Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 1-14)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لات : هي لا ، ألحقت بها التاء كما ألحقت في ثم ورب ، فقالوا : ثمت وربت ، وهي تعمل عمل ليس في مذهب سيبويه ، وعمل إن في مذهب الأخفش . فإن ارتفع ما بعدها ، فعلى الابتداء عنده ؛ ولها أحكام ذكرت في علم النحو ، ويأتي شيء منها هنا عند ذكر القراءات التي فيها . والمناص : المنجا والغوث ، يقال ناصه ينوصه : إذا فاته . قال الفراء : النوص : التأخير ، يقال ناص عن قرنه ينوص نوصاً ومناصاً : أي فر وزاغ ، وأنشد لامرىء القيس : @ أم ذكر سلمى ان نأتك كنوص واستناص طلب المناص @@ قال حارثة بن بدر : @ غمر الجراء إذا قصرت عنانه بيدي استناص ورام جري المسحل @@ وقال الجوهري : استناص : تأخر . وقال النحاس : ناص ينوص : تقدم . الوتد : معروف ، وكسر التاء أشهر من فتحها . ويقال : وتد واتد ، كما يقال : شغل شاغل . قال الأصمعي وأنشد : @ لاقت على الماء جذيلاً واتداً ولم يكن يخلفها المواعدا @@ وقالوا : ودّ فأدغموه ، قال الشاعر : @ تخرج الودّ إذا ما أشحذت وتواريه إذا ما تشتكر @@ وقالوا فيه : دت ، فأدغموا بإدال الدال تاء ، وفيه قلب الثاني للأول ، وهو قليل . { ص والقرآن ذي الذكر ، بل الذين كفروا في عزّة وشقاق ، كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص ، وعجبوا ان جاءهم منذر منهم وقال الكفارون هذا ساحر كذاب ، أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ، وانطلق الملأ منهم أن أمشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ، أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب ، أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ، أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ، جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ، كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد ، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب ، إن كل إلا كذَّب الرسل فحق عقاب } . هذه السورة مكية ، ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه لما ذكر عن الكفار أنهم كانوا يقولون : { لو أن عندنا ذكراً من الأولين } [ الصافات : 168 ] ، لأخلصوا العبادة لله . وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به . بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن ، لأنه الذكر الذي جاءهم ، وأخبر عنهم أنهم كافرون ، وأنهم في تعزز ومشاقة للرسول الذي جاء به ؛ ثم ذكر من أهلك من القرون التي شاقت الرسل ليتعظوا . " وروي أنه لما مرض أبو طالب ، جاءت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل ، فقام أبو جهل كي يمنعه ، وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ، ما تريد من قومك ؟ فقال : يا عم ، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب ، وتؤدّي إليهم الجزية بها العجم . قال : وما الكلمة ؟ قال : كلمة واحدة ، قال : وما هي ؟ قال : لا إله إلا الله ، قال فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؟ " قال : فنزل فيهم القرآن : { ص والقرآن ذي الذكر } ، حتى بلغ ، { إن هذا إلا اختلاق } . قرأ الجمهور : صْ ، بسكون الدال . وقرأ أبي ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو السمال ، وابن أبي عبلة ، ونصر بن عاصم : صاد ، بكسر الدال ، والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين . وهو حرف من حروف المعجم نحو : ق ونون . وقال الحسن : هو أمر من صادى ، أي عارض ، ومنه الصدى ، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام ، أي عارض بعملك القرآن . وعنه أيضاً : صاديت : حادثت ، أي حادث ، وهو قريب من القول الأول . وقرأ عيسى ، ومحبوب عن أبي عمرو ، وفرقة : صاد ، بفتح الدال ، وكذا قرأ : قاف ونون ، بفتح الفاء والنون ، فقيل : الفتح لالتقاء الساكنين طلباً للتخفيف ؛ وقيل : انتصب على أنه مقسم به ، حذف منه حرف القسم نحو قوله : ألله لأفعلن ، وهو اسم للسورة ، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث ، وقد