Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 83-93)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي اذكر يوم نحشر ، والحشر : الجمع على عنف . { من كل أمة } : أي من الأمم ، ومن هي للتبعيض . { فوجاً } : أي جماعة كثيرة . { ممن يكذب بآياتنا } : من للبيان ، أي الذين يكذبون . والآيات : الأنبياء ، أو القرآن ، أو الدلائل ، أقوال . { فهم يوزعون } : تقدم تفسيره في أول قصة سليمان من هذه السورة . وعن ابن مسعود ، أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة : بين يدي أهل مكة ، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار . { حتى إذا جاؤوا } : أي إلى الموقف ؛ { قال أكذبتم بآياتي } : استفهام توبيخ وتقريع وإهانة ؛ { ولم تحيطوا بها علماً } : الظاهر أن الواو للحال ، أي أوقع تكذيبكم بها غير متدبرين لها ولا محيطين علماً بكنهها ؟ ويجوز أن تكون الواو للعطف ، أي أجحدتموها : ومع جحودها لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها ، فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه إليه ، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويحيط بمعانيه علماً . وقيل : { ولم تحيطوا بها علماً } ، أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها ، بل كذبتم جاهلين غير مستدلين . وأم هنا منقطعة ، وينبغي أن تقدر ببل وحدها . انتقل من الاستفهام الذي يقتضي التوبيخ إلى الاستفهام عن عملهم أيضاً على جهة التوبيخ ، أي : أي شيء كنتم تعملون ؟ والمعنى : إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوا ، وليس لهم عمل ولا حجة فيما عملوه إلا الكفر والتكذيب . وماذا بجملته يحتمل أن يكون استفهاماً منصوباً بخبر كان ، وهو تعملون ، وأن يكون ما هو الاستفهام ، وذا موصول بمعنى الذي ، فيكونان مبتدأ وخبراً ، وكان صلة لذا والعائد محذوف ، أي تعملونه . وقرأ أبو حيوة : أما ذا ، بتخفيف الميم ، أدخل أداة الاستفهام على اسم الاستفهام على سبيل التوكيد . { ووقع القول } : أي العذاب الموعود به بسبب ظلمهم ، وهو التكذيب بآيات الله . { فهم لا ينطقون } : أي بحجة ولا عذر لما شغلهم من عذاب الله . وقيل : يختم على أفواههم فلا ينطقون ، وانتفاء نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة ، أو من فريق من الناس ، لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن . ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة ، ليرتدع بسماعها من أراد الله تعالى ارتداعه ، نبههم على ما هو دليل على التوحيد والحشر والنبوة بما هم يشاهدونه في حال حياتهم ، وهو تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة ، ومن ظلمة إلى نور ، وفاعل ذلك واحد ، وهو الله تعالى ، فيجب أن يفرد بالعبادة والألوهية . وفي هذا التقليب دليل على القلب من حياة إلى موت ، ومن موت إلى حياة أخرى ، وفيه دليل أيضاً على النبوة ، لأن هذا التقليب هو لمنافع المكلفين ، ولهذا علل ذلك الجعل بقوله : { لتسكنوا فيه } [ يونس : 67 ، القصص : 73 ] ، وبعثة الأنبياء لتحصيل منافع الخلق ؛ وأضاف الإبصار إلى النهار على سبيل المجاز ، لما كان يقع فيه أضافه إليه ، كما تقول : ليلك نائم ، وعلل جعل الليل بقوله : { لتسكنوا فيه } ، أي لأن يقع سكونهم فيه مما يلحقهم من التعب في النهار واستراحة نفوسهم . قال بعض الرجاز : @ النوم راحة القوى الحسية من حركات والقوى النفسية @@ ولم يقع التقابل في جعل النهار بالنص على علته ، فيكون التركيب : والنهار لتبصروا فيه ، بل أتى بقوله : { مبصراً } ، قيداً في جعل النهار ، لا علة للجعل . فقال الزمخشري : هو مراعى من حيث المعنى ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف ، لأن معنى مبصراً : لتبصروا فيه طريق التقلب في المكاسب . انتهى . والذي يظهر أن هذا من باب ما حذف من أوله ما أثبت في مقابله ، وحذف من آخره