانتقال من كلام إلى آخر لا بمعنى الإبطال ، والهمزة للإستفهام . وزعم بعض النحويين أن { أم } هنا بمعنى الهمزة فقط ، والظاهر في { أم حسبت } أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم . فقال مجاهد : لم ينهه عن التعجب وإنما أراد كل آياتنا كذلك . وقال قتادة : لا يتعجب منها فالعجائب في خلق السموات والأرض أكثر . وقال ابن عباس : سألوك عن ذلك ليجعلوا جوابك علامة لصدقك وكذبك ، وسائر آيات القرآن أبلغ وأعجب وأدل على صدقك . وقال الطبري : تقرير له عليه السلام على حسبانه { أن أصحاب الكهف } كانوا { عجباً } بمعنى إنكار ذلك عليه أن لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة ، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم . قال : وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق . وقال الزهراوي : يحتمل معنى آخر وهو أن يكون استفهاماً له هل علم { أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا عجباً } بمعنى إثبات أنهم عجب ، ويكون فائدة تقريره جمع نفسه للأمر لأن جوابه أن يقول لم أحسب ولا علمته ، فيقال له وصفهم عند ذلك والتجوز في هذا التأويل هو في لفظة حسبت انتهى . وقال غيره : معناه أعلمت أي لم تعلمه حتى أعلمتك . وقال الزمخشري : ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها ، وإزالة ذلك كله كأن لم يكن ثم قال : { أم حسبت } يعني { أن } ذلك من قصة أهل الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة انتهى . وقيل : أي أم علمت أي فاعلم أنهم { كانوا } { عجباً } كما تقول : أعلمت أن فلاناً فعل كذا أي قد فعل فاعلمه . وقيل : الخطاب للسامع ، والمراد المشركون أي قل لهم { أم حسبتم } الآية . والظن قد يقام مقام العلم ، فكذلك حسبت بمعنى علمت والكهف تقدم تفسيره في المفردات . وعن أنس : الكهف الجبل . قال القاضي : وهذا غير مشهور في اللغة . وقال مجاهد : تفريج بين الجبلين ، والظاهر { أن أصحاب الكهف والرقيم } هم الفتية المذكورون هنا . وعن ابن المسيب أنهم قوم كان حالهم كأصحاب الكهف . فقال الضحاك { الرقيم } بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفساً أموات كلهم نيام على هيئة { أصحاب الكهف } . وقيل : هم أصحاب الغار ففي الحديث عن النعمان بن بشير أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الرقيم قال : " إن ثلاثة نفر أصابتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف " وذكر الحديث وهو حديث المستأجر والعفيف وبارّ والديه ، وفيما أورده فيه زيادة ألفاظ على ما في الصحيح . ومن قال إنهم طائفتان قال : أخبر الله عن { أصحاب الكهف } ولم يخبر عن أصحاب { الرقيم } بشيء ، ومن قال : بأنهم طائفة واحدة اختلفوا في شرح { الرقيم } فعن ابن عباس : إنه لا يدري ما { الرقيم } أكتاب أم بنيان ، وعنه أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين المسيح عليه السلام . وقيل : من دين قبل عيسى ، وعن ابن عباس ووهب أنه اسم قريتهم . وقيل : لوح من ذهب تحت الجدار أقامه الخضر عليه السلام . وقيل : كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وسبب خروجهم . وقيل : لوح من رصاص كتب فيه شأن الفتية ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف . وقيل : صخرة كتب فيها أسماؤهم وجعلت في سور المدينة . وقيل : اسم كلبهم وتقدم بيت أمية قاله أنس والشعبي وابن جبير ، وعن الحسن : الجبل الذي به الكهف وعن عكرمة اسم الدواة بالرومية . وقيل : اسم للوادي الذي فيه الكهف . وقيل : رقم الناس حديثهم نقراً في الجبل . و { عجباً } نصب على أنه صفة لمحذوف دل عليه ما قبله ، وتقديره آية { عجباً } ، وصفت بالمصدر أو على تقدير ذات عجب وأما أسماء فتية أهل الكهف فأعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط ، والسند في معرفتها ضعيف والرواة مختلفون في قصصهم وكيف كان اجتماعهم وخروجهم ، ولم يأت في الحديث الصحيح كيفية