Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 158-182)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الظاهر أن الجنة هم الشياطين ، وعن الكفار في ذلك مقالات شنيعة . منها أنه تعالى صاهر سروات الجن ، فولد منهم الملائكة ، وهم فرقة من بني مدلج ، وشافه بذلك بعض الكفار أبا بكر الصديق . { ولقد علمت الجنة } : أي الشياطين ، أنها محضرة أمر الله من ثواب وعقاب ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : إذا فسرت الجنة بالشياطين ، فيجوز أن يكون الضمير في { إنهم لمحضرون } لهم . والمعنى أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم ، ولو كانوا مناسبين له ، أو شركاء في وجوب الطاعة ، لما عذبهم . وقيل : الضمير في { وجعلوا } لفرقة من كفار قريش والعرب ، والجنة : الملائكة ، سموا بذلك لاجتنابهم وخفائهم . وقال الزمخشري : وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعاً منهم وتصغيراً لهم ، وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم ، وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار ، وهو من صفات الأجرام ، لا يصح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك . انتهى . { ولقد علمت الجنة } : أي الملائكة ، { إنهم } : أي الكفرة المدعين نسبة بين الملائكة وبين الله تعالى ، محضرون النار ، يعذبون بما يقولون . وأضيف ذلك إلى علم من نسبوا لذلك ، مبالغة في تكذيب الناسبين . ثم نزه تعالى نفسه عن الوصف الذي لا يليق به ، { إلا عباد الله } ، فإنهم يصفونه بصفاته . وأما من المحضرون ، أي إلا عباد الله ، فإنهم ناجون مدة العذاب ، وتكون جملة التنزيه اعتراضاً على كلا القولين ، فالاستثناء منقطع . والظاهر أن الواو في { وما تعبدون } للعطف ، عطفت ما تعبدون على الضمير في إنكم ، وأن الضمير في عليه عائد على ما ، والمعنى : قل لهم يا محمد : وما تعبدون من الأصنام ما أنتم وهم ، وغلب الخطاب . كما تقول : أنت وزيد تخرجان عليه ، أي على عبادة معبودكم . { بفاتنين } : أي بحاملين بالفتنة عبادة ، إلا من قدر الله في سابق علمه أنه من أهل النار . والضمير في { عليه } عائد على ما على حذف مضاف ، كما قلنا ، أي على عبادته . وضمن فاتنين معنى : حاملين بالفتنة ، ومن مفعولة بفاتنين ، فرغ له العامل إذ لم يكن بفاتنين مفعولاً . وقيل : عليه بمعنى : أي ما أنتم بالذي تعبدون بفاتنين ، وبه متعلق بفاتنين ، المعنى : ما أنتم فاتنين بذلك الذي عبدتموه إلا من سبق عليه القدر أنه يدخل النار . وجعل الزمخشري الضمير في عليه عائداً على الله ، قال فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله ؟ قلت : يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم من قولك : فتن فلان على فلان امرأته ، كما تقول : أفسدها عليه وخيبها عليه . ويجوز أن تكون الواو في { وما تعبدون } بمعنى مع مثلها في قولهم : كل رجل وضيعته . فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته ، جاز أن يسكت على قوله : { فإنكم وما تعبدون } ، لأن قوله : { وما تعبدون } ساد مسد الخبر ، لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون ، والمعنى : فإنكم مع آلهتكم ، أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونهم . ثم قال { ما أنتم عليه } : أي على ما تعبدون ، { بفاتنين } : بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال ، إلا من هو ضال منكم . انتهى . وكون الواو في { وما تعبدون } واو مع غير متبادر إلى الذهن ، وقطع { ما أنتم عليه بفاتنين } عن إنكم وما تعبدون ليس بجيد ، لأن اتصافه به هو السابق إلى الفهم مع صحة المعنى ، فلا ينبغي العدول عنه . وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة : صالوا الجحيم بالواو ، وهكذا في كتاب الكامل للهذلي . وفي كتاب ابن خالويه عنهما : صال مكتوباً بغير واو ، وفي كتاب ابن عطية . وقرأ الحسن : صالوا مكتوباً بالواو ؛ وفي كتاب اللوامح وكتاب الزمخشري عن الحسن : صال مكتوباً بغير واو . فمن أثبت الواو