Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 44-46)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } قال قتادة : نزلت في اليهود . وفي رواية عن ابن عباس : في رفاعة بن زيد بن التابوت . وقيل : في غيره من اليهود . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر شيئاً من أحوال الآخرة ، وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً ، وجاءت هذه الآية بعد ذلك كالاعتراض بين ذكر أحوال الكفار في الآخرة ، وذكر أحوالهم في الدنيا وما هم عليه من معاداة المؤمنين ، وكيف يعاملون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتي شهيداً عليهم وعلى غيرهم . ولما كان اليهود أشد إنكاراً للحق ، وأبعد من قبول الخير . وكان قد تقدّم أيضاً الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ، وهم أشد الناس تحلياً بهذين الوصفين ، أخذ يذكرهم بخصوصيتهم . وتقدم تفسير ألم تر إلى الذين في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } [ البقرة : 243 ] فأغنى عن إعادته … والنصيب : الحظ . ومن الكتاب : يحتمل أن يتعلق بأوتوا ، ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنصيباً . وظاهر لفظ الذين أوتوا ، يشمل اليهود والنصارى ، ويكون الكتاب عبارة عن التوراة والإنجيل . وقيل : الكتاب هنا التوراة ، والنصيب قيل : بعض علم التوراة ، لا العمل بما فيها . وقيل : علم ما هو حجة عليهم منه فحسب . وقيل : كفرهم به . وقيل : علم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . { يشترون الضلالة } المعنى : يشترون الضلالة بالهدى ، كما قال : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] . قال ابن عباس : استبدلوا الضلالة بالإيمان . وقال مقاتل : استبدلوا التكذيب بالنبي بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره واستنصارهم به انتهى . ودل لفظ الاشتراء على إيثار الضلالة على الهدى ، فصار ذلك بغياً شديداً عليهم ، وتوبيخاً فاضحاً لهم ، حيث هم عندهم حظ من علم التوراة والإنجيل ، ومع ذلك آثروا الكفر على الإيمان . وكتابهم طافح بوجوب اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل . وقيل : اشتراء الضلالة هنا هو ما كانوا يبذلون من أموالهم لأحبارهم على تثبيت دينهم قاله : الزجاج . { ويريدون أن تضلوا السبيل } أي : لم يكفهم أن ضلوا في أنفسهم حتى تعلقت آمالهم بضلالكم أنتم أيها المؤمنون عن سبيل الحق ، لأنهم لما علموا أنهم قد خرجوا من الحق إلى الباطل كرهوا أن يكون المؤمنون مختصين باتباع الحق ، فأرادوا أن يضلوا كما ضلوا هم كما قال تعالى : { ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } [ النساء : 89 ] وقرأ النخعي : وتريدون بالتاء باثنتين من فوق ، قيل : معناه وتريدون أيها المؤمنون أن تضلوا السبيل أي : تدعون الصواب في اجتنابهم ، وتحسبونهم غير أعداء الله . وقرىء : أن يضلوا بالياء وفتح الضاد وكسرها . { والله أعلم بأعدائكم } فيه تنبيه على الوصف المنافي لوداد الخير للمؤمنين وهي العداوة . وفيه إشارة إلى التحذير منهم ، وتوبيخ على الاستنامة إليهم والركون ، والمعنى : أنه تعالى قد أخبر بعداوتهم للمؤمنين ، فيجب حذرهم كما قال تعالى : { هم العدو فاحذرهم } [ المنافقون : 4 ] واعلم على بابها من التفضيل ، أي : أعلم بأعدائكم منكم . وقيل : بمعنى عليم ، أي عليم بأعدائكم . { وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } ومن كان الله وليه ونصيره فلا يبالي بالأعداء ، فثقوا بولايته ونصرته دونهم أو لا تبالوا بهم ، فإنه ينصركم عليهم ، ويكفيكم مكرهم . وقيل : المعنى ولياً لرسوله ، نصيراً لدينه . والباء في بالله زائدة ويجوز حذفها كما قال : سحيم : @ كفـى الشـيب والإسـلام للمـرء نـاهيـا @@ وزيادتها في فاعل كفى وفاعل يكفي مطردة كما قال تعالى : { أو لم يكف بربك إنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ] وقال الزجاج : دخلت الباء في الفاعل ، لأن معنى الكلام الأمر أي : اكتفوا بالله . وكلام الزجاج مشعر أن الباء ليست بزائدة ، ولا يصح ما قال من المعنى ، لأن الأمر يقتضي أن يكون فاعله هم المخاطبون ، ويكون بالله متعلقاً به . وكون الباء دخلت في الفاعل يقتضي أن يكون الفاعل هو الله لا المخاطبون ، فتناقض قوله . وقال ابن السراج : معناه كفى الاكتفاء بالله ، وهذا أيضاً يدل على أن الباء ليست زائدة إذ تتعلق بالاكتفاء ، فالاكتفاء هو الفاعل لكفى . وهذا أيضاً لا يصح لأنّ فيه حذف المصدر وهو موصول ، وإبقاء معموله وهو لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله : @ هل تذكرنّ إلى الدّيرين هجرتكم ومسحكم صلبكم رحمان قربانا @@ التقدير : وقولكم يا رحمن قرباناً . وقال ابن عطية : بالله في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض ، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في صورة الخبر ، أي : اكتفوا بالله ، فالباء تدل على المراد من ذلك . وهذا الذي قاله ابن عطية ملفق بعضه من كلام الزجاج ، وهو أفسد من قول الزجاج ، لأنه زاد على تناقض اختلاف الفاعل تناقض اختلاف معنى الحرف ، إذ بالنسبة لكون الله فاعلاً هو زائد ، وبالنسبة إلى أن معناه اكتفوا بالله هو غير زائد . وقال ابن عيسى : إنما دخلت الباء في كفى بالله لأنه كان يتصل الفاعل وبدخول الباء اتصل اتصال المضاف واتصال الفاعل ، لأن الكفارية منه ليست كالكفاية من غيره ، فضوعف لفظها لمضاعفة معناها ، وهو كلام يحتاج إلى تأويل . وقد تقدم الكلام على كفى بالله في قوله : { فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً } [ النساء : 6 ] لكن تكرر هنا لما تضمن من مزيد : نقول : ورد بعضها . وانتصاب ولياً ونصيراً قيل : على الحال . وقيل : على التمييز ، وهو أجود لجواز دخول من . { من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } ظاهره الانقطاع في الإعراب عن ما قبله ، فيكون على حذف موصوف هو مبتدأ ، ومن الذين خبره ، والتقدير : من الذين خبره ، والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم ، وهذا مذهب سيبويه ، وأبي عليّ ، وحذف الموصوف بعد من جائز وإن كانت الصفة فعلاً كقولهم : منا ظعن ، ومنا أقام أي : منا نفر ظعن ، ومنا نفر أقام . وقال الشاعر : @ وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح @@ يريد : فمنهما تارة أموت فيها . وخرّجه الفرّاء على إضمار من الموصولة أي : من الذين هادوا من يحرفون الكلم ، وهذا عند البصريين لا يجوز . وتأولوا ما جاء مما يشبه هذا على أنه من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، قال الفرّاء : ومثله قول ذي الرّمة : @ فظلوا ومنهم دمعه سابق لها وآخر يثني دمعة العين باليد @@ وهذا لا يتعين أن يكون المحذوف موصولاً ، بل يترجح أن يكون موصوفاً لعطف النكرة عليه وهو آخر ، إذ يكون التقدير : فظلوا ومنهم عاشق دمعه سابق لها . وقيل : هو على إضمار مبتدأ التقدير : هم من الذين هادوا ، ويحرفون حال من ضمير هادوا ، ومن الذين هادوا متعلق بما قبله ، فقيل : بنصيراً أي نصيراً من الذين هادوا ، وعداه بمن كما عداه في : { ونصرناه من القوم } [ الأَنبياء : 77 ] و { فمن ينصرنا من بأس الله } [ غافر : 29 ] أي ومنعناه وفمن يمنعنا . وقيل : من الذين هادوا بيان لقوله : بأعدائكم ، وما بينهما اعتراض . وقيل : حال من الفاعل في يريدون قاله أبو البقاء . قال : ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في أوتوا لأن شيئاً واحداً لا يكون له أكثر من حال واحدة ، إلا أن يعطف بعض الأحوال على بعض ، ولا يكون حالاً من الذين لهذا المعنى انتهى . وما ذكره من أن ذا الحال إذا لم يكن متعدداً لا يقتضي أكثر من حال واحدة ، مسئلة خلاف فمن النحويين من أجاز ذلك . وقيل : من الذين هادوا بيان { الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } لأنهم يهود ونصارى ، وقوله : { والله أعلم بأعدائكم } { وكفى بالله ولياً } { وكفى بالله نصيراً } جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض قاله الزمخشري ، وبدأ به . ويضعفه أن هذه جمل ثلاث ، وإذا كان الفارسي قد منع أن يعترض بجملتين ، فأحرى أن يمنع أن يعترض بثلاث . يحرفون الكلم أي : كلم التوراة ، وهو قول الجمهور . أو كلم القرآن وهو قول طائفة ، أو كلم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن عباس . قال : كان اليهود يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن الأمر فيخبرهم ، ويرى أنهم يأخذون بقوله ، فإذا انصرفوا من عنده حرفوا الكلام . وكذا قال مكي : إنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم . فتحريف كلم التوراة بتغيير اللفظ ، وهو الأقل لتحريفهم أسمر ربعة في صفته عليه السلام بآدم طوال مكانه ، وتحريفهم الرجم بالحديد له ، وبتغيير التأويل ، وهو الأكثر قاله الطبري . وكانوا يتأوّلون التوراة بغير التأويل الذي تقتضيه معاني ألفاظها الأمور يختارونها ويتوصلون بها إلى أموال سفلتهم ، وأن التحريف في كلم القرآن أو كلم الرسول فلا يكون إلا في التأويل . وقرىء : يحرّفون الكلم بكسر الكاف وسكون اللام ، جمع كلمة تخفيف كلمة . وقرأ النخعي وأبو رجاء : يحرفون الكلام ، وجاء هنا عن مواضعه . وفي المائدة جاء : { عَن مواضعه } [ المائدة : 13 ] وجاء { من بعد مواضعه } [ المائدة : 41 ] . قال الزمخشري : أما عن مواضعه فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه . وأما من بعد مواضعه : فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره ، والمعنيان متقاربان انتهى . والذي يظهر أنهما سياقان ، فحيث وصفوا بشدة التمرد والطغيان ، وإظهار العداوة ، واشترائهم الضلالة ، ونقض الميثاق ، جاء يحرفون الكلم عن مواضعه . ألا ترى إلى قوله : { ويقولون سمعنا وعصينا } وقوله : { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه } [ المائدة : 13 ] فكأنهم لم يتركوا الكلم من التحريف عن ما يراد بها ، ولم تستقر في مواضعها ، فيكون التحريف بعد استقرارها ، بل بادروا إلى تحريفها بأول وهلة . وحيث وصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول في بعض الأمر ، جاء من بعد مواضعه . ألا ترى إلى قوله : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } [ المائدة : 41 ] وقوله بعد : { فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] فكأنهم لم يبادروا بالتحريف ، بل عرض لهم التحريف بعد استقرار الكلم في مواضعها . وقد يقال : أنهما شيئان ، لكنه حذف هنا . وفي أول المائدة : من بعد مواضعه ، لأن قوله : عن مواضعه يدل على استقرار مواضع له ، وحذف في ثاني المائدة عن مواضعه . لأن التحريف من بعد مواضعه يدل على أنه تحريف عن مواضعه ، فالأصل يحرفون الكلم من بعد مواضعه . فحذف هنا البعدية ، وهناك حذف عنها . كل ذلك توسع في العبارة ، وكانت البداءة هنا بقوله : عن مواضعه ، لأنه أخضر . وفيه تنصيص باللفظ على عن ، وعلى المواضع ، وإشارة إلى البعدية . { ويقولون سمعنا وعصينا } أي : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك ، أو سمعناه جهراً ، وعصيناه سراً قولان . والظاهر أنهم شافهوا بالجملتين النبي صلى الله عليه وسلم مبالغة منهم في عتوهم في الكفر ، وجرياً على عادتهم مع الأنبياء . ألا ترى إلى قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا } [ البقرة : 93 ] . { واسمع غير مسمع } هذا الكلام غير موجه ، ويحتمل وجوهاً . والظاهر أنهم أرادوا به الوجه المكروه لسياق ما قبله من قوله : سمعنا وعصينا ، فيكون معناه : اسمع لا سمعت . دعوا عليه بالموت أو بالصمم ، وأرادوا ذلك في الباطن ، وأرادوا في