ما أثبت في أوله ، فالتقدير : جعلنا الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، والنهار مبصراً لتتصرفوا فيه ؛ فالإظلام ينشأ عنه السكون ، والإبصار ينشأ عنه التصرف في المصالح ، ويدل عليه قوله تعالى : { وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم } [ الإسراء : 12 ] فالسكون علة لجعل الليل مظلماً ، والتصرف علة لجعل النهار مبصراً وتقدم لنا : الكلام على نظير هذين الحذفين مشبعاً في البقرة في قوله : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } [ البقرة : 171 ] . { إن في ذلك } : أي في هذا الجعل ، { لآيات لقوم يؤمنون } : لما كان لا ينتفع بالفكر في هذه الآيات إلا المؤمنون ، خصوا بالذكر ، وإن كانت آيات لهم ولغيرهم . { ويوم ينفخ في الصور } : تقدم القول في الصور في سورة الأنعام ، وهذه النفخة هي نفخة الفزع . وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور . وقيل : نفختان ، جعلوا الفزع والصعق نفخة واحدة ، واستدلوا بقوله : { ثم نفخ فيه أخرى } [ الزمر : 68 ] ، ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله . وقال صاحب الغنيان : { ويوم ينفخ في الصور } للبعث من القبور والحشر ، وعبر هنا بالماضي في قوله : { ففزغ } ، وإن كان لم يقع إشعاراً بصحة وقوعه ، وأنه كائن لا محالة ، وهذه فائدة وضع الماضي موضع المستقبل ، كقوله تعالى : { فأوردهم النار } [ هود : 98 ] ، بعد قوله : { يقدم قومه يوم القيامة } [ هود : 98 ] . { إلا من شاء الله } : أي فلا ينالهم هذا الفزع لتثبيت الله قلبه . فقال مقاتل : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت عليهم السلام . وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم ، فهم حريون أن لا ينالهم هذا . وقال الضحاك : الحور العين ، وخزنة النار ، وحملة العرش . وعن جابر : منهم موسى ، لأنه صعق مرة . وقال أبو هريرة : هم الشهداء ، ورواه أبو هريرة حديثاً ، وهو : " أنهم هم الشهداء عند ربهم يرزقون " ، وهو قول ابن جبير ، قال : هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش . وقيل : هم المؤمنون لقوله : { وهم من فزع يومئذ آمنون } . قال بعض العلماء : ولم يرد في تعيينهم خبر صحيح ، والكل محتمل . قال القرطبي : خفي عليه حديث أبي هريرة ، وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي ، فيعول عليه في التعيين ، وغيره اجتهاد . وهذا النفخ هو حقيقة ، إما في القرن ، وإما في الصور ، وهو قول الأكثرين . وقيل : يجوز أن يكون تمثيلاً لدعاء الموتى ، فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش عند سماع الصوت ، فيكون ذلك مجازاً . والأول قول الأكثرين ، وهو الصواب ، لكثرة ورود النفخ في الصور في القرآن وفي الحديث الصحيح . وقيل : ففزع ، ليس من الفزع بمعنى الخوف ، وإنما معناه : أجاب وأسرع إلى البقاء . { وكل أتوه } : المضاف إليه كل محذوف تقديره : وكلهم . وقرأ الجمهور : آتوه ، اسم فاعل ؛ وعبد الله ؛ وحمزة ، وحفص : أتوه ، فعلاً ماضياً ، وفي القراءتين روعي معنى كل من الجمع ، وقتادة : أتاه ، فعلاً ماضياً مسنداً الضمير كل على لفظها ، وجمع { داخرين } على معناها . وقرأ الحسن ، والأعمش : دخرين ، بغير ألف . قيل : ومعنى آتوه : حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية ، ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له . { ورى الجبال } : هو من رؤية العين تحسبها حال من فاعل ترى ، أو من الجبال . وجامدة ، من جمد مكانه إذا لم يبرح منه ، وهذه الحال للجبال عقيب النفخ في الصور ، وهي أول أحوال الجبال ، تموج وتسير ، ثم ينسفها الله فتصير كالعهن ، ثم تكون هباء منبثاً في آخر الأمر . { وهي تمر مر السحاب } : جملة حالية ، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة ، وتشبيه مرورها بمر السحاب . قيل : في كونها تمر مراً حثيثاً ، كما مر السحاب ، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد ، إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها ، كما قال النابغة الجعدي في صفة جيش : @ نار عن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لجاج والركاب تهملج @@ وقيل : شبه مرورها بمر السحاب في كونها تسير سيراً وسطاً ، كما قال الأعشى : @ كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريث ولا عجل @@ وحسبان الرائي الجبال جامدة مع مرورها ، قيل : لهول ذلك اليوم ، فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها ليست بجامدة . وقال أبو عبد الله الرازي : الوجه في حسبانهم أنها جامدة ، أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت ، ظن الناظر إليها أنها واقفة ، وهي تمر مراً حثيثاً . انتهى . وقيل : وصف تعالى الجبال بصفات مختلفة ، ترجع إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه . فأول الصفات : ارتجاجها ، ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ، ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ، ثم نسفها ، وهي مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها ، والأرض غير بارزة ، وبالنسف برزت ، ونفسها بإرسال الرياح عليها ، ثم تطييرها بالريح في الهواء كأنها غبار ، ثم كونها سراباً ، فإذا نظرت إلى مواضعها لم تجد فيها منها شيئاً كالسراب . وقال مقاتل : بل تقع على الأرض فتسوى بها . وانتصب { صنع الله } على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها ، فالعامل فيه مضمر من لفظه . وقال الزمخشري : { صنع الله } من المصادر المؤكدة كقوله : { وعد الله } [ النساء : 122 ] و { صبغة الله } [ البقرة : 138 ] ، إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ ، والمعنى : { ويوم ينفخ في الصور } ، فكان كيت وكيت ، أثاب الله المحسنين ، وعاقب المجرمين ، ثم قال : { صنع الله } ، يريد به الإثابة والمعاقبة ، وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب ، حيث قال : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } ، يعني ؛ أن مقابلته الحسنة بالثواب ، والسيئة بالعقاب ، من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها واجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد ، وبما يستوجبون عليه ، فيكافئهم على حسب ذلك . ثم لخص ذلك بقوله : { من جاء بالحسنة فله } ، إلى آخر الآيتين . فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره ، وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ إفراغاً واحداً ، وما لأمر أعجز القوى وأخرس الشقاشق ، ونحو هذا المصدر ، إذا جاء عقيب كلام ، جاء كالشاهد لصحته ، والمنادى على سداده ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما كان . ألا ترى إلى قوله : { صنع الله } ، و { صبغة الله } [ البقرة : 138 ] ، و { وعد الله } [ النساء : 122 ] ، و { فطرت الله } [ الروم : 30 ] بعد ما رسمها بإضافتها إليه تسمية التعظيم ، كيف تلاها بقوله : { الذي أتقن كل شيء } { ومن أحسن من الله صبغة } [ البقرة : 138 ] ، { إن الله لا يخلف الميعاد } [ آل عمران : 9 ] ، { لا تبديل لخلق الله } [ الروم : 30 ] انتهى . وهذا الذي ذكر من شقاشقه وتكثيره في الكلام ، واحتياله في إدارة ألفاظ القرآن لما عليه ، من مذاهب المعتزلة . والذي يظهر أن صنع الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، وهي جملة الحال ، أي صنع الله بها ذلك ، وهو قلعها من الأرض ، ومرّها مرًّا مثل مر السحاب . وأما قوله : إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ إلى قوله صنع الله ، يريد به الإثابة والمعاقبة ، فذلك لا يصح ، لأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته ، لأنه منصوب بفعل من لفظه ، فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر ، وذلك حذف كثير مخل . ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة ، وجد الجمل مصرحاً بها ، لم يرد الحذف في شيء منها ، إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد ، إذ الحذف ينافي التوكيد ، لأنه من حيث أكد معتنى به ، ومن حيث حذف غير معتنى به . وقيل : انتصب صنع الله على الإغراء بمعنى ، انظروا صنع الله . وقرأ العربيان ، وابن كثير : يفعلون بالياء ؛ وباقي السبعة بتاء الخطاب . ولما ذكر علامات القيامة ، ذكر أحوال المكلفين بعد قيام الساعة . { والحسنة } : الإيمان . وقال ابن عباس ، والنخعي ، وقتادة : هي لا إله إلا الله ، ورتب على مجيء المكلف بالحسنة شيئين : أحدهما : أنه له خير منها ، ويظهر أن خيراً ليس أفعل تفضيل ، ومن لابتداء الغاية ، أي له خير من الخيور مبدؤه ونشؤه منها ، أي من جهة هذه الحسنة ، والخير هنا : الثواب . وهذا قول الحسن ، وابن جريج ، وعكرمة . قال عكرمة : ليس شيء خيراً من لا إله إلا الله ، يريد أنها ليست أفعل التفضيل . وقيل : أفعل التفضيل . فقال الزمخشري : { فله خير منها } ، يريد الإضعاف ، وأن العمل ينقضي والثواب يدوم ، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد . انتهى . وقوله : وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد ، تركيب مختلف فيه ، فبعض العلماء منعه ، والصحيح جوازه . وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون للتفضيل ، ويكون في قوله : { منها } ، حذف مضاف تقديره : خير من قدرها واستحقاقها ، بمعنى : أن الله تعالى تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته . قال ابن زيد : يعطى بالواحدة عشراً ، والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل . انتهى . وقيل : ثواب المعرفة الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة ، ولذة النظر إلى وجهه الكريم . وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة ، ولو لم تحمل الآية على ذلك ، لزم أن يكون الأكل والشرب خيراً من معرفة الله تعالى ، وذلك لا يكون . وقرأ الكوفيون : { من فزع } ، بالتنوين ، { ويومئذ } ، منصوب على الظرف معمول لقوله : { آمنون } ، أو لفزع . ويدل على أنه معمول له قراءة من أضافه إليه ، أو في موضع الصفة لفزع ، أي كائن في ذلك الوقت . وقرأ باقي السبعة : بإضافة فزع إلى يومئذ ؛ فكسر الميم العربيان ، وابن كثير ، وإسماعيل بن جعفر ، عن نافع ، وفتحها ، بناء لإضافته إلى غير متمكن ؛ نافع ، في غير رواية إسماعيل . والتنوين في يومئذ تنوين العوض ، حذفت الجملة وعوض منها ، والأولى أن تكون الجملة المحذوفة ما قرب من الظرف ، أي يوم ، إذ جاء بالحسنة ، ويجوز أن يكون التقدير : يوم إذ ترى الجبال ، ويجوز أن يكون التقدير : يوم إذ ينفخ في الصور ، ولا سيما إذا فسر بأنه نفخ القيام من القبور للحساب ، ويكون الفزع إذ ذاك واحداً . وقال أبو عليّ ما معناه : من فزع ، بالتنوين ، أو بالإضافة ، ويجوز أن يراد به فزع واحد ، وأن يراد به الكثرة ، لأنه مصدر . فإن أريد الكثرة ، شمل كل فزع يكون في القيامة ، وإن أريد الواحد ، فهو الذي أشير إليه بقوله : { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين الفزعين ؟ قلت : الفزع الأول : ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة تفع ، وهو يفجأ من رعب وهيبة ، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به . والثاني : الخوف من العذاب . انتهى . والسيئة : الكفر والمعاصي ممن حتم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار . وخصت الوجوه ، إذ كانت أشرف الأعضاء ، ويلزم من كبها في النار كب الجميع ، أو عبر بالوجه عن جملة الإنسان ، كما يعبر عنها بالرأس والرقبة ، كما قال : { فكبكبوا فيها } [ الشعراء : 94 ] ، فكأنه قيل : فكبوا في النار . والظاهر من كبت ، أنهم يلقون في النار