Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 41, Ayat: 19-29)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا ، أردفه بكيفية عقوبة الكفار أولئك وغيرهم . وانتصب يوم باذكر . وقرأ الجمهور : { يحشر } مبنياً للمفعول ، { وأعداء } رفعاً ، وزيد بن عليّ ، ونافع ، والأعرج ، وأهل المدينة : بالنون أعداء نصباً ، وكسر الشين الأعرج ؛ وتقدم معنى { يوزعون } في النمل ، و { حتى } : غاية ليحشروا ، { أعداء الله } : هم الكفار من الأولين والآخرين ، وما بعد إذا زائدة للتأكيد . وقال الزمخشري : ومعنى التأكيد فيها أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ، ولا وجه لأن يخلو منها ومثله قوله : { أثم إذا ما وقع آمنتم به } [ يونس : 51 ] : أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به . انتهى . ولا أدري أن معنى زيادة ما بعد إذ التوكيد فيها ، ولو كان التركيب بغير ما ، كان بلا شك حصول الشرط من غير تأخر ، لأن أداة الشرط ظرف ، فالشهادة واقعة فيه لا محالة ، وفي الكلام حذف ، التقدير : { حتى إذا ما جاءوها } ، أي النار ، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا ، { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } بما اكتسبوا من الجرائم ، وكانوا حسبوا أن لا شاهد عليهم . ففي الحديث : " أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ، ثم تنطق الجوارح فيقول : تباً لك ، وعنك كنت أدافع " ولما كانت الحواس خمسة : السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، وكان الذوق مندرجاً في اللمس ، إذ بمماسة جلدة اللسان والحنك للمذوق يحصل إدراك المذوق ، وكان حسن الشم ليس فيه تكليف ولا أمر ولا نهي ، وهو ضعيف ، اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس ، إذ هذه هي التي جاء فيها التكليف ، ولم يذكر حاسة الشم لأنه لا تكليف فيه ، فهذه والله أعلم حكمة الاقتصار على هذه الثلاثة . والظاهر أن الجلود هي المعروفة . وقيل : هي الجوارح كنى بها عنها . وقيل : كنى بها عن الفروج . قيل : وعليه أكثر المفسرين ، منهم ابن عباس ، كما كنى عن النكاح بالسر . { بما كانوا يعملون } من الجرائم . ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم ، فلم تذكر سبباً غير أن الله تعالى أنطقها . ولما صدر منها ما صدر من العقلاء ، وهي الشهادة ، خاطبوها بقولهم : { لم شهدتم } ؟ مخاطبة العقلاء . وقرأ زيد بن علي : لم شهدتن ؟ بضمير المؤنثات ؟ و { كل شيء } : لا يراد به العموم ، بل المعنى : كل ناطق بما ذلك له عادة ، أو كان ذلك فيه خرق عادة . وقال الزمخشري : أراد بكل شيء : كل شيء من الحيوان ، كما أراد به في قوله : { والله على كل شيء قدير } [ البقرة : 284 ] ، من المقدورات . والمعنى : أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان ، وعلى خلقكم وإنشائكم ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ، وإنما قالوا لهم : { لم شهدتم علينا } لتعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم . وقال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : كيف تشهد عليهم أبصارهم وكيف تنطق ؟ قلت : الله عز وجل ينطقها ، كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاماً . انتهى ، وهذا الرجل مولع بمذهبه الاعتزالي ، يدخله في كل ما يقدر أنه يدخل . وإنما أشار بقوله : كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاماً إلى أن الله تعالى لم يكلم موسى حقيقة ، وإنما الشجرة هي التي سمع منها الكلام بأن يخلق الله فيها كلاماً خاطبته به عن الله تعالى . والظاهر أن قوله : { وما كنتم تستترون } من كلام الجوارح ، قيل : ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى توبيخاً لهم ، أو من كلام ملك يأمره تعاليه . و { أن يشهد } : يحتمل أن يكون معناه : خيفة أو لأجل أن يشهد إن كنتم غير عالمين بأنها تشهد ، { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم } ، فانهمكتم وجاهدتم ، وإلى هذا نحا مجاهد ، والستر يأتي في هذا المعنى ، كما قال الشاعر : @ والستر دون الفاحشات وما يلقاك دون الخير من ستر @@ ويحتمل أن يكون معناه : عن أن يشهد ، أي وما كنتم تمتنعون ، ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم ، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد من الشهادة عليكم ، وإلى هذا نحا السدي ، أو ما كنتم تتوقعون بالاختفاء والستر أن يشهد عليكم ، لأن الجوارح لزيمة لكم . وعبر قتادة عن تستترون بتظنون ، أي وما كنتم تظنون أن يشهد ، وهذا تفسير من حيث المعنى لا من حيث مرادفة اللفظ ، { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً } ، وهو الخفيات من أعمالكم ، وهذا الظن كفر وجهل بالله وسوء معتقد يؤدي إلى تكذيب الرسل والشك في علم الإله . { وذلكم } : إشارة إلى ظنهم أن الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم ، وهو مبتدأ خبره { أرداكم } ، و { ظنكم } بدل من { ذلكم } أي وظنكم بربكم ذلكم أهلككم . وقال الزمخشري : وظنكم وأرداكم خبران . وقال ابن عطية : أرداكم يصلح أن يكون خبراً بعد خبر . انتهى . ولا يصح أن يكون ظنكم بربكم خبراً ، لأن قوله : { ذلكم } إشارة إلى ظنهم السابق ، فيصير التقدير : وظنكم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم ، فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ ، وهو لا يجوز ؛ وصار نظير ما منعه النحاة من قولك : سيد الجارية مالكها . وقال ابن عطية : وجوز الكوفيون أن يكون معنى أرداكم في موضع الحال ، والبصريون لا يجيزون وقوع الماضي حالاً إلا إذا اقترن بقد ، وقد يجوز تقديرها عندهم إن لم يظهر . انتهى . وقد أجاز الأخفش من البصريين وقوع الماضي حالاً بغير تقدير قد وهو الصحيح ، إذ كثر ذلك في لسان العرب كثرة توجب القياس ، ويبعد فيها التأويل ، وقد ذكرنا كثرة الشواهد على ذلك في كتابنا المسمى ( بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل ) . { فإن يصبروا } : خطاب للنبي عليه السلام ، قيل : وفي الكلام حذف تقديره : أولاً يصبروا ، كقوله : { فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم } [ الطور : 16 ] ، وذلك في يوم القيامة . وقيل : التقدير : فإن يصبروا على ترك دينك واتباع أهوائهم ، { فالنار مثوى لهم } : أي مكان إقامة . وقرأ الجمهور : { وإن يستعتبوا } مبنياً للفاعل ، { فما هم من المعتبين } : اسم مفعول . قال الضحاك : إن يعتذروا فما هم من المعذورين ؛ وقيل : وإن طلبوا العتبى ، وهي الرضا ، فما هم ممن يعطاها ويستوجبها . وقرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد ، وموسى الأسواري : وإن يستعتبوا : مبنياً للمفعول ، فما هم من المعتبين : اسم فاعل ، أي طلب منهم أن يرضوا ربهم ، فما هم فاعلون ، ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " ليس بعد الموت مستعتب " وقال أبو ذؤيب : @ أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع @@ ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] . ولما ذكر تعالى الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفرة ، أردفه بذكر السبب الذي أوقعهم في الكفر فقال : { وقيضنا لهم قرناء } : أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا . وقيل : سلطنا ووكلنا عليهم . وقيل : قدرنا لهم . وقرناء : جمع قرين ، أي قرناء سوء من غواة الجن والإنس ؛ { فزينوا لهم } : أي حسنوا وقدروا في أنفسهم ؛ { ما بين أيديهم } ، قال ابن عباس : من أمر الآخرة ، أنه لا جنة ولا نار ولا بعث . { وما خلفهم } ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا ، من الضلالة والكفر ولذات الدنيا . وقال الكلبي : { ما بين أيديهم } : أعمالهم التي يشاهدونها ، { وما خلفهم } : ما هم عاملوه في المستقبل . وقال ابن عطية : { ما بين أيديهم } ، من معتقدات السوء في الرسل والنبوات ومدح عبادة الأصنام واتباع فعل الآباء ، { وما خلفهم } : ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والمعاد . انتهى ، ملخصاً ، وهو شرح قول الحسن ، قال : { ما بين أيديهم } من أمر الدنيا ، { وما خلفهم } من أمر الآخرة . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم ؟ قلت : معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر ، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين ، والدليل عليه : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً } [ الزخرف : 36 ] . