Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 64-72)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

شجر الأمر : التبس ، يشجر شجوراً وشجراً ، وشاجر الرجل غيره في الأمر نازعه فيه ، وتشاجروا . وخشبات الهودج يقال لها شجار لتداخل بعضها ببعض . ورمح شاجر ، والشجير الذي امتزجت مودته بمودّة غيره ، وهو من الشجر شبه بالتفاف الأغصان . وقد تقدّم ذكر هذه المادّة في البقرة وأعيدت لمزيد الفائدة . نفر الرجل ينفر نفيراً ، خرج مجداً بكسر الفاء في المضارع وضمها ، وأصله الفزع ، يقال : نفر إليه إذا فزع إليه ، أي طلب إزالة الفزع . والنفير النافور ، والنفر الجماعة . ونفرت الدابة تفرُ بضم الفاء نفوراً أي هربت باستعجال . الثبة : الجماعة الإثنان والثلاثة في كلام العرب قاله : الماتريدي . وقيل : هي فوق العشرة من الرجال ، وزنها فعلة . ولامها قيل : واو ، وقيل : ياء ، مشتقة من تثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه ، كأنك جمعت محاسنه . ومن قال : إن لامها واو ، جعلها من ثبا يثبو مثل حلا يحلو . وتجمع بالألف والتاء وبالواو والنون فتضم في هذا الجمع تاؤها ، أو تكسر وثبة الحوض وسطه الذي يثوب الماء إليه ، المحذوف منه عينه ، لأنه من ثاب يثوب ، وتصغيره ثويبة كما تقول في سه سييهة ، وتصغير تلك ثبية . البطء التثبط عن الشيء . يقال : أبطأ وبطؤ مثل أسرع وسرع مقابله ، وبطآن اسم فعل بمعنى بطؤ . { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } نبه تعالى على جلالة الرسل ، وأنّ العالم يلزمهم طاعتهم ، والرسول منهم تجب طاعته . ولام ليطاع لام كي ، وهو استثناء مفرّغ من المفعول من أجله أي : وما أرسلنا من رسول بشيء من الأشياء إلا لأجل الطاعة . وبإذن الله أي بأمره ، قاله : ابن عباس . أو بعلمه وتوفيقه وإرشاده . وحقيقة الإذن التمكين مع العلم بقدر ما مكن فيه . والظاهر أن بإذن الله متعلق بقوله : ليطاع . وقيل : بأرسلنا أي : وما أرسلنا بأمر الله أي : بشريعته ، ودينه وعبادته من رسول إلا ليطاع . قال ابن عطية : وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ ، خاص المعنى ، لأنّا نقطع أنَّ الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه أن لا يطيعوه ، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم ، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم ، وهو تخريج حسن . لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن وفقه لذلك ، فكأنه أذن له انتهى . ولا يلزم ما ذكره من أن الكلام عام اللفظ خاص المعنى ، لأن قوله : ليطاع مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله ، ولا يلزم من الفاعل المحذوف أن يكون عاماً ، فيكون التقدير : ليطيعه العالم ، بل المحذوف ينبعي أن يكون خاصاً ليوافق الموجود ، فيكون أصله : إلا ليطيعه من أردنا طاعته . وقال عبد الله الرازي : والآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعاً في تلك الشريعة ، ومتبوعاً فيها ، إذ لو كان لا يدعو إلا إلى شرع مَن قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعاً ، بل المطاع هو الرسول المتقدم الذي هو الواضع لتلك الشريعة ، والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع انتهى . ولا يعجبني قوله : الواضع لتلك الشريعة ، والأحسن أن يقال : الذي جاء بتلك الشريعة من عند الله . { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } ظلموا أنفسهم بسخطهم لقضائك أو بتحاكمهم إلى الطاغوت ، أو بجميع ما صدر عنهم من المعاصي . جاؤوك فاستغفروا الله بالإخلاص ، واعتذروا إليك . واستغفر لهم الرسول أي : شفع لهم الرسول في غفران ذنوبهم . والعامل في إذ جاؤوك ، والتفت في قوله : واستغفر لهم الرسول ، ولم يجىء على ضمير الخطاب في جاؤوك تفخيماً لشأن الرسول ، وتعظيماً لاستغفاره ، وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله تعالى بمكان ، وعلى أنَّ هذا الوصف الشريف وهو إرسال الله إياه موجب