منكوسين ، قاله أبو العالية ، أعلاهم قبل أسفلهم . ويجوز أن يكون ذلك كناية عن طرحهم في النار ، قاله الضحاك . { هل تجزون } : خطاب لهم على إضمار القول ، أي يقال لهم وقت الكب : هل تجزون . ثم أمر تعالى نبيه أن يقول : { إنما أمرت } ، والآمر هو الله تعالى على لسان جبريل ، أو دليل العقل على وحدانية الله تعالى . { أن أعبد } : أي أفرده بالعبادة ، ولا أتخذ معه شريكاً ، كما فعلت قريش ، وهذه إشارة تعظيم كقوله : { وهذا كتاب أنزلناه } [ الأنعام : 155 ] ، هذا ذكر من معي من حيث هي موطن نبيه ومهبط وحيه . والبلدة : مكة ، وأسند التحريم إليه تشريفاً لها واختصاصاً ، ولا تعارض بين قوله : { الذي حرمها } ، وقوله عليه السلام : " إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة " ، لأن إسناد ذلك إلى الله من حيث كان بقضائه وسابق علمه ، وإسناده إلى إبراهيم من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته . وفي قوله : { حرمها } ، تنبيه بنعمته على قريش ، إذ جعل بلدتهم آمنة من الغارات والفتن التي تكون في بلاد العرب ، وأهلك من أرادها بسوء . وقرأ الجمهور : الذي : صفة للرب . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس : التي حرمها : صفة للبلدة ، ولما أخبر أنه مالك هذه البلدة ، أخبر أنه يملك كل شيء فقال : { وله كل شيء } ، أي جميع الأشياء داخلة في ربوبيته ، فشرفت البلدة بذكر اندراجها تحت ربوبيته على جهة الخصوص ، وعلى جهة العموم . { وأمرت أن أكون من المسلمين } : أي من المستسلمين المنقادين لأمر الله ، فاعبده كما أمرني ، أو من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام المشار إليهم في قوله : { هو سماكم المسلمين } [ الحج : 78 ] ، { وأن أتلوا القران } ، إما من التلاوة ، أي : وأن أتلو عليكم القرآن ، وهذا الظاهر ، إذ بعده التقسيم المناسب للتلاوة ، وإما من المتلو ، أي : وأن أتبع القرآن ، كقوله : { واتبع ما يوحى إليك } [ يونس : 109 ] . وقرأ الجمهور : وأن أتلو . وقرأ عبد الله : وأن اتل ، بغير واو ، أمراً من تلا ، فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر ، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار : وأمرت أن أتل ، أي اتل . وقرأ أبي : واتل هذا القرآن ، جعله أمراً دون أن . { فمن اهتدى } ، به ووحد الله ونبيه وآمن بما جاء به ، فثمرة هدايته مختصة به . { ومن ضل } ، فوبال إضلاله مختص به ، وحذف جواب من ضل لدلالة جواب مقابله عليه ، أو يقدر في قوله : { فقل إنما أنا من المنذرين } ضمير حي يربط الجزاء بالشرط ، إذ أداة الشرط اسم وليس ظرفاً ، فلا بد في جملة الجواب من ذكر يعود عليه ملفوظ به أو مقدر ، فتكون هذه الجملة هي جواب الشرط ، ويقدر الضمير من المنذرين له ، ليس علي إلا إنذاره ، وأما هدايته فإلى الله . { وقل الحمد لله } : أمر أن يقول ذلك ، فيحمد ربه على ما خصه به من شرف النبوة والرسالة ، واختصه من رفيع المنزلة . { سيريكم آياته } : تهديد لأعدائه بما يريهم الله من آياته التي تضطرهم إلى معرفتها والإقرار أنها آيات الله . قال الحسن : وذلك في الآخرة حتى لا تنفعهم المعرفة . وقال الكلبي : في الدنيا ؛ وهي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من نقمات الله . وقيل : يوم بدر . وقيل : خروج الدابة ، ولو بعد حين . وقيل : آياته في أنفسكم وفي سائر ما خلق مثل قوله : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] . وقيل : معجزات الرسول ، وأضافها إليه لأنه هو مجريها على يدي رسوله ، ومظهرها من جهته . { فتعرفونها } : أي حقيقتها ، ولا يسعكم جحودها . وقرأ الجمهور : عما يعملون ، بياء الغيبة ، التفاتاً من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ؛ ونافع ، وابن عامر : بتاء الخطاب لقوله : { سيريكم } . ولما قسمهم إلى مهتد وضال ، أخبر تعالى أنه محيط بأعمالهم ، غير غافل عنها .