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . { وحق عليهم القول } : أي كلمة العذاب ، وهو القضاء المحتم ، بأنهم معذبون . { في أمم } : أي في جملة أمم ، وعلى هذا قول الشاعر : @ إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو كاً ففي آخرين قد أفكوا @@ أي : فأنت في جملة آخرين ، أو فأنت في عدد آخرين ، لست في ذلك بأوحد . وقيل : في بمعنى مع ، ولا حاجة للتضمين مع صحة معنى في . وموضع في { أمم } نصب على الحال ، أي كائنين في جملة أمم ، وذو الحال الضمير في عليهم . { إنهم كانوا خاسرين } : الضمير لهم وللأمم ، وهذا تعليل لاستحقاقهم العذاب . { وقال الذين كفروا لا تسمعوا } : أي لا تصغوا ، { لهذا القرآن والغوا فيه } : إذا تلاه محمد صلى الله عليه وسلم . قال أبو العالية : وقعوا فيه وعيبوه . وقال غيره : كان الرسول عليه السلام إذا قرأ في المسجد أصغى إليه الناس من مؤمن وكافر ، فخشي الكفار استمالة القلوب بذلك فقالوا : متى قرأ محمد صلى الله عليه وسلم ، فلنلغط نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأرجاز حتى يخفى صوته ، وهذا الفعل هو اللغو . وقرأ الجمهور والفراء : بفتح الغين مضارع لغى بكسرها ؛ وبكر بن حبيب السهمي كذا في كتاب ابن عطية ، وفي كتاب اللوامح . وأما في كتاب ابن خالويه ، فعبد الله بن بكر السهمي وقتادة وأبو حيوة والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى : بخلاف عنهما ، بضم الغين مضارع لغى بفتحها ، وهما لغتان ، أي ادخلوا فيه اللغو ، وهو اختلاف القول بما لا فائدة فيه . وقال الأخفش : يقال لغا يلغى بفتح الغين وقياسه الضم ، لكنه فتح لأجل حرف الحلق ، فالقراءة الأولى من يلغى . والثانية من يلغو . وقال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغى به إذا رمى به ، فيكون فيه بمعنى به ، أي ارموا به وانبذوه . { لعلكم تغلبون } : أي تطمسون أمره وتميتون ذكره . { فلنذيقن الذين كفروا } : وعيد شديد لقريش ، والعذاب الشديد في الدنيا كوقعة بدر وغيرها ، والأسوأ يوم القيامة . أقسم تعالى على الجملتين ، وشمل الذين كفروا القائلين والمخاطبين في قوله : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا } . { ذلك } : أي جزاؤهم في الآخرة ، فالنار بدل أو خبر مبتدأ محذوف . وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمر ذلك ، وجزاء مبتدأ والنار خبره . { لهم فيها دار الخلد } : أي فكيف قيل فيها ؟ والمعنى أنها دار الخلد ، كما قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } [ الأحزاب : 21 ] ، والرسول نفسه هو الأسوة ، وقال الشاعر : @ وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل @@ والمعنى أن الله هو الحكم العدل ، ومجاز ذلك أنه قد يجعل الشيء ظرفاً لنفسه ، باعتبار متعلقه على سبيل المبالغة ، كأن ذلك المتعلق صار الشيء مستقراً له ، وهو أبلغ من نسبة ذلك المتعلق إليه على سبيل الإخبارية عنه { جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون } . قال الزمخشري : إن جزاءهم بما كانوا يلغون فيها ، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو . ولما رأى الكفار عظم ما حل بهم من عذاب النار ، سألوا من الله تعالى أن يريهم من كان سبب إغوائهم وإضلالهم . والظاهر أن { اللذين } يراد بهما الجنس ، أي كل مغو من هذين النوعين ، وعن علي وقتادة : أنهما إبليس وقابيل ، إبليس سن الكفر ، وقابيل سن القتل بغير حق . قيل : وهل يصح هذا القول ؟ عن علي : وقابيل مؤمن عاص ، وإنما طلبوا المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود ، وقد أصلح هذا القول بأن قال : طلب قابيل كل عاص من أهل الكبائر ، وطلب إبليس كل كافر ، ولفظ الآية ينبو عن هذا القول وعن إصلاحه ، وتقدم الخلاف في قراءة { أرنا } في قوله : { وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 128 ] . وقال الزمخشري : حكوا عن الخليل أنك إذا قلت : أرني ثوبك بالكسر ، فالمعنى : بصرنيه ، وإذا قلته بالسكون ، فهو استعطاء معناه : أعطني ثوبك ؛ ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء ، وأصله الإحضار . انتهى . { نجعلهما تحت أقدامنا } : يريدون في أسفل طبقة من النار ، وهي أشد عذاباً ، وهي درك المنافقين . وتشديد النون في اللذين واللتين وهذين وهاتين حالة كونهما بالياء لا تجيزه البصريون ، والقراءة بذلك في السبعة حجة عليهم .