لطاعته ، وعلى أنه مندرج في عموم قوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } ومعنى وجدوا : علموا ، أي : بإخباره أنه قبل توبتهم ورحمهم . وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : فائدة ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم بأنهم بتحاكمهم إلى الطاغوت خالفوا حكم الله ، وأساءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فوجب عليهم أن يعتذروا ويطلبوا من الرسول الاستغفار ، أو لمّا لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم التمرد ، فإذا تابوا وجب أن يظهر منهم ما يزيد التمرد بأن يذهبوا إلى الرسول ويطلبوا منه الاستغفار ، أو إذا تابوا بالتوبة أتوا بها على وجه من الخلل ، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم صارت مستحقة . والآية تدل على قبول توبة التائب لأنه قال بعدها : { لوجدوا الله } وهذا لا ينطبق على ذلك الكلام إلا إذا كان المراد من قوله : { تواباً رحيماً } قبول توبته انتهى . وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه ثم قال : @ يا خير من دفنت في الترب أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم @@ ثم قال : قد قلت : يا رسول الله فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك الآية ، وقد ظلمت نفسي وجئت أستغفر الله ذنبي ، فاستغفر لي من ربي ، فنودي من القبر أنه قد غفر لك . { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } قال مجاهد وغيره : نزلت فيمن أراد التحاكم إلى الطاغوت . ورجحه الطبري لأنه أشبه بنسف الآيات . وقيل : في شأن الرجل الذي خاصم الزبير في السقي بماء الحرة ، و " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك " فغضب وقال : " إن كان ابن عمتك ، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم واستوعب للزبير حقه فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء " " والرجل هو من الأنصار بدري . وقيل : هو حاطب بن أبي بلتعة . وقيل : نزلت نافية لإيمان الرجل الذي قتله عمر ، لكونه رد حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومقيمة عذر عمر في قتله ، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما كنت أظن أنّ عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن " وأقسم بإضافة الرب إلى كاف الخطاب تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو التفات راجع إلى قوله : { جاؤوك } ولا في قوله : فلا . قال الطبري : هي رد على ما تقدم تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله : وربك لا يؤمنون . وقال غيره : قدم لا على القسم اهتماماً بالنفي ، ثم كررها بعد توكيداً للتهم بالنفي ، وكان يصح إسقاط لا الثانية ، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ، ويذهب معنى الاهتمام . وقيل : الثانية زائدة ، والقسم معترض بين حرف النفي والمنفي . وقال الزمخشري : لا مزيدة لتأكيد معنى القسم ، كما زيدت في { لئلا يعلم } [ الحديد : 29 ] لتأكيد وجوب العلم . ولا يؤمنون جواب القسم . ( فإن قلت ) : هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر لا في . لا يؤمنون . ( قلت ) : يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه ، وذلك قوله : { فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم } [ الحاقة : 38 40 ] انتهى كلامه . ومثل الآية قول الشاعر : @ ولا والله لا يلقى لما بي ولا لما بهم أبداً دواء @@ وحتى هنا غاية ، أي : ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية ، فإذا وجد ما بعد الغاية كانوا مؤمنين . وفيما شجر بينهم عام في كل أمر وقع بينهم فيه نزاع وتجاذب . ومعنى يحكموك ، يجعلوك حكماً . وفي الكلام حذف التقدير : فتقضي بينهم . { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } أي ضيقاً من حكمك . وقال مجاهد : شكا لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له البيان . وقال الضحاك : إثماً أي : سبب إثم . والمعنى : لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم الرضا . وقيل : هماً وحزناً ، ويسلموا أي ينقادوا ويذعنوا لقضائك ، لا يعارضون فيه بشيء قاله : ابن عباس والجمهور . وقيل : معناه ويسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك ، ذكره الماوردي ، وأكد الفعل بالمصدر على سبيل صدور التسليم حقيقة ، وحسَّنه كونه فاصلة . وقرأ أبو السمال : فيما شجر بسكون الجيم ، وكأنه فرَّ من توالي الحركات ، وليس بقوي لخفة الفتحة بخلاف الضمة والكسرة ، فإن السكون بدلهما مطرد على لغة تميم . { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم } قالت اليهود لما لم يرض المنافق بحكم الرسول : ما رأينا أسخف من هؤلاء لا يؤمنون بمحمد ويتبعونه ، ويطؤن عقبه ، ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ، وبلغ القتل فينا سبعين ألفاً . فقال ثابت بن قيس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا فنزلت . وروي هذا السبب بألفاظ متغايرة والمعنى قريب . ومعنى الآية : أنه تعالى لو فرض عليهم أنْ يقتلوا أنفسهم ، إمّا أن يقتل نفسه بيده ، أو يقتل بعضهم بعضاً ، أو أن يخرجوا من ديارهم كما فرض ذلك على بني إسرائيل حين استتيبوا من عبادة العجل لم يطع منهم إلا القليل ، وهذا فيه توبيخ عظيم حيث لا يمتثل أمر الله إلا القليل . وقال السبيعي : لما نزلت قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إنّ من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " قال ابن وهب : الرجل القائل ذلك هو أبو بكر . وروي عنه أنه قال : لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي . وذكر النقاش : أنه عمر . وذكر أبو الليث السمرقندي : أن القائل منهم عمار ، وابن مسعود ، وثابت بن قيس . والضمير في عليهم قيل : يعود على المنافقين ، أي : ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة ، وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم . وقيل : يعود على الناس مؤمنهم ومنافقهم . وكسر النون مِن أن ، وضم الواو من أو ، أبو عمرو . وكسرهما حمزة وعاصم ، وضمهما باقي السبعة . وأن هنا يحتمل أن تكون تفسيرية ، وأن تكون مصدرية على ما قرروا أنَّ أنْ توصل بفعل الأمر . وفي الآية دليل على صعوبة الخروج من الديار ، إذ قرنه الله تعالى بقتل الأنفس ، وقد خرج الصحابة المهاجرون من ديارهم وفارقوا أهاليهم حين أمرهم الله تعالى بالهجرة ، وارتفع قليل ، على البدل من الواو في فعلوه على مذهب البصريين ، وعلى العطف على الضمير على قول الكوفيين ، وبالرفع قرأ الجمهور . وقرأ أبيّ ، وابن أي إسحاق ، وابن عامر ، وعيسى بن عمر : إلا قليلاً بالنصب ، ونص النحويون على أن الاختيار في مثل هذا التركيب اتباع ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل أو العطف ، باعتبار المذهبين اللذين ذكرناهما . وقال الزمخشري : وقرىء إلا قليلاً بالنصب على أصل الاستثناء ، أو على إلا فعلاً قليلاً انتهى . إلا ما النصب على أصل الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة . وأما قوله : على إلا فعلا قليلاً فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع ، ولقوله منهم فإنه تعلق على هذا التركيب : لو قلت ما ضربوا زيداً إلا ضرباً قليلاً منهم لم يحسن أن يكون منهم لا فائدة في ذكره . وضمير النصب في فعلوه عائد على أحد المصدرين المفهومين من قوله : أن اقتلوا أو اخرجوا . وقال أبو عبد الله الرازي : الكناية في قوله ما فعلوه عائد على القتل والخروج معاً ، وذلك لأن الفعل جنس واحد ، وإن اختلفت صورته انتهى . وهو كلام غير نحوي . { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً } الضمير في : ولو أنهم مختص بالمنافقين ، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاماً وآخرها خاصاً . قال الزمخشري : ما يوعظون به من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته ، والانقياد لما يراه ويحكم به ، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ، لكان خيراً لهم في عاجلهم وآجلهم ، وأشد تثبيتاً لإيمانهم ، وأبعد من الاضطراب فيه . وقال ابن عطية : ولو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيراً لهم ، وتثبيتاً معناه يقيناً وتصديقاً انتهى . وكلاهما شرح ما يوعظون به بخلاف ما يدل عليه الظاهر . لأنّ الذي يوعظ به ليس هو اتباع الرسول وطاعته ، وليس مدلول ما يوعظون به اتعظوا وأنابوا ، وقيل : الوعظ هنا بمعنى الأمر أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به فانتهوا عما نهوا عنه . وقال في ري الظمآن : ما يوعظون به أي : ما يوصون ويؤمرون به من الإخلاص والتسليم . وقال الراغب : أخبر أنهم لو قبلوا الموعظة لكان خيراً لهم . وقال أبو عبد الله الرازي : المراد أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا ، وسمي هذا التكليف والأمر وعظاً ، لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، والثواب والعقاب ، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظاً . وقال الماتريدي : وقيل ما يوعظون به من الأمر من القرآن . وهذه كلها تفاسير تخالف الظاهر ، لأن الوعظ هو التذكار بما يحل بمن خالف أمر الله تعالى من العقاب ، فلموعظ به هي الجمل الدالة على ذلك ، ولا يمكن حمله على هذا الظاهر ، لأنهم لم يؤمروا بأنْ يفعلوا الموعظ به ، وإنما عرض لهم شرح ذلك بما خالف الظاهر ، لأنهم علقوا به بقوله : ما يوعظون ، على طريقة ما يفهم من قولك : وعظتك بكذا ، فتكون الباء قد دخلت على الشيء الموعظ به وهي الجملة الدالة على الوعظ . أما إذا كان المعنى على أنّ الباء للسببية فيحمل إذ ذاك اللفظ على الظاهر ، ويصح المعنى ، ويكون التقدير : ولو أنهم فعلوا الشيء الذي يوعظون بسببه أي : بسبب تركه . ودلّ على حذف تركه قوله : ولو أنهم فعلوا . ويبقى لفظ يوعظون على ظاهره ، ولا يحتاج إلى ما تأولوه . لكان خيراً لهم : أي يحصل لهم خير الدارين ، فلا يكون أفعل التفضيل . ويحتمل أن يكونه أي : لكان أنفع لهم من غيره : وأشد تثبيتاً ، لأنه حق ، فهو أبقى وأثبت . أو لأنّ الطاعة تدعو إلى أمثالها ، أو لأنّ الإنسان يطلب أولاً تحصيل الخير ، فإذا حصله طلب بقاءه . فقوله : لكان خيراً لهم إشارة إلى الحالة الأولى . وقوله : وأشد تثبيتاً إشارة إلى الحالة الثانية . قاله : أبو عبد الله الرازي . { وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً } قال الزمخشري : وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : وماذا يكون لهم أيضاً بعد التثبيت ؟ فقيل : وإذا لو ثبتوا لآتيناهم . لأنّ إذا جواب وجزاء انتهى . وظاهر قول الزمخشري : لأن إذا جواب وجزاء يفهم منه أنها تكون للمعنيين في حال واحد على كل حال ، وهذه مسألة خلاف . ذهب الفارسي إلى أنها قد تكون جواباً فقط في موضع ، وجواباً وجزاء في موضع نفي ، مثل : إذن أظنك صادقاً لمن قال : أزورك ، هي جواب خاصة . وفي مثل : إذن أكرمك لمن قال : أزورك ، هي جواب وجزاء . وذهب الأستاذ أبو عليّ إلى أنها تتقدر بالجواب والجزاء في كل موضع وقوفاً مع ظاهر كلام سيبويه . والصحيح قول الفارسي ، وهي مسألة يبحث عنها في علم النحو . والأجر كناية عن الثواب على الطاعة ، ووصفه بالعظم باعتبار الكثرة ، أو باعتبار الشرف . والصراط المستقيم هو الإيمان المؤدّي إلى الجنة قاله : ابن عطية . وقيل : هو الطريق إلى الجنة . وقيل : الأعمال الصالحة . ولما فسر ابن عطية الصراط المستقيم بالإيمان قال : وجاء ترتيب هذه الآية كذا . ومعلوم أنَّ الهداية قبل إعطاء الأجر ، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب ، فالمعنى : وكهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر انتهى . وأمّا إذا فسرت الهداية إلى الصراط هنا بأنه طريق الجنة ، أو الأعمال الصالحة ، فإنه يظهر الترتيب . { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين } قال الكلبي : نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال : " يا ثوبان ما غير لونك ؟ " فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع ، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك ، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين ، وإنِّي وإن كنت أدخل الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك ، وإنْ لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبداً . انتهى قول الكلبي . وحكي مثل قول ثوبان عن جماعة من الصحابة منهم : عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري ، وهو الذي أري الأذان قال : يا رسول الله ، إذا مت ومتنا ، كنتَ في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك ، وذكر حزنه على ذلك ، فنزلت . وحكى مكي عن عبد الله هذا أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم اعمني حتى لا أرى شيئاً بعده ، فعمي . والمعنى في مع النبيين : إنه معهم في دار واحدة ، وكل من فيها رزق الرضا بحاله ، وهم بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإنْ بعد مكانه . وقيل : المعية هنا كونهم يرفعون إلى منازل الأنبياء متى شاؤوا تكرمة لهم ، ثم يعودون إلى منازلهم . وقيل : إنّ الأنبياء والصدّيقين والشهداء ينحدرون إلى من أسفل منهم ليتذاكروا نعمة الله ، ذكره المهدوي في تفسيره الكبير . قال أبو عبد الله الرازي : هذه الآية تنبيه على أمرين من أحوال المعاد : الأول : إشراق الأرواح بأنوار المعرفة . والثاني : كونهم مع النبيين . وليس المراد بهذه المعية في الدرجة ، فإنّ ذلك ممتنع ، بل معناه : إن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق ، فينعكس الشعاع من بعضها على بعض ، فتصير أنوارها في غاية القوة ، فهذا ما خطر لي انتهى كلامه . وهو شبيه بما قالته الفلاسفة في الأرواح إذا فارقت الأجساد . وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها ، ولكن من غلب عليه شيء وحبه جرى في كلامه . وقوله : مع الذين أنعم الله عليهم ، تفسير لقوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } [ الفاتحة : 7 ] وهم من ذكر في هذه الآية . والظاهر أن قوله : من النبيين ، تفسير للذين أنعم الله عليهم . فكأنه قيل : من يطع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين تقدمهم ممن أنعم عليهم . قال الراغب : ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب : النبي بالنبي ، والصديق بالصديق ، والشهيد بالشهيد ، والصالح بالصالح . وأجاز الراغب أن يتعلق من النبيين بقوله : ومن يطع الله والرسول . أي : من النبيين ومن بعدهم ، ويكون قوله : فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم إشارة إلى الملأ الأعلى . ثم قال : { وحسن أولئك رفيقاً } ويبين ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين الموت " اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى " وهذا ظاهر انتهى . وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى ، ومن جهة النحو . أما من جهة المعنى فإنّ الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ، أخبر الله تعالى أنْ من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر ، ولو كان من النبيين معلقاً بقوله : ومن يطع الله والرسول ، لكان قوله : من النبيين تفسيراً لمن في قوله : ومن يطع . فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياء يطيعونه ، وهذا غير ممكن ، لأنه قد أخبر تعالى أنّ محمداً هو خاتم النبيين . وقال هو صلى الله عليه وسلم : " لا نبي بعدي " وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها ، لو قلت : إنْ تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة ، لم يجز . واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين . فقال بعضهم : كلها أوصاف لموصوف واحد ، وهي صفات متداخلة ، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أنْ يكون صديقاً وشهيداً وصالحاً . وقيل : المراد بكل وصف صنف من الناس . فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب . فقيل : هو الكثير الصدق ، وقيل : هو الكثير الصدقة . وللمفسرين في تفسيره وجوه : الأول : أنّ كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } [ الحديد : 19 ] . الثاني : أفاضل أصحاب الرسول . الثالث : السابق إلى تصديق الرسول . فصار في ذلك قدوة لسائر الناس . وأما الشهيد : فهو المقتول في سبيل الله ، المخصوص بفضل الميتة . وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة ، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم . وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء ، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر ، بل نقول : الشهيد فعيل بمعنى فاعل ، وهو الذي يشهد لدين الله تارة بالحجة بالبيان ، وتارة بالسيف والسنان . فالشهداء هم القائمون بالقسط ، وهم الذين ذكرهم الله في قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] . والصالح : هو الذي يكون صالحاً في اعتقاده وعمله . وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى ، إلى أدنى منه . وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة الله وطاعة رسوله ، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد الله إلى الله ، وأرفعهم درجات عنده . وقال الراغب : قسم الله المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام ، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض ، وحث كافة الناس أنْ يتأخروا عن منزل واحد منهم : الأول : الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من قريب . ولذلك قال تعالى : { أفتمارونه على ما يرى } [ النجم : 12 ] . الثاني : الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من بعيد وإياه عني أمير المؤمنين حين قيل له : هل رأيت الله ؟ فقال : ما كنت لأعبد شيئاً لم أره ثم قال : " لم تره العيون بشواهد الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان . الثالث : الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين . ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب ، كحال حارثة حيث قال : كأني أنظر إلى عرش ربي ، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " اعبد الله كأنك تراه " الرابع : الصالحون ، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم ، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة . وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " انتهى كلامه . وهو شبيه بكلام المتصوفة . وقال عكرمة : النبيون محمد صلى الله عليه وسلم ، والصديقون أبو بكر ، والشهداء عمر وعثمان وعلي ، والصالحون صالحو أمّة محمد صلى الله عليه وسلم انتهى . وينبغي أن يكون ذلك على طريق التمثيل ، وأما على طريق الحصر فلا ، ولا يفهم من قوله : ومن يطع الله والرسول ظاهر اللفظ من الاكتفاء بالطاعة الواحدة ، إذ اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة لدخول المنافقين فيه ، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة ، بل يحمل على غير الظاهر بأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات ، وترك جميع المنهيات . { وحسن أولئك رفيقاً } أولئك : إشارة إلى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . لم يكتف بالمعية حتى جعلهم رفقاء لهم ، فالمطيع لله ولرسوله يوافقونه ويصحبونه ، والرفيق الصاحب ، سمي بذلك للارتفاق به . وعلى هذا يجوز أن ينتصب رفيقاً على الحال من أولئك ، أو على التمييز . وإذا انتصب على التمييز فيحتمل أن لا يكون منقولاً ، فيجوز دخول من عليه ، ويكون هو المميز . وجاء مفرداً إمّا لأن الرفيق مثل الخليط والصديق ، يكون للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد . وأمّا لإطلاق المفرد في باب التمييز اكتفاء ويراد به الجمع ، ويحسن ذلك هنا كونه فاصلة ، ويحتمل أن يكون منقولاً من الفاعل ، فلا يكون هو المميز والتقدير : وحسن رفيق أولئك ، فلا تدخل عليه مَن ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى مَن يطع الله والرسول ، وجمع على معنى من ويجوز في انتصاب رفيقاً إلا وجه السابقة . وقرأ الجمهور : وحسُن بضم السين ، وهي الأصل ، ولغة الحجاز . وقرأ أبو السمال : وحسْن بسكون السين وهي لغة تميم . ويجوز : وحُسْن بسكون السين وضم الحاء على تقدير نقل حركة السين إليها ، وهي لغة بعض بني قيس . قال الزمخشري : وحسن أولئك رفيقاً فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقاً . ولاستقلاله بمعنى التعجب وقرئ : وحسْن بسكون السين . يقول المتعجب . وحسْنُ الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى كلامه . وهو تخليط ، وتركيب مذهب على مذهب . فنقول : اختلفوا في فعل المراد به المدح والذم ، فذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فقط ، فلا يكون فاعلاً إلا بما يكون فاعلاً لهما . وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس ، فيجعل فاعلها كفاعلهما ، وذلك إذا لم يدخله معنى التعجب . وإلى جواز إلحاقه بفعل التعجب فلا يجري مجرى نعم وبئس في الفاعل ، ولا في بقية أحكامهما ، بل يكون فاعله ما يكون مفعولاً لفعل التعجب ، فيقول : لضربت يدك ولضربت اليد . والكلام على هذين المذهبين تصحيحاً وإبطالاً مذكور في علم النحو . والزمخشري لم يتبع واحداً من هذين المذهبين ، بل خلط وركب ، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش ، وأخذ التمثيل بقوله : وحسن الوجه وجهك ، وحسن الوجه وجهك من مذهب الفارسي . وأما قوله : ولاستقلاله بمعنى التعجب ، قرىء : وحسْن بسكون السين ، وذكر أن المتعجب يقول : وحسن وحسن ، فهذا ليس بشيء ، لأن الفرّاء ذكر أن تلك لغات للعرب ، فلا يكون التسكين ، ولا هو والنقل لأجل التعجب . { ذلك الفضل من الله } الظاهر أن الإشارة إلى كينونة المطيع من النبيين ، ومن عطف عليهم ، لأنه هو المحكوم به في قوله : { فأولئك مع الذين } وكأنه على تقدير سؤال أي : وما الموجب لهم استواؤهم مع النبيين في الآخرة ، مع أن الفرق بينهم في الدنيا بيِّن ؟ فذكر أنَّ ذلك بفضله ، لا بوجوب عليه . ومع استوائهم معهم في الجنة فهم متباينون في المنازل . وقيل : الإشارة إلى الثواب في قوله أجراً عظيماً . وقيل : إلى الطاعة . وقيل : إلى المرافقة . وقال الزمخشري : إنّ ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله ، لأنه تفضل به عليهم تبعاً لثوابهم ، وذلك مبتدأ والفضل خبره ، ومِن الله حال ، ويجوز أن يكونَ الفضل صفةً ، والخبر من الله ، ويجوز أن يكونا خبرين على مذهب من يجيز ذلك . { وكفى بالله عليماً } لما ذكر الطاعة وذكر جزاء من يطيع أتى بصفة العلم التي تتضمن الجزاء أي : وكفى به مجازياً لمن أطاع . قال ابن عطية : فيه معنى أن تقول : فشملوا فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه ، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره ، ولذلك دخلت الباء على اسم الله تعالى لتدل على الأمر الذي في قوله : وكفى ، انتهى . وقد بينا فساد قولَ مَن يدّعي أنَّ قولك : كفى بزيد معناه اكتف بزيد عند الكلام على قوله : { وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } [ النساء : 45 ] . وقال الزمخشري : وكفى بالله عليماً ، بجزاء من أطاعه . أو أراد فصل المنعم عليهم ، ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه ، وكفى بالله عليماً بعباده ، فهو يوفقهم على حسب أحوالهم انتهى . وهي ألفاظ المعتزلة . { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر طاعته وطاعة رسوله ، وكان من أهم الطاعات إحياء دين الله ، أمر بالقيام بإحياء دينه ، وإعلاء دعوته ، وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة فقال : خذوا حذركم . فعلمهم مباشرة الحروب . ولما تقدم ذكر المنافقين ، ذكر في هذه الآية تحذير المؤمنين من قبول مقالاتهم وتثبيطهم عن الجهاد ، فنادى أولاً باسم الإيمان على عادته تعالى