ذلك ولا في القرآن إلاّ ما قص تعالى علينا من قصصهم ، ومن أراد تطلب ذلك في كتب التفسير . ورُوي أن اسم الملك الكافر الذي خرجوا في أيامه عن ملته اسمه دقيانوس . وروي أنهم كانوا في الروم . وقيل : في الشام وأن بالشام كهفاً فيه موتى ، ويزعم مجاوروه أنهم { أصحاب الكهف } وعليهم مسجد وبناء يسمى { الرقيم } ومعهم كلب رمة . وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتي ومعهم كلب رمّة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم { أصحاب الكهف } . قال ابن عطية : دخلت إليهم فرأيتهم منذ أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى { الرقيم } كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه ، وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس . وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عز وجل انتهى . وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم ، وأن معهم كلباً ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم ، وأما ما ذكرت من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة فقد مررت عليها مراراً لا تحصى ، وشاهدت فيها حجارة كباراً ، ويترجح كون أهل الكهف بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى ، ولأن الأخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرفه أحد إلاّ بوحي من الله تعالى . والعامل في { إذ } . قيل : أذكر مضمرة . وقيل { عجباً } ، ومعنى { أوى } جعلوه مأوى لهم ومكان اعتصام ، ثم دعوا الله تعالى أن يؤتيهم رحمة من عنده وفسرها المفسرون بالرزق . وقال الزمخشري : هي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء . و { الفتية } جمع فتى جمع تكسير جمع قلة ، وكذلك كانوا قليلين . وعند ابن السراج أنه اسم جمع لا جمع تكسير . ولفظ { الفتية } يشعر بأنهم كانوا شباباً وكذا روي أنهم كانوا شباباً من أبناء الأشراف والعظماء مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب وهم من الروم ، اتبعوا دين عيسى عليه السلام . وقيل : كانوا قبل عيسى وأصحابنا الأندلسيون تكثر في ألفاظهم تسمية نصارى الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم ، فيقولون : غزونا الروم ، جاءنا الروم . وقل من ينطق بلفظ النصارى ، ولما دعوا بإيتاء الرحمة وهي تتضمن الرزق وغيره ، دعوا الله بأن يهيئ لهم من أمرهم الذي صاروا إليه من مفارقة دين أهليهم وتوحيد الله رشداً وهي الاهتداء والديمومة عليه . وقال الزمخشري : واجعل { أمرنا رشداً } كله كقولك رأيت منك أسداً . وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري : وهي ويهيي بياءين من غير همز ، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء . وفي كتاب ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم : وهيء لنا ويهي لكم لا يهمز انتهى . فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياءً ، واحتمل أن يكون حذفها فالأول إبدال قياسي ، والثاني مختلف فيه ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزوماً . وقرأ أبو رجاء : رشد بضم الراء وإسكان الشين . وقرأ الجمهور { رشداً } بفتحهما . قال ابن عطية : وهي أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد ، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك ، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها ، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فإنها كافية ، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة انتهى . { فضربنا على آذانهم } استعارة بديعة للإنامة المستثقلة التي لا يكاد يسمع معها ، وعبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ومنه { ضربت عليهم الذلة } [ البقرة : 61 ] وضرب الجزية وضرب البعث . وقال الفرزدق : @ ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل @@ وقال الأسود بن يعفر : @ ومن الحوادث لا