Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 56-63)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المقاليد : المفاتيح ، قيل : لا واحد لها من لفظها ، قاله التبريزي . وقيل : واحدها مقليد ، وقيل : مقلاد ، ويقال : إقليد وأقاليد ، والكلمة أصلها فارسية … { أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ، أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ، ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ، وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولاهم يحزنون ، الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ، له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } . روي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق ، أتاه إبليس فقال له : تمتع من الدنيا ثم تب ، فأطاعه وأنفق ماله في الفجور . فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان ، فقال : { ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله } ، وذهب عمري في طاعة الشيطان ، وأسخطت ربي ، فندم حين لا ينفعه ، فأنزل الله خبره . { أن تقول } : مفعول من أجله ، فقدره ابن عطية : أي أنيبوا من أجل أن تقول . وقال الزمخشري : كراهة أن تقول ، والحوفي : أنذرناكم مخافة أن تقول ، ونكر نفس لأنه أريد بها بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر ، أو أريد الكثير ، كما قال الأعشى : @ ورب نفيع لو هتفت لنحوه أتاني كريم ينقض الرأسى مغضبا @@ يريد أفواجاً من الكرام ينصرونه ، لا كريماً واحداً ؛ أو أريد نفس متميزة من الأنفس بالفجاج الشديد في الكفر ، أو بعذاب عظيم . قال هذه المحتملات الزمخشري ، والظاهر الأول . وقرأ الجمهور : يا حسرتا ، بإبدال ياء المتكلم ألفاً ، وأبو جعفر : يا حسرتا ، بياء الإضافة ، وعنه : يا حسرتي ، بالألف والياء جمعاً بين العوض والمعوض ، والياء مفتوحة أو سانة . وقال أبو الفضل الرازي في تصنيفه ( كتاب اللوامح ) : ولو ذهب إلى أنه أراد تثنية الحسرة مثل لبيك وسعديك ، لأن معناهما لب بعد لب وسعد بعد سعد ، فكذلك هذه الحسرة بعد حسرة ، لكثرة حسراتهم يومئذ ؛ أو أراد حسرتين فقط من فوت الجنة لدخول النار ، لكان مذهباً ، ولكان ألف التثنية في تقدير الياء على لغة بلحرث بن كعب . انتهى . وقرأ ابن كثير في الوقف : يا حسرتاه ، بهاء السكت . قال سيبويه : ومعنى نداء الحسرة والويل : هذا وقتك فاحضري . والجنب : الجانب ، ومستحيل على الله الجارحة ، فإضافة الجنب إليه مجاز . قال مجاهد ، والسدي : في أمر الله . وقال الضحاك : في ذكره ، يعني القرآن والعمل به . وقيل : في جهة طاعته ، والجنب : الجهة ، وقال الشاعر : @ أفي جنب تكنى قطعتني ملامة سليمى لقد كانت ملامتها ثناء @@ وقال الراجز : @ النـاس جنب والأميـر جنب @@ ويقال : أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته ؛ وفلان لين الجنب والجانب . ثم قالوا : فرط في جنبه ، يريدون حقه . قال سابق البربري : @ أما تتقين الله في جنب عاشق له كبد حرى عليك تقطع @@ وهذا من باب الكناية ، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه ، فقد أثبته فيه . ألا ترى إلى قوله : @ إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج @@ ومنه قول الناس : لمكانك فعلت كذا ، يريدون : لأجلك ، وكذلك فعلت هذا من جهتك . وما في ما فرطت مصدرية ، أي على تفريطي في طاعة الله . { وإن كنت لمن الساخرين } ، قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها . وقال الزمخشري : ومحل وإن كنت النصب على الحال ، كأنه قال : فرطت وأنا ساخر ، أي فرطت في حال سخريتي . انتهى . ويظهر أنه استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا ، لا حال . { أو تقول لو أن الله هداني } : أي خلق في الهداية بالإلجاء ، وهو خارج عن الحكمة ، أو بالألطاف ، ولم يكن من أهلها فيلطف به ، أو بالوحي ، فقد كان ، ولكنه أعرض ، ولم يتبعه حتى يهتدي . وإنما يقول هذا تحيراً في أمره ، وتعللاً بما لا يجدي عليه . كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحوه : { لو هدانا الله لهديناكم } [ إبراهيم : 21 ] . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وانتصب { فأكون } على جواب التمني الدال عليه لو ، أو على كرة ، إذ هو مصدر ، فيكون مثل قوله : @ فما لك منها غير ذكرى وحسرة وتسأل عن ركبانها أين يمموا @@ وقول الآخر : @ للبس عباءة وتقر عيني أحب إليّ من لبس الشفوف @@ والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني ، كانت أن واجبة الإضمار ، وكان الكون مترتباً على حصول المتمني ، لا متمنى . وإذا كانت للعطف على كرة ، جاز إظهار أن وإضمارها ، وكان الكون متمني . { بلى } : هو حرف جواب لمنفي ، أو لداخل عليه همزة التقرير . ولما كان قوله : { لو أن الله هداني } وجوابه متضمناً نفي الهداية ، كأنه قال : ما هداني الله ، فقيل له : { بلى قد جاءتك آياتي } مرشدة لك ، فكذبت . وقال الزمخشري : رد من الله عليه ومعناه : بلى قد هديت بالوحي . انتهى ، جرياً على قواعد المعتزلة . وقال ابن عطية : وحق بلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، وقوله : { بلى } جواب لنفي مقدر ، كأن النفس قالت : فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر ، أو قالت : فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا . انتهى . وليس حق بلى ما ذكر ، بل حقها أن تكون جواب نفي . ثم حمل التقرير على النفي ، ولذلك لم يحمله عليه بعض العرب ، وأجابه بنعم ، ووقع ذلك أيضاً في كلام سيبويه نفسه أن أجاب التقرير بنعم اتباعاً لبعض العرب . وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قرن الجواب بما هو جواب له ، وهو قوله : { لو أن الله هداني } ، ولم يفصل بينهما بآية ؟ قلت : لأنه لا يخلو ، إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن ، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى . فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن ؛ وأما الثاني ، فلما فيه من نقض الترتيب ، وهو التحسر على التفريط في الطاعة ، ثم التعلل بفقد الهداية . ثم تمنى الرجعة ، فكان الصواب ما جاء عليه ، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب . انتهى ، وهو كلام حسن . وقرأ الجمهور : { قد جائتك } ، بفتح الكاف وفتح تاء ما بعدها ، خطاباً للكافر ذي النفس . وقرأ ابن يعمر والجحدري ، وأبو حيوة ، والزعفراني ، وابن مقسم ، ومسعود بن صالح ، والشافعي عن ابن كثير ، ومحمد بن عيسى في اختياره وعن نصير ، والعبسي : بكسر الكاف والتاء ، خطاب للنفس ، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة ، رضي الله عنهما ، وروتهما أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ الحسن ، والأعرج ، والأعمش : جأتك ، بالهمز من غير مد ، بوزن بعتك ، وهو مقلوب من جاءتك ، قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف ، كما سقطت في رمت وعرب . ولما ذكر مقالة الكافر ، ذكر ما يعرض له يوم القيامة من الإنذار بسوء منقلبة ، وفي ضمنه وعيد لمعاصريه ، عليه السلام . والرؤية هنا من رؤية البصر ، وكذبهم نسبتهم إليه تعالى البنات والصاحبة والولد ، وشرعهم ما لم يأذن به الله . والظاهر أنه عام في المكذبين على الله ، وخصه بعضهم بمشركي العرب وبأهل الكتابين . وقال الحسن : هم القدرية يقولون : إن شئنا فعلنا ، وإن شئنا لم نفعل . وقال القاضي : يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف الله بما لا يليق به نفياً وإثباتاً ، فأضاف إليه ما يجب أن لا يضاف إليه ، فالكل كذبوا على الله ؛ فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة واليهود والنصارى لا يجوز . وقال الزمخشري : { كذبوا على الله } : وصفوه بما لا يجوز عليه ، وهو متعال عنه ، فأضافوا إليه الولد والشريك ، وقالوا : { شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] ، وقالوا : { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] ، وقالوا : { والله أمرنا بها } [ الأعراف : 28 ] ، ولا يعبد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح . ويجوز أن يخلق خلقاً لا لغرض ، وقوله : لا لغرض ، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق ، ويجسمونه بكونه مرئياً مدركاً بالحاسة ، ويثبتون له يداً وقدماً وجنباً مستترين بالبلكفة ، ويجعلون له أنداداً بإثباتهم معه قدماً . انتهى ، وكلام من قبله على طريقة المعتزلة . والظاهر أن الرؤية من رؤية البصر ، وأن { وجوههم مسودة } جملة في موضع الحال ، وفيها رد على الزمخشري ، إذ زعم أن حذف الواو من الجملة الاسمية المشتملة على ضمير ذي الحال شاذ ، وتبع في ذلك الفراء ، وقد أعرب هو هذه الجملة حالاً ، فكأنه رجع عن مذهبه ذلك ، وأجاز أيضاً أن تكون من رؤية القلب في موضع المفعول الثاني ، وهو بعيد ، لأن تعلق البصر برؤية الأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلب . وقرىء : وجوههم مسودّة بنصبهما ، فوجوههم بدل بعض من كل . وقرأ أبي : أجوههم ، بإبدال الواو همزة ، والظاهر أن الاسوداد حقيقة ، كما مر في قوله : { فأما الذين اسودت وجوههم } [ آل عمران : 106 ] . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز ، وعبر بالسواد عن ارتداد وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم . ولما ذكر تعالى حال الكاذبين على الله ، ذكر حال المتقين ، أي الكذب على الله وغيره ، مما يؤول بصاحبه إلى اسوداد وجهه ، وفي ذلك الترغيب في هذا الوصف الجليل الذي هو التقوى . قال السدي : { بمفازتهم } : بفلاحهم ، يقال : فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده ، وتفسير المفازة قوله : { لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون } ، كأنه قيل : وما مفازتهم ؟ قيل : لا يمسهم السوء ، أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم ، أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى : { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } [ آل عمران : 188 ] ، أي بمنجاة منه ، لأن النجاة من أعظم الفلاح ، وسبب منجاتهم العمل الصالح ، ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنه المفازة : بالأعمال الحسنة ؛ ويجوز بسبب فلاحهم ، لأن العمل الصالح سبب الفلاح ، وهو دخول الجنة . ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة ، لأنه سببها . فإن قلت : { لا يمسهم } ، ما محله من الإعراب على التفسيرين ؟ قلت : أما على التفسير الأول فلا محل له ، لأنه كلام مستأنف ، وأما على الثاني فمحله النصب على الحال . انتهى . وقرأ الجمهور : بمفازتهم على الإفراد ، والسلمي ، والحسن ، والأعرج ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : على الجمع ، من حيث النجاة أنواع ، والأسباب مختلفة . قال أبو علي : المصادر تجمع إذا اختلفت أجناسها كقوله : { وتظنون بالله الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] . وقال الفراء : كلا القراءتين صواب ، تقول : قد تبين أمر الناس وأمور الناس . ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد ، عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد ، فذكر أنه خالق كل شيء ، فدل على أعمال العباد لاندراجها في عموم كل شيء ، وأنه على كل الأشياء قائم لحفظها وتدبيرها . { له مقاليد السموات والأرض } : قال ابن عباس : مفاتيح ، وهذه استعارة ، كما تقول : بيد فلان مفتاح هذا الأمر . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن المقاليد لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يحيـي ويميت ، وهو على كل شيء قدير " وتأويله على هذا : أن لله هذه الكلمات ، يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السموات والأرض ، من تكلم بها من المتقين أصاب . { والذين كفروا بآيات الله } وكلماته توحيده وتمجيده ، { أولئك هم الخاسرون } . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : { والذين كفروا } ؟ قلت : بقوله : { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } ، { والذين كفروا } ، { هم الخاسرون } واعترض بينهما : بأن خالق الأشياء كلها ، وهو مهيمن عليها ، لا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين منها وما يستحقون عليها من الجزاء ، وأن { له مقاليد السموات والأرض } . قال أبو عبد الله الرازي : وهذا عندي ضعيف من وجهين : الأول : أن وقوع الفاصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد . والثاني : أن قوله تعالى : { وينجي الله الذين اتقوا } : جملة فعلية ، وقوله : { والذين كفروا } : جملة اسمية ، وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز ، والأقرب عندي أن يقال : إنه لما وصف بصفات الإلهية والجلالة ، وهو كونه خالق الأشياء كلها ، وكونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض ، وقال : الذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة هم الخاسرون . انتهى ، وليس بفاصل كثير . وقوله : وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز ، كلام من لم يتأمل لسان العرب ، ولا نظر في أبواب الاشتغال . وأما قوله : والأقرب عندي فهو مأخوذ من قول الزمخشري ، وقد جعل متصلاً بما يليه ، على أن كل شيء في السموات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه ، والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك { أولئك هم الخاسرون } .