Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 29-37)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في الكلام حذف تقديره : فأخذ الهدهد الكتاب وذهب به إلى بلقيس وقومها وألقاه إليهم ، كما أمره سليمان . فقيل : أخذه بمنقاره . وقيل : علقه في عنقه ، فجاءها حتى وقف على رأسها ، وحولها جنودها ، فرفرف بجناحيه ، والناس ينظرون إليه ، حتى رفعت رأسها ، فألقى الكتاب في حجرها . وقيل : كانت في قصرها قد غلقت الأبواب واستلقت على فراشها نائمة ، فألقي الكتاب على نحرها . وقيل : كانت في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم ، فإذا نظرت إليها سجدت ، فجاء الهدهد فسدها بجناحه ، فرأت ذلك وقامت إليه ، فألقى الكتاب إليها ، وكانت قارئة عربية من قوم تبع . وقيل : ألقاه من كوة وتوارى فيها . فأخذت الكتاب ونادت أشراف قومها : { قالت يا أيها الملأ } . وكرم الكتاب لطبعه بالخاتم ، وفي الحديث : " كرم الكتاب ختمه " أو لكونه من سليمان ، وكانت عالمة بملكه ، أو لكون الرسول به الطير ، فظنته كتاباً سماوياً ؛ أو لكونه تضمن لطفاً وليناً ، لا سباً ولا ما يغير النفس ، أو لبداءته باسم الله ، أقوال . ثم أخبرتهم فقالت : { إنه من سليمان } ، كأنها قيل لها : ممن الكتاب وما هو ؟ فقالت : { إنه من سليمان } ، وإنه كيت وكيت . أبهمت أولاً ثم فسرت ، وفي بنائها ألقي للمفعول دلالة على جهلها بالملقي ، حيث حذفته ، أو تحقيراً له ، حيث كان طائراً ، إن كانت شاهدته . والظاهر أن بداءة الكتاب من سليمان باسم الله الرحمن الرحيم ، إلى آخر ما قص الله منه خاصة ، فاحتمل أن يكون من سليمان مقدماً على بسم الله ، وهو الظاهر ، وقدمه لاحتمال أن يندر منها ما لا يليق ، إذ كانت كافرة ، فيكون اسمه وقاية لاسم الله تعالى . أو كان عنواناً في ظاهر الكتاب ، وباطنه فيه بسم الله إلى آخره . واحتمل أن يكون مؤخراً في الكتابة عن بسم الله ، وإن ابتدأ الكتاب باسم الله ، وحين قرأته عليهم بعد قراءتها له في نفسها ، قدمته في الحكاية ، وإن لم يكن مقدماً في الكتابة . وقال أبو بكر بن العربي : كانت رسل المتقدمين إذا كتبوا كتاباً بدأوا بأنفسهم ، من فلان إلى فلان ، وكذلك جاءت الإشارة . وعن أنس : ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتاباً بدأوا بأنفسهم . وقال أبو الليث في ( كتاب البستان ) له : ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز ، لأن الأمة قد أجمعت عليه وفعلوه . وقرأ الجمهور : إنه من سليمان ، وإنه بكسر الهمزة فيهما . وقرأ عبد الله : وإنه من سليمان ، بزيادة واو عطفاً على { إني ألقي } . وقرأ عكرمة ، وابن أبي عبلة : بفتحهما ، وخرج على البدل من كتاب ، أي ألقى إليّ أنه ، أو على أن يكون التقدير لأنه كأنها . عللت كرم الكتاب لكونه من سليمان وتصديره ببسم الله . وقرأ أبي : أن من سليمان وأن بسم الله ، بفتح الهمزة ونون ساكنة ، فخرج على أن أن هي المفسرة ، لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول ، وعلى أنها أن المخففة من الثقيلة ، وحذفت الهاء وبسم الله الرحمن الرحيم ، استفتاح شريف بارع المعنى مبدوء به في الكتب في كل لغة وكل شرع . وأن في قوله : { أن لا تعلوا } ، قيل : في موضع رفع على البدل من كتاب . وقيل : في موضع نصب على معنى بأن لا تعلوا ، وعلى هذين التقديرين تكون أن ناصبة للفعل . وقال الزمخشري : وأن في { أن لا تعلوا عليّ } مفسرة ، فعلى هذا تكون لا في لا تعلوا للنهي ، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه . وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير هو أن لا تعلوا ، فيكون خبر مبتدأ محذوف . ومعنى لا تعلوا : لا تتكبروا ، كما يفعل الملوك . وقرأ ابن عباس ، في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي : أن لا تغلوا ، بالغين المعجمة ، أي ألا تتجاوزوا الحد ، وهو من الغلو . والظاهر أنه طلب منهم أن يأتوه وقد أسلموا ، وتركوا الكفر وعبادة الشمس . وقيل : معناه مذعنين مستسلمين من الانقياد والدخول في الطاعة ، وما كتبه سليمان في غاية الإيجاز والبلاغة ، وكذلك كتب الأنبياء . والظاهر أن الكتاب هو ما نص الله عليه فقط . واحتمل أن يكون مكتوباً بالعربي ، إذ الملوك يكون عندهم من يترجم بعدة ألسن ، فكتب بالخط العربي واللفظ العربي ، لأنها كانت عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري . واحتمل أن يكون باللسان الذي كان سليمان يتكلم به ، وكان عندها من يترجم لها ، إذ كانت هي عارفة بذلك اللسان . وروي أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فلا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين . وكانت كتب الأنبياء جملاً لا يطيلون ولا يكثرون ، وطبع الكتاب بالمسك ، وختمه بخاتمة . وروي أنه لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان ، ولما قرأت على الملأ الكتاب ، ورأت ما فيه من الانتقال إلى سليمان ، استشارتهم في أمرها . قال قتادة : وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر ، وعنه : وثلاثة عشر ، كل رجل منهم على عشرة آلاف ، وكانت بأرض مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام ، وذكر عن عسكرها ما هو أعظم وأكثر من هذا ، والله أعلم بذلك . وتقدم الكلام في الفتوى في سورة يوسف ، والمراد هنا : أشيروا عليّ بما عندكم في ما حدث لها من الرأي السديد والتدبير . وقصدت بإشارتهم : استطلاع آرائهم واستعطافهم وتطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا . { ما كنت قاطعة أمراً } : أي مبرمة وفاصلة أمراً ، { حتى تشهدون } : أي تحضروا عندي ، فلا أستبد بأمر ، بل تكونون حاضرين معي . وفي قراءة عبد الله : ما كنت قاضية أمراً ، أي لا أبت إلا وأنتم حاضرون معي . وما كنت قاطعة أمراً ، عام في كل أمر ، أي إذا كانت عادتي هذه معكم ، فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة الكبرى التي هي الخروج من الملك والانسلاك في طاعة غيري والصيرورة تبعاً ؟ فراجعها الملأ بما أقرعينها من قولهم : إنهم { أولوا } ، أي قوة بالعدد والعدد ، { وأولوا بأس شديد } : أي أصحاب شجاعة ونجدة . أظهروا القوة العرضية ، ثم القوة الذاتية ، أي نحن متهيؤون للحرب ودفع هذا الحادث . ثم قالوا : { والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين } ، وذلك من حسن محاورتهم ، إذ وكلوا الأمر إليها ، وهو دليل على الطاعة المفرطة ، أي نحن ذكرنا ما نحن عليه ، ومع ذلك فالأمر موكول إليك ، كأنهم أشاروا أولاً عليها بالحرب ، أو أرادوا : نحن أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة ، وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن . فانظري ماذا تأمرين به ، نرجع إليك ونتبع رأيك ، وفانظري من التأمل والتفكر ، وماذا هو المفعول الثاني لتأمرين ، والمفعول الأول محذوف لفهم المعنى ، أي تأمريننا . والجملة معلق عنها انظري ، فهي في موضع مفعول لأنظري بعد إسقاط الحرف من اسم الاستفهام . ولما وصل إليها كتاب سليمان ، لا على يد رجل بل على طائر ، استعظمت ملك سليمان ، وعلمت أن من سخر له الطير حتى يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب ، غير ممتنع عليه تدويخ الأرض وملوكها ، فأخبرت بحال الملوك ومالت إلى المهاداة والصلح فقالت : { إن الملوك إذا دخلوا قرية } : أي تغلبوا عليها ، { أفسدوها } : أي خربوها بالهدم والحرق والقطع ، وأذلوا أعزة أهلها بالقتل والنهب والأسر ، وقولها فيه تزييف لآرائهم في الحرب ، وخوف عليهم وحياطة لهم ، واستعظام لملك سليمان . والظاهر أن { وكذلك يفعلون } هو من قولها ، أي عادة الملوك المستمرة تلك من الإفساد والتذليل ، وكانت ناشئة في بيت الملك ، فرأت ذلك وسمعت . ذكرت ذلك تأكيداً لما ذكرت من حال الملوك . وقيل : هو من كلام الله إعلاماً لرسوله صلى الله عليه وسلم وأمته ، وتصديقاً لإخبارها عن الملوك إذا تغلبوا . ولما كانت عادة الملوك قبول الهدايا ، وأن قبولها يدل على الرضا والإلفة ، قالت : { وإني مرسلة إليهم } ، أي إلى سليمان ومن معه ، رسلاً { بهدية } ، وجاء لفظ الهدية مبهماً . وقد ذكروا في تعيينها أقوالاً مضطربة متعارضة ، وذكروا من حيلها ومن حال سليمان حين