إذا أراد أن يأمر المؤمنين أو ينهاهم ، والحذر والحذر بمعنى واحد . قالوا : ولم يسمع في هذا التركيب الأخذ حذرك لأخذ حذرك . ومعنى خذ حذرك : أي استعد بأنواع ما يستعد به للقاء من تلقاه ، فيدخل فيه أخذ السلاح وغيره . ويقال : أخذ حذره إذا احترز من المخوف ، كأنه جعل الحذر آلته التي يتقي بها ويعتصم ، والمعنى : احترزوا من العدو . ثم أمر تعالى بالخروج إلى الجهاد جماعة جماعة ، وسرية بعد سرية ، أو كتيبة واحدة مجتمعة . وقرأ الجمهور : فانفِروا بكسر الفاء فبهما . وقرأ الأعمش : بضمها فيهما ، وانتصاب ثبات وجميعاً على الحال ، ولم يقرأ ثبات فيما علمناه إلا بكسر التاء . وقال الفراء : العرب تخفض هذه التاء في النصب وتنصبها . أنشدني بعضهم : @ فلما جلاها بالأيام تحيزت ثباتاً عليها ذلها واكتئابها @@ ينشد بكسر التاء وفتحها انتهى . وأوفى أو انفروا للتخيير . وقال ابن عباس : هذه الآية نسختها . { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } [ التوبة : 122 ] قيل : وإنما عنى بذلك التخصيص إذ ليس يلزم النفر جماعتهم . { وإن منكم لمن ليبطئنّ } الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جريج وابن زيد في آخرين : لمن ليبطئن هم المنافقون ، وجعلوا من المؤمنين باعتبار الجنس ، أو النسب ، أو الانتماء إلى الإيمان ظاهراً . وقال الكلبي : نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه . وقيل : هم ضعفة المؤمنين . ويبعد هذا القول قوله : عند مصيبة المؤمنين { قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً } وقوله : { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } [ النساء : 73 ] ومثل هذا لا يصدر عن مؤمن ، إنما يصدر عن منافق . واللام في ليبطئن لام قسم محذوف التقدير : للذي والله ليبطئن . والجملتان من القسم وجوابه صلة لمن ، والعائد الضمير المستكن في ليبطئن . قالوا : وفي هذه الآية رد على من زعم من قدماء النحاة أنه لا يجوز وصل الموصول بالقسم وجوابه إذا كانت جملة القسم قد عريت من ضمير ، فلا يجوز جاءني الذي أقسم بالله لقد قام أبوه ، ولا حجة فيها لأنّ جملة القسم محذوفة ، فاحتمل أن يكون فيها ضمير يعود على الموصول ، واحتمل أنْ لا يكون . وما كان يحتمل وجهين لا حجة فيه على تعيين أحدهما ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم } [ هود : 111 ] في قراءة من نصب كلا وخفف ميم لما أي : وأن كلا للذي ليوفينهم على أحسن التخاريج . وقال ابن عطية : اللام في ليبطئن لام قسم عند الجمهور . وقيل : هي لام تأكيد بعد تأكيد انتهى . وهذا القول الثاني خطأ . وقرأ الجمهور : ليبطئن ، بالتشديد . وقرأ مجاهد : ليبطئن بالتخفيف . والقراءتان يحتمل أن يكون الفعل فيهما لازماً ، لأنهم يقولون : أبطأ وبطأ في معنى بطؤ ، ويحتمل أن يكون متعدياً بالهمزة أو التضعيف من بطؤ ، فعل اللزوم المعنى أنه يتثاقل ويثبط عن الخروج للجهاد ، وعلى التعدّي يكون قد ثبط غيره وأشار له بالقعود ، وعلى التعدي أكثر المفسرين . { فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّّ إذ لم أكن معهم شهيداً } المصيبة : الهزيمة . سميت بذلك لما يلحق الإنسان من العتب بتولية الإدبار وعدم الثبات . ومن العرب من يختار الموت على الهزيمة وقد قال الشاعر : @ إن كنت صادقة كما حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل عنهم ونجا برأس طمره ولجام @@ عيره بالانهزام وبالفرار عن الأحبة . وقال آخر في المدح على الثبات في الحرب والقتل فيه : @ وقد كان فوت الموت سهلاً فرده إليه الحفاظ المرء والخلق الوعر فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر @@ وقيل : المصيبة القتل في سبيل الله ، سموا ذلك مصيبة على اعتقادهم الفاسد ، أو على أن الموت كله مصيبة كما سماه الله تعالى . وقيل : المصيبة الهزيمة والقتل . والشهيد هنا الحاضر معهم في معترك الحرب ، أو المقتول في سبيل الله ، يقوله المنافق استهزاء ، لأنه لا يعتقد حقيقة المشهادة في سبيل الله .