أبا لك أنني ضربت على الأرض بالأشداد @@ وقال آخر : @ إن المروءة والسماحة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج @@ استعير للزوم هذه الأوصاف لهذا الممدوح ، وذكر الجارحة التي هي الآذان إذ هي يكون منها السمع لأنه لا يستحكم نوم إلاّ مع تعطل السمع . وفي الحديث : " ذلك رجل بال الشيطان في أذنه " أي استثقل نومه جداً حتى لا يقوم بالليل . ومفعول ضربنا محذوف أي حجاباً من أن يسمع كما يقال بني على امرأته يريدون بني عليها القبة . وانتصب { سنين } على الظرف والعامل فيه { فضربنا } ، و { عدداً } مصدر وصف به أو منتصب بفعل مضمر أي بعد { عدداً } وبمعنى اسم المفعول كالقبض والنفض ، ووصف به { سنين } أي { سنين } معدودة . والظاهر في قوله { عدداً } الدلالة على الكثرة لأنه لا يحتاج أن يعد إلاّ ما كثر لا ما قل . وقال الزمخشري : ويحتمل أن يريد القلة لأن الكثير قليل عنده كقوله { لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار } [ الأحقاف : 35 ] انتهى وهذا تحريف في التشبيه لأن لفظ الآية كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار ، فهذا تشبيه لسرعة انقضاء ما عاشوا في الدنيا إذا رأوا العذاب كما قال الشاعر : @ كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسي ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا @@ { ثم بعثناهم } أي أيقظناهم من نومهم ، والبعث التحريك عن سكون إما في الشخص وإما عن الأمر المبعوث فيه ، وإن كان المبعوث فيه متحركاً و { لنعلم } أي لنظهر لهم ما علمناه من أمرهم ، وتقدم الكلام في نظير هذا في قوله { لنعلم من يتبع الرسول } [ البقرة : 143 ] . وفي التحرير وقرأ الجمهور : { لنعلم } بالنون ، وقرأ الزهري بالياء وفي كتاب ابن خالوية ليعلم { أي الحزبين } حكاه الأخفش . وفي الكشاف وقرىء ليعلم وهو معلق عنه لأن ارتفاعه بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه ، وفاعل يعلم مضمون الجملة كما أنه مفعول يعلم انتهى . فأما قراءة لنعلم فيظهر أن ذلك التفات خرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ، فيكون معناها ومعنى { لنعلم } بالنون سواء ، وأما ليعلم فيظهر أن المفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير ليعلم الله الناس { أي الحزبين } . والجملة من الابتداء والخبر في موضع مفعولي يعلم الثاني والثالث ، وليعلم معلق . وأما ما في الكشاف فلا يجوز ما ذكر على مذهب البصريين لأن الجملة إذ ذاك تكون في موضع المفعول الذي لا يسمى فاعله وهو قائم مقام الفاعل ، فكما أن تلك الجملة وغيرها من الجمل لا تقوم مقام الفاعل فكذلك لا يقوم مقام ما ناب عنه . وللكوفيين مذهبان : أحدهما : أنه يجوز الإسناد إلى الجملة اللفظية مطلقاً . والثاني : أنه لا يجوز إلاّ إن كان مما يصح تعليقه . والظاهر أن الحزبين هما منهم لقوله تعالى { وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم } [ الكهف : 19 ] الآية . وكأن الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم علموا أن لبثهم تطاول ، ويدل على ذلك أنه تعالى بدأ بقصتهم أولاً مختصرة من قوله { أم حسبت } إلى قوله { أمداً } ثم قصها تعالى مطولة مسهبة من قوله { نحن نقص } [ الكهف : 25 ] - إلى قوله - { قل الله أعلم بما لبثوا } [ الكهف : 25 ] . وقال ابن عطية : والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم { الفتية } أي ظنوا لبثهم قليلاً ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية ، وهذا قول الجمهور من المفسرين انتهى . وقالت فرقة : هما حزبان كافران اختلفا في مدة أهل الكهف . قال السدّي من اليهود والنصارى الذين علموا قريشاً السؤال عن أهل الكهف ، وعن الخضر وعن الروح وكانوا قد اختلفوا في مدة إقامة أهل الكهف في الكهف . وقال مجاهد : قوم أهل الكهف كان منهم مؤمنون وكافرون واختلفوا في مدة إقامتهم . وقيل : حزبان من المؤمنين في زمن { أصحاب الكهف } اختلفوا في مدة لبثهم قاله الفراء . وقال ابن عباس الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب وأهل الكهف حزب . وقال ابن بحر : الحزبان الله والخلق كقوله { أأنتم أعلم أم الله } [ البقرة : 140 ] وهذه كلها أقوال مضطربة . وقال ابن قتادة : لم يكن للفريقين علم بلبثهم لا لمؤمن ولا لكافر بدليل قوله { الله أعلم بما لبثوا } [ الكهف : 25 ] . وقال مقاتل : كما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث . و { أحصى } جوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون فعلاً ماضياً ، وما مصدرية و { أمداً } مفعول به ، وأن يكون أفعل تفضيل و { أمداً } تمييز . واختار الزجّاج والتبريزي أن يكون أفعل للتفضيل واختار الفارسي والزمخشري وابن عطية أن تكون فعلاً ماضياً ، ورجحوا هذا بأن { أحصى } إذا كان للمبالغة كان بناء من غير الثلاثي ، وعندهم أن ما أعطاه وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب شاذ لا يقاس . ويقول أبو إسحاق : إنه قد كثر من الرباعي فيجوز ، وخلط ابن عطية فأورد فيما بني من الرباعي ما أعطاه للمال وآتاه للخير وهي أسود من القار وماؤه أبيض من اللبن . وفهو لما سواها أضيع . قال : وهذه كلها أفعل من الرباعي انتهى . وأسود وأبيض ليس بناؤهما من الرباعي . وفي بناء أفعل للتعجب وللتفضيل ثلاثة مذاهب يبنى منه مطلقاً وهو ظاهر كلام سيبويه ، وقد جاءت منه ألفاظ ولا يبنى منه مطلقاً وما ورد حمل على الشذود والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل . فلا يجوز ، أو لغير النقل كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز أن تقول ما أشكل هذه المسألة ، وما أظلم هذا الليل . وهذا اختيار ابن عصفور من أصحابنا . ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو ، وإذا قلنا بأن { أحصى } اسم للتفضيل جاز أن يكون { أي الحزبين } موصولاً مبنياً على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه ، وهو كون { أي } مضافة حذف صدر صلتها ، والتقدير ليعلم الفريق الذي هو { أحصى } { لما لبثوا أمداً } من الذين لم يحصوا ، وإذا كان فعلاً ماضياً امتنع ذلك لأنه إذ ذاك لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل صلة بنفسه على تقدير جعل { أي } موصولة فلا يجوز بناؤها لأنه فات تمام شرطها ، وهو أن يكون حذف صدر صلتها . وقال : فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل ؟ قلت : ليس بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس ، ونحو أعدى من الجرب ، وأفلس من ابن المذلق شاذ ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به ، ولأن { أمداً } لا يخلو إما أن ينصب بأفعل فأفعل لا يعمل ، وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى ، فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه { أحصى } كما أضمر في قوله : @ @ واضرب منا بالسيوف القوانسا @@ @@ على يضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون { أحصى } فعلاً ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره انتهى . أما دعواه الشذوذ فهو مذهب أبي عليّ ، وقد ذكرنا أن ظاهر مذهب سيبويه جواز بنائه من أفعل مطلقاً وأنه مذهب أبي إسحاق وأن التفصيل اختيار ابن عصفور وقول غيره . والهمزة في { أحصى } ليست للنقل . وأما قوله فافعل لا يعمل ليس بصحيح فإنه يعمل في التمييز ، و { أمداً } تمييز وهكذا أعربه من زعم أن { أحصى } أفعل للتفضيل ، كما تقول : زيداً أقطع الناس سيفاً ، وزيد أقطع للهام سيفاً ، ولم يعربه مفعولاً به . وأما قوله : وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى أي لا يكون سديداً فقد ذهب الطبري إلى نصب { أمداً } بلبثوا . قال ابن عطية : وهذا غير متجه انتهى . وقد يتجه ذلك أن الأمد هو الغاية ويكون عبارة عن المدة من حيث أن للمدة غاية في أمد المدة على الحقيقة ، وما بمعنى الذي و { أمداً } منتصب على