Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 42-56)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قروناً } قال ابن عباس : هم بنو إسرائيل . وقيل : قصة لوط وشعيب وأيوب ويونس صلوات الله عليهم { ما تسبق } إلى آخر الآية تقدم الكلام عليها في الحجر { ثم أرسلنا رسلنا تترى } أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشيبه وابن محيصن والشافعي { تترى } منوناً وباقي السبعة بغير تنوين ، وانتصب على الحال أي متواترين واحداً بعد واحد ، وأضاف الرسل إليه تعالى وأضاف رسولاً إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإضافة تكون بالملابسة ، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه ، فالأول كانت الإضافة لتشريف الرسل ، والثاني كانت الإضافة إلى الأمة حيث كذبته ولم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإضافة إليهم . { فأتبعنا بعضهم بعضاً } أي بعض القرون أو بعض الأمم بعضاً في الإهلاك الناشىء عن التكذيب . و { أحاديث } جمع حديث وهو جمع شاذ ، وجمع أحدوثة وهو جمع قياسي . والظاهر أن المراد الثاني أي صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك على سبيل التعجب والاعتبار وضرب المثل بهم . وقال الأخفش : لا يقال هذا إلاّ في الشر ولا يقال في الخير . قيل : ويجوز أن يكون جمع حديث ، والمعنى أنه لم يبق منهم عين ولا أثر إلاّ الحديث عنهم . وقال الزمخشري : الأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى . وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع ، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع ، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير وهو لم يلفظ له بواحد فأحرى { أحاديث } وقد لفظ له وهو حديث ، فالصحيح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرناه . { بآياتنا } قال ابن عباس هي التسع وهي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والبحر ، والسنون ، ونقص من الثمرات { وسلطان مبين } قيل : هي العصا واليد ، وهما اللتان اقترن بهما التحدي ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست ، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل . وقال الحسن : { بآياتنا } أي بديننا . { وسلطان مبين } هو المعجز ، ويجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات ، وبسلطان مبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء فقد فارقتها في قوة دلالتها على قول موسى عليه السلام . قيل : ويجوز أن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها كانت أمّ آيات موسى وأولاها ، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة ، وانفلاق البحر ، وانفجار العيون من الحجر بالضرب بها ، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء ، جعلت كأنها ليست بعض الآيات لما استبدت به من الفضل فلذلك عطفت عليها كقوله { وجبريل وميكال } [ البقرة : 98 ] ويجوز أن يراد بسلطان مبين الآيات أنفسها أي هي آيات وحجة بينة { فاستكبروا } عن الإيمان بموسى وأخيه نفة . { قوماً عالين } أي رفيعي الحال في الدنيا أي متطاولين على الناس قاهرين بالظلم ، أو متكبرين كقوله { إن فرعون علا في الأرض } [ القصص : 4 ] أي وكان من شأنهم التكبر . والبشر يطلق على المفرد والجمع كقوله { فأما ترينّ من البشر أحداً } [ مريم : 26 ] ولما أطلق على الواحد جازت تثنيته فلذلك جاء { لبشرين } ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولا يؤنث ، وقد يطابق تثنية وجمعاً و { قومهما } أي بنو إسرائيل { لنا عابدون } أي خاضعون متذللون ، أو لأنه كان يدّعي الإلهية فادّعى الناس العبادة ، وإن طاعتهم له عبادة على الحقيقة . وقال أبو عبيد : العرب تسمي كل من دان للملك عابداً ، ولما كان ذلك الإهلاك كالمعلول للتكذيب أعقبه بالفاء أي فكانوا ممن حكم عليهم بالغرق إذ لم يحصل الغرق عقيب التكذيب . { موسى الكتاب } أي قوم موسى و { الكتاب } التوراة ، ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف في قوله { لعلهم } ولا يصح عود هذا الضمير في { لعلهم } على فرعون وقومه لأن { الكتاب } لم يؤته موسى إلا بعد هلاك فرعون لقوله : { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } [ القصص : 43 ] { لعلهم } ترج بالنسبة إليهم { لعلهم يهتدون } لشرائعها ومواعظها . { وجعلنا ابن مريم وأمه } أي قصتهما وهي { آية } عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول آية لدلالة الثاني أي وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية . والربوة هنا . قال ابن عباس وابن المسيب : الغوطة بدمشق ، وصفتها أنها { ذات قرار ومعين } على الكمال . وقال أبو هريرة : رملة فلسطين . وقال قتادة وكعب : بيت المقدس ، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء ، وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر ميلاً . وقال ابن زيد ووهب : الربوة بأرض مصر ، وسبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرها المفسرون . وقرأ الجمهور { رُبوة } بضم الراء وهي لغة قريش ، والحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتحها ، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها وابن أبي إسحاق رباوة بضم الراء وبالألف ، وزيد بن عليّ والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف . وقرىء بكسرها وبالألف { ذات قرار } أي مستوية يمكن القرار فيها للحرث والغراسة ، والمعنى أنها من البقاع الطيبة . وعن قتادة : ذات ثمار وماء ، يعني أنها لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها . ونداء { الرسل } وخطابهم بمعنى نداء