صرفها من قرأ صاد بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل ، وهو ابن أبي إسحاق في رواية . وقرأ الحسن أيضاً : صاد ، بضم الدال ، فإن كان اسماً للسورة ، فخبر مبتدأ محذوف ، أي هذه ص ، وهي قراءة ابن السميفع وهارون الأعور ؛ وقرأ قاف ونون ، بضم الفاء والنون . وقيل : هو حرف دال على معنى من فعل أو من اسم ، فقال الضحاك : معناه صدق الله . وقال محمد بن كعب : مفتاح أسماء الله محمد صادق الوعد صانع المصنوعات . وقيل : معناه صدق محمد . قال ابن عباس ، وابن جبير ، والسدّي : ذي الذكر : ذي الشرف الباقي المخلد . وقال قتادة : ذي التذكرة ، للناس والهداية لهم . وقيل : ذي الذكر ، للأمم والقصص والغيوب والشرائع وجواب القسم ، قيل : مذكور ، فقال الكوفيون والزجاج : هو قوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] . وقال الفراء : لا نجده مستقيماً في العربية لتأخره جداً عن قوله : { والقرآن } . وقال الأخفش : هو { إن كل إلا كذّب الرسل } ، وقال قوم : { كم أهلكنا } ، وحذف اللام أي لكم ، لما طال الكلام ؛ كما حذفت في { والشمس } [ الشمس : 1 ] ، ثم قال : { قد أفلح } [ المؤمنون : 1 ] ، حكاه الفراء وثعلب ، وهذه الأقوال يجب اطراحها . وقيل : هو صاد ، إذ معناه : صدق محمد وصدق الله . وكون صاد جواب القسم ، قاله الفراء وثعلب ، وهذا مبني على تقدم جواب القسم ، واعتقاد أن الصاد يدل على ما ذكروه . وقيل : الجواب محذوف ، فقدره الحوفي : لقد جاءكم الحق ونحوه ، والزمخشري : إنه لمعجز ، وابن عطية : ما الأمر كما تزعمون ، ونحو هذا من التقدير . ونقل أن قتادة والطبري قالا : هو محذوف قبل { بل } ، قال : وهو الصحيح ، وقدره ما ذكرنا عنه ، وينبغي أن يقدر ما أثبت هنا جواباً للقرآن حين أقسم به ، وذلك في قوله تعالى : { يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين } [ يس : 1ـ3 ] ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله : { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } ، وقال هناك : { لتنذر قوماً } [ يس : 6 ] ، فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة ، وبل للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى حالة تعزز الكفار ومشاقهم في قبول رسالتك وامتثال ما جئت به ، واعتراف بالحق . وقرأ حماد بن الزبرقان ، وسورة عن الكسائي ، وميمون عن أبي جعفر ، والجحدري من طريق العقيلي : في غرة ، بالغين المعجمة والراء ، أي في غفلة ومشاقة . { قبلهم } : أي قبل هؤلاء ذوي المنعة الشديدة والشقاق ، وهذا وعيد لهم . { فنادوا } : أي استغاثوا ونادوا بالتوبة ، قاله الحسن ؛ أو رفعوا أصواتهم ، يقال : فلان أندى صوتاً : أي أرفع ، وذلك بعد معاينة العذاب ، فلم يك وقت نفع . وقرأ الجمهور : { ولات حين } ، بفتح التاء ونصب النون ، فعلى قول سيبويه ، عملت عمل ليس ، واسمها محذوف تقديره : ولات الحين حين فوات ولا فرار . وعلى قول الأخفش : يكون حين اسم لات ، عملت عمل إن نصبت الإسم ورفعت الخبر ، والخبر مخذوف تقديره : ولات أرى حين مناص . وقرأ أبو السمال : ولات حين ، بضم التاء ورفع النون ؛ فعلى قول سيبويه : حين مناص اسم لات ، والخبر محذوف ؛ وعلى قول الأخفش : مبتدأ ، والخبر محذوف . وقرأ عيسى بن عمر : ولات حين ، بكسر التاء وجر النون ، خبر بعد لات ، وتخريجه مشكل ، وقد تمحل الزمخشري في تخريج الخبر في قوله : @ طلبوا صلحنا ولات حين أوان فأجبنا أن لات حين بقاء @@ قال : شبه أوان بإذ في قوله : وأنت إذ صحيح في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض ، لأن الأصل : ولات أوان صلح . فإن قلت : فما تقول في حين مناص ، والمضاف إليه قائم ؟ قلت : نزل قطع المضاف والمضاف إليه ، وجعل تنوينه عوضاً من الضمير المحذوف ، ثم بنى الحين لكونه مضافاً إلى غير متمكن . انتهى . هذا التمحل ، والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة ، والبيت النادر في جر ما بعد لات : أن الجر هو على إضمار من ، كأنه قال : لات من حين مناص ، ولات من أوان صلح ، كما جروا بها في قولهم : على كم جذع بيتك ؟ أي من جذع في أصح القولين ، وكما قالوا : لا رجل جزاه الله خيراً ، يريدون : لا من رجل ، ويكون موضع من حين مناص رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقول : ليس من رجل قائماً ، والخبر محذوف ، وهذا على قول سيبويه ، أو على أنه مبتدأ أو الخبر محذوف ، على قول الأخفش . وقال بعضهم : ومن العرب من يخفض بلات ، وأنشد الفراء : @ ولتندمن ولات ساعة مندم @@ وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين ، أي ولات حين أوان ، حذف حين وأبقى أوان على جره . وقال أبو إسحاق : ولات أواننا ، فحذف المضاف إليه ، فوجب أن لا يعرب ، وكسره لالتقاء الساكنين ؛ وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري ، أخذه من أبي إسحاق الزجاج ، وأنشده المبرد : ولات أوان بالرفع . وعن عيسى : ولات حين ، بالرفع ، مناص : بالفتح . وقال صاحب اللوامح : فإن صح ذلك ، فلعله بنى حين على الضم ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، وأجراه مجرى قبل وبعد في الغاية ، وبنى مناص على الفتح مع لات ، على تقدير : لات مناص حين ، لكن لا إنما تعمل في النكرات في اتصالها بهن دون أن يفصل بينهما ظرف أو غيره ، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه . انتهى . وقرأ عيسى أيضاً : ولات بكسر التاء ، وحين بنصب النون ، وتقدم تخريج نصب حين . ولات روي فيها فتح التاء وضمها وكسرها والوقف عليها بالتاء ، قول سيبويه والفراء وابن كيسان والزجاج ، ووقف الكسائي والمبرد بالهاء ، وقوم على لا ، وزعموا أن التاء زيدت في حين ؛ واختاره أبو عبيدة وذكر أن رآه في الإمام مخلوطاً تاؤه بحين ، وكيف يصنع بقوله : ولات ساعة مندم ، ولات أوان . وقال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا ، قال بعضهم لبعض : مناص ، أي عليكم بالفرار ، فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص ، فقال الله : { ولات حين مناص } . قال القشيري : فعلى هذا يكون التقدير : فنادوا مناص ، فحذف لدلالة ما بعده عليه ، أي ليس الوقت وقت ندائكم به ، وفيه نوع تحكم ، إذ كل من هلك من القرون يقول مناص عند الاضطرار . انتهى . وقال الجرجاني : أي فنادوا حين لا مناص ، أي ساعة لا منجا ولا فوت . فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو ، كما تقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبراً مثل : جاء زيد راكباً ، ثم تقول : جاء زيد وهو راكب ، فحين ظرف لقوله : { فنادوا } . انتهى . وكون أصل هذه الجملة : فنادوا حين لا مناص ، وأن حين ظرف لقوله : { فنادوا } دعوى أعجمية مخالفة لنظم القرآن ، والمعنى على نظمه في غاية الوضوح ، والجملة في موضع الحال ، فنادوا وهم لات حين مناص ، أي لهم . ولما أخبر تعالى عن الكفار أنهم في عزة وشقاق ، أردف بما صدر عنهم من كلماتهم الفاسدة ، من نسبتهم إليه السحر والكذب . ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : { وقال الكافرون } ، أي : وقالوا تنبيهاً على الصفة التي أوجبت لهم العجب ، حتى نسبوا من جاء بالهدى والتوحيد إلى السحر والكذب . { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } ، قالوا : كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمورهم ؟ وجعل : بمعنى صير في القول والدعوى والزعم ، وذكر عجبهم مما لا يعجب منه . والضمير في { وعجبوا } لهم ، أي استغربوا مجيء رسول من أنفسهم . وقرأ الجمهور : { عجاب } ، وهو بناء مبالغة ، كرجل طوال وسراع في طويل وسريع . وقرأ علي ، والسلمي ، وعيسى ، وابن مقسم : بشد الجيم ، وقالوا : رجل كرّام وطعام طياب ، وهو أبلغ من فعال المخفف . وقال مقاتل : عجاب لغة أزد شنوءة . والذين قالوا : { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } ، قال ابن عباس : صناديد قريش ، وهم ستة وعشرون . { وانطلق الملأ منهم } : الظاهر انطلاقهم عن مجلس أبي طالب ، حين اجتمعوا هم والرسول عنده وشكوه على ما تقدّم في سبب النزول ؛ ويكون ثم محذوف تقديره : يتحاورون . { أن امشوا } ، وتكون أن مفسرة لذلك المحذوف ، وامشوا أمر بالمشي ، وهو نقل الأقدام عن ذلك المجلس . وقال الزمخشري : وأن بمعنى أي ، لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول والأمر بالمشي ، أي بعضهم أمر بعضاً . وقيل : أمر الأشراف أتباعهم وأعوانهم . ويجوز أن تكون أن مصدرية ، أي وانطلقوا بقولهم امشوا ، وقيل : الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام ، وأن مفسرة على هذا ، والأمر بالمشي لا يراد به نقل الخطا ، إنما معناه : سيروا على طريقتكم ودوموا على سيرتكم . وقيل : { امشوا } دعاء بكسب الماشية ، قيل : وهو ضعيف ، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطوعة ، لأنه إنما يقال : أمشي الرجل إذا صار صاحب ماشية ؛ وأيضاً فهذا المعنى غير متمكن في الآية . وقال الزمخشري : ويجوز أنهم قالوا : امشوا ، أي أكثروا واجتمعوا ، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ؛ ومنه الماشية للتفاؤل . انتهى . وأمروا بالصبر على الآلهة ، أي على عبادتها والتمسك بها . والإشارة بقوله : { إن هذا } أي ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلوه بالنبوة ، { لشيء يراد } : أي يراد منا الانقياد إليه ، أو يريده الله ويحكم بإمضائه ، فليس فيه إلا الصبر ، أو أن هذا الأمر شيء من نوائب الدهر مراد منا ، فلا انفكاك عنه ، وأن دينكم لشيء يراد ، أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه ، احتمالات أربعة . وقال القفال : هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف ، المعنى : أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير للدين ، وإنما غرضه أن يستولي علينا ، فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد . { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، ومقاتل : ملة النصارى ، لأن فيها التثليث ، ولا توحد . وقال مجاهد ، وقتادة : ملة العرب : قريش ونجدتها . وقال الفراء ، والزجاج : ملة اليهود والنصرانية ، أشركت اليهود بعزير ، وثلث النصارى . وقيل : في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان ، وذلك أنه قبل المبعث ، كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين . ويدل على صحة هذا ما روي من أقوال الأحبار أولي الصوامع ، وما روي عن الكهان شق وسطيح وغيرهما ، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم . وقيل : في الملة الآخرة ، أي لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله . { إن هذا إلا اختلاق } : أي افتعال وكذب . { أأنزل عليه الذكر من بيننا } : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم ، وهذا الإنكار هو ناشىء عن حسد عظيم انطوت عليه صدورهم فنطقت به ألسنتهم . { بل هم في شك من ذكري } : أي من القرآن الذي أنزلت على رسولي يرتابون فيه ، والإخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم : { إن هذا إلا اختلاق } . { بل لما يذوقوا عذاب } : أي بعد ، فإذا ذاقوه عرفوا أن ما جاء به حق وزال عنهم الشك . { أم عندهم خزائن رحمة ربك } : أي ليسوا متصرفين في خزائن الرحمة ، فيعطون ما شاؤوا ، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا ، ويصطفون للرسالة من أرادوا ، وإنما يملكها ويتصرف فيها { العزيز } : الذي لا يغالب ، { الوهاب } : ما شاء لمن شاء . لما استفهم استفهام إنكار في قوله : { أم عندهم خزائن رحمة ربك } ، وكان ذلك دليلاً على انتفاء تصرفهم في خزائن رحمة ربك ، أتى بالإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم فقال : { أم لهم ملك السموات والأرض } : أي ليس لهم شيء من ذلك . { فليرتقوا } : أي ألهم شيء من ذلك ، فليصعدوا ، { في الأسباب } ، الموصولة إلى السماء ، والمعارج التي يتوصل بها إلى تدبير العالم ، فيضعون الرسالة فيمن اختاروا . ثم صغرهم وحقرهم ، فأخبر بما يؤول إليه أمرهم من الهزيمة والخيبة . قيل : وما زائدة ، ويجوز أن تكون صفة أريد به التعظيم على سبيل الهزء بهم ، أو التحقير ، لأن مال الصفة تستعمل على هذين المعنيين . و { هنالك } : ظرف مكان يشار به للبعيد . والظاهر أنه يشار به للمكان الذي تفاوضوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بتلك الكلمات السابقة ، وهو مكة ، فيكون ذلك