فهو جمع سلامة سقطت النون للإضافة . حمل أولاً على لفظ من فأفرد ، ثم ثانياً على معناها فجمع ، كقوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } [ البقرة : 8 ] ، حمل في يقول على لفظ من ، وفي وما هم على المعنى ، واجتمع الحمل على اللفظ ، والمعنى في جملة واحدة ، وهي صلة للموصول ، كقوله : { إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] . وقول الشاعر : @ وأيقظ من كان منكم نياماً @@ ومن لم يثبت الواو احتمل أن يكون جمعاً ، وحذفت الواو خطأ ، كما حذفت في حالة الوصل لفظاً لأجل التقاء الساكنين . واحتمل أن يكون صال مفرداً حذفت لامه تخفيفاً ، وجرى الإعراب في عينه ، كما حذف من قوله : { وجنى الجنتين دان } [ الرحمن : 54 ] ، { وله الجوار المنشآت } [ الرحمن : 24 ] ، برفع النون والجوار ، وقالوا : ما باليت به بالة ، أي بالية من بالى ، كعافية من عافى ، فحذفت لام باليت وبالية . وقالوا بالة وبال ، بحذف اللام فيهما . وقال الزمخشري : وقد وجه نحواً من الوجهين السابقين وجعلهما أولاً وثالثاً فقال : والثاني أن يكون أصله صائل على القلب ، ثم يقال : صال في صائل ، كقولهم : شاك في شائك . انتهى . { وما منا } : أي أحد ، { إلا له مقام معلوم } : أي مقام في العبادة والانتهاء إلى أمر الله ، مقصور عليه لا يتجاوزه . كما روي : فمنهم راكع لا يقيم ظهره ، وساجد لا يرفع رأسه ، وهذا قول الملائكة ، وهو يقوي قول من جعل الجنة هم الملائكة تبرؤا عن ما نسب إليهم الكفرة من كونهم بنات الله ، وأخبروا عن حال عبوديتهم ، وعلى أي حالة هم فيها . وفي الحديث : " أن السماء ما فيها موضع إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي " ، وعن ابن مسعود : " موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه " ، وحذف المبتدإ مع من جيد فصيح ، كما مر في قوله : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن } [ النساء : 159 ] ، أي وأن من أهل الكتاب أحد . وقال العرب : منا ظعن ومنا أقام ، يريد : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام . وقال الزمخشري : وما منا أحد إلا له مقام معلوم ، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، كقوله : @ أنا ابن جلا وطلاع الثنايا بكفي كان من أرمي البشر @@ انتهى . وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، لأن أحداً المحذوف مبتدأ . وإلا له مقام معلوم خبره ، ولأنه لا ينعقد كلام من قوله : وما منا أحد ، فقوله : { إلا له مقام معلوم } هو محط الفائدة . وإن تخيل أن { إلا له مقام معلوم } في موضع الصفة ، فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها ، وأنها فارقت غير إذا ؛ كانت صفة في ذلك ، ليتمكن غيره في الوصف وقلة تمكن إلا فيه ، وجعل ذلك كقوله : أنا ابن جلا ، أي ابن رجل جلا ؛ وبكفي كان ، أي رجل كان ، وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات . { وإنا لنحن الصافون } : أي أقدامنا في الصلاة ، أو أجنحتنا في الهواء ، أو حول العرش داعين للمؤمنين . وقال الزهراوي : قيل إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية ، ولا يصطف أحد من الملل غير المسلمين . { وإنا لنحن المسبحون } : أي المنزهون الله عن ما نسب إليه الكفرة ، أو المنزهون بلفظ التسبيح ، أو المصلون . وينبغي أن يجعل قوله : { سبحان الله عما يصفون } من كلام الملائكة ، فتطرد الجمل وتنساق لقائل واحد ، فكأنه قيل : ولقد علمت الملائكة أن ناسبي ذلك لمحضرون للعذاب ؛ وقالوا : سبحان الله ، فنزهوا عن ذلك واستثنوا من أخلص من عباد الله ؛ وقالوا للكفرة : فإنكم وآلهتكم إلى آخره . وكيف نكون مناسبيه ، ونحن عبيد بين يديه ، لكل منا مقام من الطاعة ؟ إلى ما وصفوا به أنفسهم من رتبة العبودية . وقيل : { وما منا إلا له مقام معلوم } ، هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي وما من المرسلين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله ، من قوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } [ الإِسراء : 79 ] . ثم ذكر أعمالهم ، وأنهم المصطفون في الصلاة المنزهون الله عن ما يقول أهل الضلال . والضمير في { ليقولون } لكفار قريش ، { لو أن عندنا ذكراً } : أي كتاباً من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، لأخلصنا العبادة لله ، ولم نكذب كما كذبوا . { فكفروا به } : أي فجاءهم الذكر الذي كانوا يتمنونه ، وهو أشرف الأذكار ، لأعجازه من بين الكتب . { فسوف يعلمون } عاقبة كفرهم ، وما يحل بهم من الانتقام . وأكدوا قولهم بأن المخففة وباللام كونهم كانوا جادين في ذلك ، ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ ، كقوله : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] . { ولقد سبقت كلمتنا } : قرأ الجمهور بالإفراد لما انتظمت في معنى واحد عبر عنها بالإفراد . وقرأ الضحاك : بالجمع ، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقامات الحجاج وملاحم القتال في الدنيا ، وعلوهم عليهم في الآخرة . وقال الحسن : ما غلب نبي في الحرب ، ولا قتل فيها . { فتول عنهم حتى حين } : أي إلى مدّة يسيرة ، وهي مدّة الكف عن القتال . وعن السدّي : إلى يوم بدر ، ورجحه الطبري . وقال قتادة : إلى موتهم . وقال ابن زيد : إلى يوم القيامة . { وأبصرهم } : أي انظر إلى عاقبة أمرهم ، فسوف يبصرونها وما يحل بهم من العذاب والأسر والقتل ، أو سوف يبصرونك وما يتم لك من الظفر بهم والنصر عليهم . وأمره بإبصارهم إشارة إلى الحالة المنتظرة الكائنة لا محالة ، وأنها قريبة كأنها بين ناظريه بحيث هو يبصرها ، وفي ذلك تسلية وتنفيس عنه عليه السلام . { أفبعذابنا يستعجلون } : استفهام توبيخ . { فإذا نزل } هو ، أي العذاب ، مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذره ، فأنكروه بحيث أنذر بهجومه قومه وبعض صناعهم ، فلم يلتفتوا إلى إنذراه ، ولا أخذوا أهبته ، ولا دبروا أمرهم تدبير ينجيهم حتى أناخ بفنائهم ، فشن عليهم الغارة ، وقطع دابرهم . وكانت عادة مغازيهم أن يغيروا صباحاً ، فسميت الغارة صباحاً ، وإن وقعت في وقت آخر . وما فصحت هذه الآية ، ولا كانت له الروعة التي يحسن بها ، ويرونك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل ، قاله الزمخشري . وقرأ الجمهور : مبنياً للفاعل ؛ وابن مسعود : مبنياً للمفعول ؛ وساحتهم : هو القائم مقام الفاعل . ونزل ساحة فلان ، يستعمل فيما ورد على الإنسان من خير أو شر ؛ وسوء الصباح : يستعمل في حلول الغارات والرزايات ؛ ومثل قول الصارخ : يا صباحاه ؛ وحكم ساء هنا حكم بئس . وقرأ عبد الله : فبئس ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : فساء صباح المنذرين صباحهم . { وتول عنهم حتى حين } : كرر الأمر بالتولي ، تأنيساً له عليه الصلاة والسلام ، وتسلية وتأكيد لوقوع الميعاد ؛ ولم يقيد أمره بالإبصار ، كما قيده في الأول ، إما لاكتفائه به في الأول فحذفه اختصاراً ، وإما لما في ترك التقييد من جولان الذهن فيما يتعلق به الإبصار منه من صنوف المساءات ، والإبصار منهم من صنوف المسرات . وقيل : أريد بالأول عذاب الدنيا ، وبالآخرة عذاب الآخرة . وختم تعالى هذه السورة بتنزيهه عن ما يصفه المشركون ، وأضاف الرب إلى نبيه تشريفاً له بإضافته وخطابه ، ثم إلى العزة ، وهي العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين ، وكذلك قال الفقهاء من جهة أنها مربوبة . وقال محمد بن سحنون وغيره : من حلف بعزة الله تعالى إلى يريد عزته التي خلقت بين عباده ، وهي التي في قوله : { رب العزة } ، فليست بيمين . وقال الزمخشري : أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها ، كأنه قيل : ذو العزة ، كما تقول : صاحب صدق لاختصاصه بالصدق . انتهى . فعلى هذا تنعقد اليمين بعزة الله لأنها صفة من صفاته . قال : ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها ، لقوله : { وتعزّ من تشاء } [ آل عمران : 26 ] . وعن علي ، كرم الله وجهه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه : { سبحان ربك رب العزة } ، إلى آخر السورة .