إسقاط الحرف ، وتقديره لما { لبثوا } من أمد أي مدة ، ويصير من أمد تفسيراً لما أنهم في لفظ { ما لبثوا } كقوله { ما ننسخ من آية } [ البقرة : 106 ] { ما يفتح الله للناس من رحمة } [ فاطر : 2 ] ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل . وأما قوله : فإن زعمت إلى آخره فيقول : لا يحتاج إلى هذا الزعم لأنه لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به ، فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به ، وإنما تأويله بضرب القوانس قول البصريين ، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله { أعلم من يضل } [ الأنعام : 117 ] من منصوبة بأعلم نصب المفعول به ، ولو كثر وجود مثل : واضرب منا بالسيوف القوانسا لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحاً لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمين ، ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف القوانسا على ضرب غيرنا ، ولما ذكر قوله ليعلم مشعراً باختلاف في أمرهم عقب بأنه تعالى هو الذي يقص شيئاً فشيئاً على رسوله صلى الله عليه وسلم خبرهم { بالحق } أي على وجه الصدق ، وجاء لفظ { نحن نقص } موازياً لقوله لنعلم . ثم قال { آمنوا بربهم } ففيه إضافة الرب وهو السيد والناظر في مصلحة عبيده ، ولم يأت التركيب { آمنوا } بناء للأشعار بتلك الرتبة وهي أنهم مربوبون له مملوكون . ثم قال : { وزدناهم هدى } ولم يأت التركيب وزادهم لما في لفظة نا من العظمة والجلال ، وزيادته تعالى لهم { هدى } هو تيسيرهم للعمل الصالح والإنقطاع إليه ومباعدة الناس والزهد في الدنيا ، وهذه زيادة في الإيمان الذي حصل لهم . وفي التحرير { زدناهم } ثمرات { هدى } أو يقيناً قولان ، وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي ، أو إنطاق الكلب لهم بأنه هو على ما هم عليه من الإيمان ، أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون الدين به كله لله فآمنوا به قبل بعثه أقوال ملخصة من التحرير . { وربطنا على قلوبهم } ثبتناها وقوّيناها على الصبر على هجرة الوطن والنعيم والفرار بالدين إلى غار في مكان قفر لا أنيس به ولا ماء ولا طعام ، ولما كان الفزع وخوف النفس يشبه بالتناسب الإنحلال حسن في شدة النفس وقوّة التصميم أن تشبه الربط ، ومنه فلان رابط الجأش إذا كانت نفسه لا تتفرق عند الفزع والحرب . وقال تعالى : { إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } [ القصص : 10 ] والعامل في { أن ربطنا } أي ربطنا حين { قاموا } ، ويحتمل القيام أن يكون مقامهم بين يديّ الملك الكافر دقيانوس ، فإنه مقام محتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخلعوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته ، ويحتمل أن يكون عبارة عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس كما يقال : قام فلان إلى كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد . وقال الكرماني : { قاموا } على أرجلهم . وقيل : { قاموا } يدعون الناس سرّاً . وقال عطاء { قاموا } عند قيامهم من النوم قالوا وقيل : { قاموا } على إيمانهم . وقال صاحب الغنيان : { إذ قاموا } بين يديّ الملك فتحركت هرة . وقيل : فأرة ففزع دقيانوس فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا { ربنا رب السموات والأرض } وكان قومهم عباد أصنام ، وما أحسن ما وحدوا الله بأن ربهم هو موجد السموات والأرض المتصرّف فيها على ما يشاء ، ثم أكدوا هذا التوجيد بالبراءة من إله غيره بلفظ النفي المستغرق تأبيد الزمان على قول . واللام في { لقد } لام توكيد و { إذا } حرف جواب وجزاء ، أي { لقد قلنا } لن ندعو من دونه إلهاً قولاً { شططاً } أي ذا شطط وهو التعدي والجور ، فشططاً نعت لمصدر محذوف إما على الحذف كما قدرناه ، وإما على الوصف به على جهة المبالغة . وقيل : مفعول به بقلنا . وقال قتادة : { شططاً } كذباً . وقال أبو زيد : خطأً .