كل واحد وخطابه في زمانه إذ لم يجتمعوا في زمان واحد فينادون ويخاطبون فيه ، وإنما أتى بصورة الجمع ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يوحد به ويعمل عليه . وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء بلفظ الجمع لقيامه مقام { الرسل } وقيل : ليفهم بذلك أن هذه طريقة كل رسول كما تقول تخاطب تاجراً : يا تجار اتقوا الربا . وقال الطبري : الخطاب لعيسى ، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه والمشهور من بقل البرية . وقال الزمخشري : ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي { آويناهما } وقلنا لهما هذا الذي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا وكلا مما رزقناكما واعملا صالحاً اقتداء بالرسل والطيبات الحلال لذيذاً كان أو غير لذيذ . وقيل : ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ويشهد له { ذات قرار ومعين } وقدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح دلالة على أنه لا يكون صالحاً إلاّ مسبوقاً بأكل الحلال . { إني بما تعملون عليم } تحذير في الظاهر والمراد اتباعهم { وإن هذه أمتكم } الآية تقدم تفسير مثلها في أواخر الأنبياء . وقرأ الكوفيون { وإن } بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف ، والحرميان وأبو عمرو بالفتح والتشديد أي ولأن ، وابن عامر بالفتح والتخفيف وهي المخففة من الثقيلة ، ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه قوله { وإن هذه أمتكم } . وقوله { فتقطعوا } وجاء هنا { وأنا ربكم فاتقون } وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء { فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح ، والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم ، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا { فتقطعوا } بالفاء إيذاناً بأن التقطيع اعتقب الأمر بالتقوى ، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته . وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء ، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة ، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله ، وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق . ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآل أمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالاً لقريش ، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله { فذرهم في غمرتهم حتى حين } وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقائل هو شاعر ، وقائل ساحر ، وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم من الأمم كما قال { أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 53 ] . قال الكلبي { في غمرتهم } في جهالتهم . وقال ابن بحر : في حيرتهم . وقال ابن سلام : في غفلتهم . وقيل : في ضلالتهم { حتى حين } حتى ينزل بهم الموت . وقيل : حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب . وقيل : هو يوم بدر . وقيل : هي منسوخة بآية السيف . وقرأ الجمهور { في غمرتهم } وعليّ بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع لأن لكل واحد غمرة ، وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام . وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل ، قال الشاعر : @ كـأني ضـارب في غمـرة لعب @@ سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره انتهى . ثم وقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم ، وبيّن تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان . وقرأ ابن وثاب { إنما نمدهم } بكسر الهمزة . وقرأ ابن كثير في رواية يمدهم بالياء ، وما في { أنما } إما بمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها ، وخبر إن هي الجملة من قوله { نسارع لهم في الخيرات } والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره : نسارع لهم به في الخيرات ، وحسن حذفه استطالة الكلام مع أمن اللبس . وتقدم نظيره في قوله { إنما نمدهم به } وقال هشام بن معونة : الضرر الرابط هو الظاهر وهو { في الخيرات } وكان المعنى { نسارع لهم } فيه ثم أظهر فقال { في الخيرات } فلا حذف على هذا التقدير ، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد ، فالخيرات من حيث المعنى هي الذي مدُّوا به من المال والبنين وإن كانت ما مصدرية فالمسبوك منها ومما بعدها هو مصدر اسم إن وخبر إن هو { نسارع } على تقدير مسارعة فيكون الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل ، والتقدير أيحسبون أن إمدادنا لهم بالمال والبنين مسارعة لهم في الخيرات . وإن كانت ما كافة مهيئة فهو مذهب الكسائي فيها هنا فلا تحتاج إلى ضمير ولا حذف ، ويجوز الوقف على { وبنين } كما تقول حسبت إنما يقوم زيد ، وحسبت أنك منطلق ، وجاز ذلك لأن ما بعد حسبت قد انتظم مسنداً ومسنداً إليه من حيث المعنى ، وإن كان في ما يقدر مفرداً لأنه ينسبك من أن وما بعدها مصدر . وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء وكسر الراء فإن كان فاعل { نسارع } ضمير يعود على ما بمعنى الذي ، أو على المصدر المنسبك من ما نمد فنسارع خبر لأن ولا ضمير ولا حذف أي يسارع هو أي الذي يمد ويسارع ، هو أي إمدادنا . وعن ابن أبي بكرة المذكور بالياء وفتح الراء مبنياً للمفعول . وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون مضارع أسرع { بل لا يشعرون } إضراب عن قوله { أيحسبون } أي بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور فيتأملوا ويتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخير وفيه تهديد ووعيد .