وصلت إليه الهدية ، وكلامه مع رسلها ما الله أعلم به . و { فناظرة } معطوف على { مرسلة } . و { بم } متعلق بيرجع . ووقع للحوفي أن الباء متعلقة بناظرة ، وهو وهم فاحش ، والنظر هنا معلق أيضاً . والجملة في موضع مفعول به ، وفيه دلالة على أنها لم تثق بقبول الهدية ، بل جوزت الرد ، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان . والهدية : اسم لما يهدى ، كالعطية هي اسم لما يعطى . وروي أنها قالت لقومها : إن كان ملكاً دنياوياً ، أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك ، وإن كان نبياً ، لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه ، وفي الكلام حذف تقديره : فأرسلت الهدية ، فلما جاء ، أي الرسول سليمان ، والمراد بالرسول الجنس لا حقيقة المفرد ، وكذلك الضمير في ارجع والرسول يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث . وقرأ عبد الله : فلما جاءوا ، وقرأ : ارجعوا ، جعله عائداً على قوله : { المرسلون } . و { أتمدونني بمال } : استفهام إنكار واستقلال ، وفي ذلك دلالة على عزوفه عن الدنيا ، وعدم تعلق قلبه عليه الصلاة والسلام بها . ثم ذكر نعمة الله عليه ، وإن ما آتاه الله من النبوة وسعة الملك خير مما آتاكم ، بل أنتم بما يهدى إليكم تفرحون بحبكم الدنيا ، والهدية تصح إضافتها إلى المهدي وإلى المهدى إليه ، وهي هنا مضافة للمهدى إليه ، وهذا هو الظاهر . ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي ، أي بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك ، فإنكم قدرتم على إهداء مثلها . ويجوز أن تكون عبارة عن الرد ، كأنه قال : بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها . وقرأ جمهور السبعة : أتمدونني ، بنونين ، وأثبت بعض الياء . وقرأ حمزة : بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات ياء المتكلم . وقرأ المسيبي ، عن نافع : بنون واحدة خفيفة . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين قولك : أتمدونني بمال وأنا أغني منكم ، وبين أن يقوله بالفاء ؟ قلت : إذا قلته بالواو ، فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى ، وهو مع ذلك يمدني بالمال ، وإذا قلته بالفاء ، فقد جعلته ممن خفيت عنه حالي ، وأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده ، كأني أقول له : أنكر عليك ما فعلت ، فإني غني عنه . وعليه ورد قوله : { فما آتاني الله } . فإن قلت : فما وجه الإضراب ؟ قلت : لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره ، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه ، وهو أنهم لا يعرفون سبب رضاً ولا فرح إلا أن يهدى إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها . انتهى . { ارجع إليهم } : هو خطاب للرسول الذي جاء بالهدية ، وهو المنذر بن عمرو أمير الوفد ، والمعنى : ارجع إليهم بهديتهم ، وتقدمت قراءة عبد الله : ارجعوا إليهم ، وارجعوا هنا لا تتعدى ، أي انقلبوا وانصرفوا إليهم . وقيل : الخطاب بقوله : ارجع ، للهدهد محملاً كتاباً آخر . ثم أقسم سليمان فقال : { فلنأتينهم بجنود } ، متوعداً لهم ، وفيه حذف ، أي إن لم يأتوني مسلمين . ودل هذا التوعد على أنهم كانوا كفاراً باقين على الكفر إذ ذاك . والضمير في { بها } عائد على الجنود ، وهو جمع تكسير ، فيجوز أن يعود الضمير عليه ، كما يعود على الواحدة ، كما قالت العرب : الرجال وأعضادها . وقرأ عبد الله : بهم . ومعنى { لا قبل } : لا طاقة ، وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة ، أي لا تقدرون أن تقابلوهم . والضمير في منها عائد على سبأ ، وهي أرض بلقيس وقومها . وانتصب { أذلة } على الحال . { وهم صاغرون } : حال أخرى . والذل : ذهاب ما كانوا فيه من العز ، والصغار : وقوعهم في أسر واستعباد ، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً . وفي مجيء هاتين الحالتين دليل على جواز أن يقضي العامل حالين الذي حال واحد ، وهي مسألة خلاف ، ويمكن أن يقال : إن الثانية هنا جاءت توكيداً لقوله : { أذلة } ، فكأنهما حال واحدة .