إخباراً بالغيب عن هزيمتهم بمكة يوم الفتح ، فالمعنى أنهم يصيرون مهزومين بمكة يوم الفتح . وقيل : { هنالك } ، إشارة إلى الإرتقاء في الأسباب ، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم . وقيل : أشير بهنالك إلى جملة الأصنام وعضدها ، أي هم جند مهزوم في هذه السبيل . وقال مجاهد ، وقتادة : الإشارة إلى يوم بدر ، وكان غيباً ، أعلم الله به على لسان رسوله . وقيل : الإشارة إلى حصر عام الخندق بالمدينة . وقال الزمخشري : وهنالك ، إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم من قولهم : لمن يندبه لأمر ليس من أهله ، لست هنالك . انتهى . و { هنالك } ، يحتمل أن يكون في موضع الصفة لجند ، أي كائن هنالك ؛ ويحتمل أن يكون متعلقاً بمهزوم ، وجند خبر مبتدأ محذوف ، أي هم جند ، ومهزوم خبره . وقال أبو البقاء : جند مبتدأ ، وما زائدة ، وهنالك نعت ، ومهزوم الخبر . انتهى . وفيه بعد لفصله عن الكلام الذي قبله . ومعنى { من الأحزاب } : من جملة الأحزاب الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل . ولما ذكر تعالى أنه أهلك قبل قريش قروناً كثيرة لما كذبوا رسلهم ، سرد منهم هنا من له تعلق بعرفانه . و { ذو الأوتاد } : أي صاحب الأوتاد ، وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده . قال الأفوه العوذي : @ والبيت لا يبتنى إلا على عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد @@ فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر ، كما قال الأسود : @ في ظل ملك ثابت الأوتاد @@ قاله الزمخشري ، وأخذه من كلام غيره . وقال ابن عباس ، وقتادة ، وعطاء : كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها . وقال السدي : كان يقتل الناس بالأوتاد ، ويسمرهم في الأرض بها . وقال الضحاك : أراد المباني العظيمة الثابتة . وقيل : عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره . وقيل : كان يشج المعذب بين أربع سواري ، كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروبة فيها وتد من حديد ، ويتركه حتى يموت . روي معناه عن الحسن ومجاهد ، وقيل : كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ، ويرسل عليه العقارب والحيات . وقيل : يشدهم بأربعة أوتاد ، ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتشدخه . وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، في رواية عطية : الأوتاد : الجنود ، يشدون ملكه ، كما يقوي الوتد الشيء . وقيل : بنى مناراً يذبح عليها الناس ، قاله ابن جبير . { أولئك الأحزاب } : أي الذين تحزبوا على أنبيائهم ، كما تحزب قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم . والظاهر أن الإشارة بأولئك إلى أقرب مذكور ، وهم قوم نوح ومن عطف عليهم ؛ وفيه تفخيم لشأنهم وإعلاء لهم على من تحزب على رسول الله ، أي هؤلاء العظماء لما كذبوا عوقبوا ، وكذلك أنتم . { إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب } : فوجب عقابهم . كذبت قوم نوح ، آذوا نوحاً فأغرقوا ؛ وقوم هود فأهلكوا بالريح ؛ وفرعون فأغرق ؛ وثمود بالصيحة ؛ وقوم لوط بالخسف ؛ والأيكة بعذاب الظلة . ومعنى { إن كل } : ما كان من قوم نوح فمن بعدهم ، { فحق عقاب } : أي وجب عقابهم ، فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بالرسول . قال الزمخشري : { أولئك الأحزاب } ، قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم هم هم ، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب ، ولقد ذكرت تكذيبهم أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية ، فأوضحه فيها بأن كل واحد من الأحزاب كذب الرسل ، لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم ، فقد كذبوا جميعاً ، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه ، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً ، وبالاستثناء ثانياً ، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشدّ العذاب وأبلغه . ثم قال : { فحق عقاب } : أي فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم . انتهى .