الظاهر تعظيمه بذلك . إذ يحتمل أن يكون المعنى : واسمع غير مأمور وغير صالح أن تسمع مأموراً بذلك . وقال الزمخشري : أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ومعناه : غير مسمع جواباً يوافقك ، فكأنك لم تسمع شيئاً انتهى ، وقاله ابن عباس . قال الزمخشري : أو اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه ، فسمعك عنه ناب . ويجوز على هذا أن يكون غير مسمع مفعول اسمع ، أي : اسمع كلاماً غير مسمع إياك ، لأنّ أذنك لا تعيه نبوّا عنه . ويحتمل المدح أي : اسمع غير مسمع مكروهاً من قولك : أسمع فلان فلاناً إذا سبه . قال ابن عطية : ومن قال : غير مسمع غير مقبول منك ، فإنه لا يساعده التصريف ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد انتهى . ووجه أن التصريف لا يساعد عليه هو أن العرب لا تقول أسمعتك بمعنى قبلت منك ، وإنما تقول : سمعت منك بمعنى قبلت ، فيعبرون عن القبول بالسماع على جهة المجاز ، لا بالأسماع . ولو أريد ما قاله الحسن ومجاهد لكان اللفظ : واسمع غير مسموع منك . { وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين } تقدم تفسير راعنا في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ليّاً بألسنتهم } أي فتلاً بها . وتحريفاً عن الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا مكان انظرنا ، وغير مسمع مكان لا أسمعت مكروهاً . أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً . وانتصاب غير مسمع على الحال من المضمر في اسمع ، وتقدم إعراب الزمخشري إياه مفعولاً في أحد التقادير ، وانتصاب لياً وطعناً على المفعول من أجله . وقيل : هما مصدران في موضع الحال أي : لاوين وطاعنين . ومعنى : وطعناً في الدين ، أي باللسان . وطعنهم فيه إنكار نبوّته ، وتغيير نعته ، أو عيب أحكام شريعته ، أو تجهيله . وقولهم : لو كان نبياً لدرى أنا نسبه ، أو استخفافهم واعتراضهم وتشكيكهم اتباعه أقوال أربعة . قال ابن عطية : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل ، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة ، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب انتهى . وهو يحكي عن يهود الأندلس ، وقد شاهدناهم وشاهدنا يهود ديار مصر على هذه الطريقة ، وكأنهم يربون أولادهم الصغار على ذلك ، ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين ، بعدما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا ؟ ( قلت ) : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ، ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء ، ويحتمل أن يقولوه فيما بينهم ، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به . { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم } أي : لو تبدّلوا بالعصيان الطاعة ، ومن الطاعة الإيمان بك ، واقتصروا على لفظ اسمع ، وتبدلوا براعنا قولهم : وانظرنا ، فعدلوا عن الألفاظ الدالة على عدم الانقياد ، والموهمة إلى ما أمروا به ، لكان أي : ذلك القول ، خيراً لهم عند الله وأعدل أي : أقوم وأصوب . قال عكرمة ومجاهد وغيرهما : أنظرنا أي انتظرنا بمعنى أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك ، كما قال الحطيئة : @ وقد نظرتكم أثناء صادرة للخمس طال بها مسحى وابساسي @@ وقالت فرقة : معناه انظر إلينا ، وكأنه استدعاء اهتبال وتحف منهم . ومنه قول ابن قيس : @ الرقيات ظـاهـرات الـجـمـال والـحسـن ينظرن كما تنظر الأراك الظباء @@ وقرأ أبي : وأنظرنا من الإنظار وهو الإمهال . قال الزمخشري : المعنى ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا لكان قولهم ذلك خيراً لهم وأقوم وأعدل وأسد انتهى . فسبك من أنهم قالوا مصدراً مرتفعاً بثبت على الفاعلية ، وهذا مذهب المبرد خلافاً لسيبويه . إذ يرى سيبويه أنّ أن بعد لو مع ما عملت فيه مقدر باسم مبتدأ ، وهل الخبر محذوف ، أم لا يحتاج إلى تقدير خبر لجريان المسند والمسند إليه في صلة أن ؟ قولان أصحهما هذا . فالزمخشري وافق مذهب المبرد ، وهو مذهب مرجوح في علم النحو . { ولكنْ لعنهم الله بكفرهم } أي : أبعدهم الله عن الهدى بسبب كفرهم السابق . وقال الزمخشري : أي خذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم عن ألطافه انتهى . وهذا على طريقة الاعتزالي . { فلا يؤمنون إلا قليلاً } استثناء من ضمير المفعول في لعنهم أي : إلا قليلاً لم يلعنهم فآمنوا ، أو استثناء من الفاعل في : فلا يؤمنون ، أي : إلا قليلاً فآمنوا كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، وغيرهما . أو هو راجع إلى المصدر المفهوم من قوله : فلا يؤمنون أي : إلا إيماناً قليلاً قلله إذ آمنوا بالتوحيد ، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبشرائعه . وقال الزمخشري : إلا إيماناً قليلاً أي : ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به ، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره . وأراد بالقلة العدم كقوله : قليل التشكي للهموم تصيبه . أي عديم التشكي . وقال ابن عطية : من عبر بالقلة عن الإيمان قال : هي عبارة عن عدمه ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قلما تنبت كذا ، وهي لا تنبته جملة . وهذا الذي ذكره الزمخشري وابن عطية من أن التقليل يراد به العدم هو صحيح في نفسه ، لكن ليس هذا التركيب الاستثنائي من تراكيبه . فإذا قلت : لا أقوم إلا قليلاً ، لم يوضع هذا لانتقاء القيام ألبتة ، بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلاً فيوجد منك . وإذا قلت : قلما يقوم أحد إلا زيد ، وأقل رجل يقول ذلك احتمل هذا ، أن يراد به التقليل المقابل للتكثير ، واحتمل أن يراد به النفي المحض . وكأنك قلت : ما يقوم أحد إلا زيد ، وما رجل يقول ذلك . إمّا أن تنفي ثم توجب ويصير الإيجاب بعد النفي يدل على النفي ، فلا إذ تكون إلا وما بعدها على هذا التقدير ، جيء بها لغواً لا فائدة فيه ، إذ الانتفاء قد فهم من قولك : لا أقوم . فأيُّ فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء المفهوم من الجملة السابقة ، وأيضاً ، فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعد إلا موافقاً لما قبلها في المعنى . وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد إلا موافقاً لما قبلها ، وظاهر قوله : فلا يؤمنون إلا قليلاً ، إذا جعلناه عائداً إلى الإيمان ، إنّ الإيمان يتجزأ بالقلة والكثرة ، فيزيد وينقص ، والجواب : إن زيادته ونقصه هو بحسب قلة المتعلقات وكثرتها . وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبديع . قالوا : التجوز بإطلاق الشيء على ما يقاربه في المعنى في قوله : إن الله لا يظلم ، أطلق الظلم على انتقاص الأجر من حيث أن نقصه عن الموعود به قريب في المعنى من الظلم . والتنبيه بما هو أدنى على ما هو أعلى في قوله : مثقال ذرة . والإبهام في قوله : يضاعفها ، إذ لم يبين فيه المضاعفة في الأجر . والسؤال عن المعلوم لتوبيخ السامع ، أو تقريره لنفسه في : فكيف إذا جئنا . والعدول من بناء إلى بناء لمعنى في : بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً . والتجنيس المماثل في : وجئنا وفي : وجئنا وفي : بشهيد وشهيداً . والتجنيس المغاير : في واسمع غير مسمع . والتجوز بإطلاق المحل على الحال فيه في : من الغائط . والكناية في : أو لامستم النساء . والتقديم والتأخير في : إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا إلى قوله : فتيمموا . والاستفهام المراد به التعجب في : ألم تر . والاستعارة في : يشترون الضلالة . والطباق في : هذا أي بالهدى ، والطباق الظاهر في : وعصينا وأطعنا . والتكرار في : وكفى بالله ولياً ، وكفى بالله ، وفي سمعنا وسمعنا . والحذف في عدة مواضع .