Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 41, Ayat: 1-12)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه السورة مكية بلا خلاف ، ومناسبتها لما قبلها ، أنه قال في آخر ما قبلها : { أفلم يسيروا في الأرض } [ غافر : 82 ] إلى آخرها ، فضمن وعيداً وتهديداً وتقريعاً لقريش ، فأتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر ، فذكر أنه نزل كتاباً مفصلاً آياته ، بشيراً لمن اتبعه ، ونذيراً لمن أعرض عنه ، وأن أكثر قريش أعرضوا عنه . ثم ذكر قدرة الإله على إيجاد العالم العلوي والسفلي . ثم قال : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة } ، فكان هذا كله مناسباً لآخر سورة المؤمن من عدم انتفاع مكذبي الرسل حين التبس بهم العذاب ، وكذلك قريش حل بصناديدها من القتل والأسر والنهب والسبي ، واستئصال أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل بعاد وثمود من استئصالهم . روي " أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه ، وليقبح عليه فيما بينه وبينه ، وليبعد ما جاء به . فلما تكلم عتبة ، قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حم } ، ومر في صدرها حتى انتهى إلى قوله : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } ، فأرعد الشيخ ووقف شعره ، فأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، وناشده بالرحم أن يمسك ، وقال حين فارقه : والله لقد سمعت شيئاً ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي " { تنزيل } ، رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا تنزيل عند الفراء ، أو مبتدأ خبره { كتاب فصلت } ، عند الزجاج والحوفي ، وخبر { حم } إذا كانت اسماً للسورة ، وكتاب على قول الزجاج بدل من تنزيل . قيل : أو خبر بعد خبر . { فصلت أياته } ، قال السدي : بينت آياته ، أي فسرت معانيه ، ففصل بين حرامه وحلاله ، وزجره وأمره ، ووعده ووعيده . وقيل : فصلت في التنزيل : أي لم تنزل جملة واحدة . قال الحسن : بالوعد والوعيد . وقال سفيان : بالثواب والعقاب . وقال ابن زيد : بين محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن خالفه . وقيل : فصلت بالمواقف وأنواع ، أو آخر الآي ، ولم يكن يرجع إلى قافية ولا نحوها ، كالشعر والسجع . وقال أبو عبد الله الرازي : ميزت آياته ، وجعل تفاصيل معان مختلفة ، فبعضها في وصف ذات الله تعالى ، وشرح صفات التنزيه والتقديس ، وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ، وعجائب أحوال خلقه السموات والكواكب ، وتعاقب الليل والنهار ، وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان ؛ وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلب ونحو الجوارح ، وبعضها في الوعد والوعيد ، والثواب والعقاب ، ودرجات أهل الجنة ودركات أهل النار ؛ وبعضها في المواعظ والنصائح ؛ وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس ؛ وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين . وبالجملة ، فمن أنصف ، علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن . انتهى . وقرىء : فصلت ، بفتح الفاء والصاد مخففة ، أي فرقت بين الحق والباطل ؛ أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها ، من قوله : { فصلت العير } [ يوسف : 94 ] : أي انفصلت ، وفصل من البلد : أي انفصل منه ، وانتصب { قرآناً } على أنه حال بنفسه ، وهي مؤكدة ، لأنها لا تنتقل ، أو توطئة للحال بعده ، وهي { عربياً } ، أو على المصدر ، أي يقرؤه قرآناً عربياً ، أو على الاختصاص والمدح . ومن جعله حالاً فقيل : ذو الحال آياته ، وقيل : كتاب ، لأنه وصف بقوله : { فصلت آياته } ، أو على إضمار فعل تقديره : فصلناه قرآناً ، أو مفعول ثان لفصلت ، أقوال ستة آخرها للأخفش . و { لقوم } متعلق بفصلت ، أي يعلمون الأشياء ، ويعقلون الدلائل ، فكأنه فصل لهؤلاء ، إذ هم ينتفعون به فخصوا بالذكر تشريفاً ، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له ويبعد أن يتعلق بتنزيل لكونه وصف في أحد متعلقيه ، إن كان من الرحمن في موضع الصفة ، أو أبدل منه كتاب ، أو كان خبر التنزيل ، فيكون في ذلك البدل من الموصول ، والإخبار عنه قبل أخذه متعلقه ، وهو لا يجوز ، وقيل : لقوم في موضع الصفة لقوله : { عربياً } ، أي كائناً لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنه لم يخرج عن نمط كلامهم ، وكأنه رد على من زعم أن في القرآن ما ليس من كلام العرب . وانتصب { بشيراً ونذيراً } على النعت لقرآناً عربياً ، وقيل : حال من آياته . وقرأ زيد بن علي : بشير ونذير برفعهما على الصفة لكتاب ، أو على خبر مبتدأ محذوف ، وبشارته بالجنة لمن آمن ، ونذارته بالنار لمن كفر . { فأعرض أكثرهم } : أي أكثر أولئك القوم ، أي كانوا من أهل العلم ولكن لم ينظروا النظر التام ، بل أعرضوا ، { فهم لا يسمعون } لإعراضهم عن ما احتوى عليه من الحجج والبراهين ، أو لما لم ينتفع به ولم يقبله جعل كأنه لم يسمعه . ثم أخبر تعالى عنهم بالمقالة الدالة على امتناع قلوبهم ، والناس من رجوعهم إليه ومن سماعهم لما يتلوه ، وهو قوله تعالى ، حكاية عنهم : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر } ، تقدم الكلام على شبه ذلك في الأنعام . وقرأ طلحة : وقر بكسر الواو ، وهذه تمثيلات لامتناع قبول الحق ، كأن قلوبهم في غلاف ، كما قالوا : { وقالوا قلوبنا غلف } [ البقرة : 88 ] ، وكأن أسماعهم عند ذكر كلام الله بها صمم . والحجاب : الستر المانع من الإجابة ، وهو خلاف في الدين ، لأنه يعبد الله وهم يعبدون الأصنام ، قال معناه الفراء وغيره . ويروى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً وقال : يا محمد ، بيننا وبينك حجاب ، استهزاء منه . وقيل : تمثيل بعدم الإجابة . وقيل : عبارة عن العداوة . ومن في { مما تدعونا } إليه لابتداء الغاية ، وكذا في { ومن بيننا } . فالمعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب ، لا فراغ فيها ، ولو لم يأت بمن لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين ، والمقصود المبالغة بالتباين المفرط ، فلذلك جيء بمن . وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : على قلوبنا أكنة ، كما قيل : { وفي آذاننا وقر } ، ليكون الكلام على نمط واحد ؟ قلت : هو على نمط واحد ، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك : { قلوبنا في أكنة } ، والدليل عليه قوله تعالى : { إنا جعلنا على قلوبهم } [ الكهف : 57 ] . ولو قيل : إنا جعلنا قلوبهم في أكنة ، لم يختلف المعنى ، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني ، وتقول : إن في أبلغ في هذا الموضع من على ، لأنهم قصدوا إفراط عدم القبول ، لحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف ، فلا يمكن أن يصل إليها شيء . كما تقول : المال في الكيس ، بخلاف قولك : على المال كيس ، فإنه لا يدل على الحصر ، وعدم الحصول دلالة الوعاء . وأما في قوله : { إنا جعلنا } ، فهو من أخبار الله تعالى ، لا يحتاج إلى مبالغة ، بخلاف قولهم . وقول الزمخشري : وترى المطابيع ، يعني من العرب وشعرائهم ، ولذلك تلكم الناس في شعر حبيب ، ولم يستحسن بعضهم كثرة صنعة البديع فيه ؛ قالوا : وأحسنه ما جاء من غير تكلف . { فاعمل إننا عاملون } قال الكلبي : في هلاكنا إنا عاملون في هلاكك . وقال مقاتل : اعمل لإلهك الذي أرسلك ، فإننا عاملون لآلهتنا التي نعبدها . وقال الفراء : اعمل على مقتضى دينك ، ونحن نعمل على مقتضى ديننا ، وذكر الماوردي : اعمل لآخرتك ، فإنا نعمل لدنيانا . ولما كان القلب محل المعرفة ، والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف ، ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول شيء . واحتمل قولهم : { فاعمل إننا عاملون } ، أي تكون متاركة محضة ، وأن يكون استخفافاً . { قل إنما } ، { يوحى إليّ } وقرأ الجمهور : قل على الأمر ، وابن وثاب والأعمش : قال فعلاً ماضيا ، وهذا صدع بالتوحيد والرسالة . وقرأ النخعي والأعمش : يوحى بكسر الحاء ؛ والجمهور : بفتحها ، وأخبر أنه بشر مثلهم لا ملك ، لكنه أوحى إليه دونهم . وقال الحسن : علمه تعالى التواضع ، وأنه ما أوحى إليه توحيد الله ورفض آلهتكم . { فاستقيموا إليه } : أي له بالتوحيد الذي هو رأس الدين والعمل ، { واستغفروه } : واسألوه المغفرة ، إذ هي رأس العمل الذي بحصوله تزول التبعات . وضمن استقيموا معنى التوجه ، فلذلك تعدى بإلى ، أي وجهوا استقامتكم إليه ، ولما كان العقل ناطقاً بأن السعادة مربوطة بأمرين : التعظيم لله والشفقة على خلقه ، ذكر أن الويل والثبور والحزن للمشركين الذين لم يعظموا الله في توحيده ، ونفي الشريك ، ولم يشفقوا على خلقه بإيصال الخير إليهم ، وأضافوا إلى ذلك إنكار البعث . والظاهر أن الزكاة على ظاهرها من زكاة الأموال ، قاله ابن السائب ، قال : كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون . وقال الحسن وقتادة : وقيل : كانت قريش تطعم الحاج وتحرم من آمن منهم . وقال الحسن وقتادة أيضاً : المعنى لا يؤمنون بالزكاة ، ولا يقرون بها . وقال مجاهد والربيع : لا يزكون أعمالهم . وقال ابن عباس والجمهور : الزكاة هنا لا إله إلا الله التوحيد ، كما قال موسى عليه السلام لفرعون : { فقل هل لك إلى أن تزكى } [ النازعات : 18 ] ، ويرجح هذا التأويل أن الآية من أول المكي ، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة ، قاله ابن عطية ، قال : وإنما هذه زكاة القلب والبدن ، أي تطهير من الشرك والمعاصي ، وقاله مجاهد والربيع . وقال الضحاك ومقاتل : الزكاة هنا النفقة في الطاعة . انتهى . وإذا كانت الزكاة المراد بها إخراج المال ، فإنما قرن بالكفر ، لكونها شاقة بإخراج المال الذي هو محبوب الطباع وشقيق الأرواح حثاً عليها . قال بعض الأدباء : @ وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ به فأجبت المال خير من الروح أرى حفظه يفضي بتحسين حالتي وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح @@ { إن الذين آمنوا } ، قال السدي : نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن إكمال الطاعات ، كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون . والممنون : المنقوص ، قاله ابن عباس ، رضي الله عنه . قال ذو الأصبغ العدواني : @ إني لعمرك ما بابي بذي غلق على الصديق ولا خيري بممنون @@ وقال مجاهد : غير محسوب ، وقيل : غير مقطوع ، قال الشاعر : @ فضل الجواد على الخيل البطاء فلا يعطى بذلك ممنوناً ولا نزقا @@ وقيل : لا يمن به لأن أعطيات الله تشريف ، والمن إنما يدخل أعطيات البشر . وقيل : لا يمن به لأنه إنما بمن التفضيل ، فأما الآخر فحق أداؤه ، نقله الزمخشري ، وفيه دسيسة الاعتزال . { قل أئنكم لتكفرون } : استفهام توبيخ وتشنيع عليهم ، يكفر من أوجد العالم سفليه وعلويه ، ووصف صورة خلق ذلك ومدته ، والحكمة في الخلق في مدة هو قادر على أن يوجد ذلك دفعة واحدة . فذكر تعالى إيجاد ذلك مرتباً ، وتقدم الكلام في الخلق في مدة هو قادر على أن يوجد ذلك دفعة واحدة . فذكر تعالى إيجاد ذلك مرتب ، وتقدم الكلام في أول ما ابتدىء فيه الخلق ، وما خلق مرتباً . ومعنى { في يومين } : في مقدار يومين . { وتجعلون له أنداداً } : أي أشباهاً وأمثالاً من الملائكة والجن والأصنام يعبدونها دونه . وقال السدي : أكفاء من الرجال يطيعونهم ، وتجعلون معطوف على لتكفرون ، فهو داخل في حيز الاستفهام المقتضي الإنكار والتوبيخ ، { ذلك } أي موجد الأرض ومخترعها ، { رب العالمين } من الأنداد التي جعلتم له وغيرهم . { وجعل فيها رواسي } : إخبار مستأنف ، وليس من الصلة في شيء ، بل هو معطوف على قوله : { لتكفرون } . { وبارك فيها } : أكثر فيها خيرها . { وقدر فيها أقواتها } : أي أرزاق ساكنيها ومعايشهم ، وأضافهما إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها برزت ، قاله السدي . وقال قتادة : أقواتها من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن ، والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها . وقال مجاهد : أقواتها من المطر والمياه . وقال عكرمة والضحاك ومجاهد أيضاً : خصائصها التي قسمها في البلاد مما خص به كل إقليم ، فيحتاج بعضها إلى بعض في التفوّت من الملابس والمطاعم والنبات . { في أربعة أيام } : أي في تمام أربعة أيام باليومين المتقدمين . وقال الزمخشري { في أربعة أيام } ، فذلكة لمدة خلق الله وما فيها ، كأنه قال : كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان . وقال الزجاج : في تتمة أربعة أيام ، يريد بالتتمة اليومين . انتهى ، وهذا كما تقول : بنيت جدار بيتي في يوم ، وأكملت جميعه في يومين ، أي بالأول . وقال أبو عبد الله الرازي : ويفقه من كلام الزمخشري في أربعة أيام فائدة زائدة على قوله في يومين ، لأن قوله في يومين لا يقتضي الاستغراق لذلك العمل . أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء ، ثم قال في أربعة أيام سواء ، دل على أن هذه الأيام مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ونقصان . انتهى . ولا فرق بين يومين وأربعة أيام بالنسبة إلى الاستغراق ، فإن كانت أربعة تقتضي الاستغراق ، وكذلك اليومين يقتضيانه ، ومتى كان الظرف معدوداً ، كان العمل في جميعه ، إما على سبيل التعميم ، نحو : سرت يومين ، وقد يكون في بعض كل يوم منها ، نحو : تهجدت ليلتين ، فاحتمل الاستغراق ، واحتمل في بعض كل واحد من الليلتين ؛ وإذا كان كذلك ، احتمل أن يكون وقع الخلق للأرض في بعض كل واحد من اليومين ، واحتمل أن يكون اليومين مستغرقين لخلقها ، فكذلك في أربعة أيام يحتمل الاستغراق ، وأن يكون خلق الأرض والجبال والبركة وتقدير الأقوات وقع في بعض كل يوم من الأربعة ، فما قاله أبو عبد الله الرازي لم تظهر به فائدة زائدة . وقرأ الجمهور : سواء بالنصب على الحال ؛ وأبو جعفر بالرفع : أي هو سواء ، وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب : بالخفض نعتاً لأربعة أيام . قال قتادة والسدي : معناه سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة منه ، فإنه يجده كما قال تعالى . وقال ابن زيد وجماعة : معناه متسوٍ مهيأ . أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبر بالسائلين عن الطالبين لأنهم من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به ، إذ هم بحال حاجة . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق قوله : { للسائلين } ؟ قلت : بمحذوف ، كأنه قيل هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها ، أو يقدر ، أو قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين . انتهى ، وهو راجع لقول المفسرين المتقدمين . ولما شرح تخليق الأرض وما فيها ، أتبعه بتخليق السماء فقال : { ثم استوى إلى السماء } : أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها ، والمعنى : إلى خلق السماء . والظاهر أن المادة التي خلقت منها السماء كانت دخاناً . وفي أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة إن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ، فأحدث الله في ذلك سخونة ، فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فبقي على وجه الماء ، فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض ؛ وأما الدخان فارتفع وعاد فخلق الله منه السماوات . وفيه أيضاً أنه خلق السماء من أجزاء مظلمة . انتهى . وروي أنها كانت جسماً رخواً كالدخان أو البخار . قال ابن عطية : هنا لفظ متروك يدل عليه الظاهر ، وتقديره : فأوجدها وأتقنها وأكمل أمورها ، وحينئذ { قال لها وللأرض ائتيا } . انتهى ، فجعل ابن عطية هذه المحاورة بين الباري تعالى والأرض والسماء بعد خلق الأرض والسماء ، ورجح قول من ذهب إلى أنهما نطقتا نطقاً حقيقياً ، وجعل الله لهما حياة وإدراكاً يقتضي نطقهما ، بعد أن ذكر أن المفسرين منهم من ذهب إلى أن ذلك مجاز ، وأنه ظهر منهما عن اختيار الطاعة والتذلل والخضوع ما هو بمنزلة القول ، قال : والقول الأول أحسن ، لأنه لا شيء يدفعه ، وأن العبرة فيه أتم ، والقدرة فيه أظهر . انتهى . وقال الزمخشري : ويعني أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما ، فلم يمتنعا عليه ، ووجدتا كما أرادهما ، وجاءتا في ذلك كالمأمور المطيع ، إذ أورد عليه فعل الآمر فيه . على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما : { ائتيا } ، شئتما ذلك أو أبيتما ، فقالتا : آتينا على الطوع لا على الكره . والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير ، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب ، ونحوه قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تشقني ؟ قال الوتد : سل من يدقني ، فلم يتركني وراء الحجر الذي ورائي . فإن قلت : لم ذكر السماء مع الأرض وانتظمهما في الأمر بالإتيان ، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين ؟ قلت : قد خلق جرم الأرض أولاً غير مدحوة ، ثم دحاها بعد خلق السماء ، كما قال : { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] ، فالمعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ؛ ائت يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك ، وائت يا سماء مقببة سقفاً لهم . ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع ، كما يقول : أتى عمله مرضياً مقبولاً . ويجوز أن يكون المعنى : لتأت كل واحدة صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة ، والتدبير من كون الأرض قراراً للسماء ، وكون السماء سقفاً للأرض ، وينصره قراءة من قرأ : أتيا وأتينا من المواتاة ، وهي الموافقة ، أي لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها ، قالتا : وافقنا وساعدنا . ويحتمل وافقا أمري ومشيئتي ولا تمتنعا . فإن قلت : ما معنى طوعاً أو كرهاً ؟ قلت : هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال ، كما يقول الجبار لمن يحب بلوه : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً . وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين . فإن قلت : هلا قيل طائعتين على اللفظ أو طائعتان على المعنى لأنهما سموات وأرضون ؟ قلت : لما جعلت مخاطبات ومجيبات ، ووصفت بالطوع والكره ، قيل : طائعين في موضع طائعات نحو قوله : ساجدين . انتهى . وقرأ الجمهور : ائتيا من الإتيان ، أي ائتيا أمري وإرادتي . وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد : أتيا على وزن فعلا ، قالتا : أتينا على وزن فعلنا ، من آتى يؤتى ، كذا قال ابن عطية ، قال : وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما ، والإشارة بهذا كله إلى تسخيرها وما قدره الله من أعمالها . انتهى . وتقدم في كلام الزمخشري أنه جعل هذه القراءة من المواتاة ، وهي الموافقة ، فيكون وزن آتيا : فاعلاً ، وآتينا : فاعلنا ، وتقدمه إلى ذلك أبو الفضل الرازي قال : آتينا بالمد على فاعلنا من المواتاة ، ومعناه : سارعنا على حذف المفعول منه ، ولا يجوز أن يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوله . انتهى . وقرأ الأعمش : أو كرهاً بضم الكاف ، والأصح أنه لغة في الإكراه على الشيء الموقوع التخيير بينه وبين الطواعية ، والأكثر أن الكره بالضم معناه المشقة . قال ابن عطية : وقوله قالتا ، أراد الفرقتين المذكورتين : جعل السموات سماء ، والأرضين أرضاً ، وهذا نحو قول الشاعر : @ ألم يحزنك أن حبال قومي وقومك قد تباينتا انقطاعاً @@ وعبر عنها بتباينتا . انتهى . هذا وليس كما ذكر ، لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفرد لحسن التعبير عنهما بالتثنية ، والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية ، كأنه قال : ألم يحزنك أن حبلى قومي وقومك ؟ ولذلك ثنى في قوله : تباينتا ، وأنث على معنى الحبل ، لأنه لا يريد به الحبل حقيقة ، إنما عنى به الذمة والمودة التي كانت بين قومهما . والظاهر من هذه الآية أنه خلق الأرض وجعل فيها الرواسي وبارك فيها ، ثم أوجد السماء من الدخان فسواها سبع سماوات ، فيكون خلق الأرض متقدماً على خلق السماء ، ودحو الأرض غير خلقها ، وقد تأخر عن خلق السماء ، وقد أورد على هذا أن جعل الرواسي فيها والبركة . وتقدير الأقوات لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض موجودة . وقوله : { وبارك فيها وقدر فيها أقواتها } مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها ، ولا يمكن ذلك إلا بعد صيرورتها منبسطة . ثم قال بعد : { ثم استوى إلى السماء } ، فاقتضى خلق السماء بعد خلق الأرض ودحوها . وأورد أيضاً أن قوله تعالى للسماء وللأرض : { ائتيا طوعاً أو كرهاً } ، كناية عن إيجادهما ، فلو سبق إيجاد الأرض على إيجاد السماء لاقتضى إيجاد الموجود بأمره للأرض بالإيجاد ، وهو محال ، وقد انتهى هذا الإيراد . ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق الله السماء قبل الأرض ، وتأول قوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } قبل أن يخلق الأرض ، فأضمر فيه كان ، كما قال تعالى : { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } [ يوسف : 77 ] معناه : إن يكن سرق . انتهى . وقال أبو عبد الله الرازي : فقدر ثم كان قد استوى جمع بين ضدين ، لأن ثم تقتضي التأخر ، وكان تقتضي التقدم ، فالجمع بينهما يفيد التناقض ، ونظيره : ضربت زيداً اليوم ، ثم ضربت عمراً أمس . فكما أن هذا باطل ، فكذلك ما ذكر يعني من تأويل ثم كان قد استوى ، قال : والمختار عندي أن يقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض . وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين ، والإيجاد يدل عليه قوله : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] ، وهذا محال ، لا يقال للشيء الذي وجد كن ، بل الخلق عبارة عن التقدير ، وهو في حقه تعالى حكمه أن سيوجد ، وقضاؤه بذلك بمعنى خلق الأرض في يومين ، وقضاؤه بأن سيحدث كذا ، أي مدة كذا ، لا يقتضي حدوثه ذلك في الحال ، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء . انتهى . والذي نقوله : أن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني ، وأن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان ، والمهلة كأنه قال : فالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ، ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء ، فلا تعرض في الآية لترتيب ، أي ذلك وقع الترتيب الزماني له . ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض ، ألف الأخبار فيه بثم ، فصار كقوله : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] بعد قوله : { فلا اقتحم العقبة } [ البلد : 11 ] . ومن ترتيب الأخبار { ثم آتينا موسى الكتاب } [ الأَنعام : 154 ] بعد قوله : { قل تعالوا أتل } [ الأَنعام : 151 ] ويكون قوله تعالى : { فقال لها وللأرض } ، بعد إخباره بما أخبر به ، تصويراً لخلقهما على وفق إرادته تعالى ، كقولك : أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت إنك عالم صالح ؟ فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له . فكذلك أخبر بأنه خلق كيت وكيت ، فحد ذلك إيجاداً لم يتخلف عن إرادته . ويدل على أنه المقصود الإخبار بوقوع هذه الأشياء من غير ترتيب زماني قوله في الرعد : { الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها } [ الرعد : 2 ] الآية ، ثم قال بعد : { وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً } [ الرعد : 3 ] الآية . وظاهر الآية التي نحن فيها جعل الرواسي ، وتقدير الأقوات قبل الاستواء إلى السماء وخلقها ، ولكن المقصود في الآيتين الإخبار بصدور ذلك منه تعالى من غير تعرض لترتيب زماني ، وما جاء من ذلك مقصوراً على يومين أو أربعة أو ستة إنما المعنى في مقدار ذلك عندكم ، لا أنه كان وقت إيجاد ذلك زمان . { فقضاهن سبع سموات } : أي صنعهن وأوجدهن ، كقول ابن أبي ذؤيب : @ وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع @@ وعلى هذا انتصب سبع على الحال . وقال الحوفي : مفعول ثان ، كأنه ضمن قضاهن معنى صيرهن فعداه إلى مفعولين ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً سبع سموات على التمييز . ويعني بقوله مبهماً ، ليس عائداً على السماء ، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى ، بخلاف الحال أو المفعول الثاني ، فإنه عائد على السماء على المعنى . { وأوحي في كل سماء أمرها } ، قال مجاهد وقتادة : وأوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها ما شاء تعالى من الأمور التي هي قوامها وصلاحها ، وقاله السدي وقتادة : ومن الأمور التي هي بغيرها مثل ما فيها من جبال البرد ونحوها ، وأضاف الأمر إليها من حيث هو فيها . وقال الزمخشري : أمرها ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك . { وحفظاً } : أي وحفظناها حفظاً من المسترقة بالثواقب ، ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى ، كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً انتهى . ولا حاجة إلى هذا التقدير الثاني ، وتكلفه مع ظهور الأول وسهولته ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر ، أي أوجده بقدرته وعزه وعلمه .