Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 41, Ayat: 40-46)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما بين تعالى أن الدعاء إلى دين الله أعظم القربات ، وأنه يحصل ذلك بذكر دلائل التوحيد والعدل والبعث ، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات ويجادل ، فقال : { إن الذين يلحدون بآيتنا } ، وتقدم الكلام على الإلحاد في قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } [ الأعراف : 180 ] ، وذكر تعالى أنهم لا يخفون عليه ، وفي ذلك تهديد لهم . وقال قتادة : هنا الإلحاد : التكذيب ، ومجاهد : المكاء والصفير واللغو . وقال ابن عباس : وضع الكلام غير موضعه . وقال أبو مالك : يميلون عن آياتنا . وقال السدي : يعاندون رسلنا فيما جاءوا فيه من البينات والآيات . ثم استفهم تقريراً : { أفمن يلقى في النار } ، بإلحاده في آياتنا ، { خير أم من يأتي آمناً } ، ولا اشتراك بين الإلقاء في النار والإتيان آمناً ، لكنه ، كما قلنا ، استفهام تقرير ، كما يقرر المناظر خصمه على وجهين ، أحدهما فاسد يرجو أن يقع في الفاسد فيتضح جهله ، ونبه بقوله : { يلقى في النار } على مستقر الأمر ، وهو الجنة ، وبقوله : { آمنا } على خوف الكافر وطول وجله ، وهذه الآية ، قال ابن بحر : عامة في كل كافر ومؤمن . وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان . وقيل : فيه وفي عمار بن ياسر . وقيل : فيه وفي عمر . وقيل : في أبي جهل وحمزة بن عبد المطلب . وقال الكلبي : وأبو جهل والرسول صلى الله عليه وسلم . ولما تقدم ذكر الإلحاد ، ناسب أن يتصل به من التقرير من اتصف به . ولم يكن التركيب : أم من يأتي آمناً يوم القيامة كمن يلقي في النار ، كما قدم ما يشبهه في قوله : { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } [ الرعد : 19 ] ، وكما جاء في سورة القتال : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله } [ محمد : 14 ] . { اعملوا ما شئتم } : وعيد وتهديد بصيغة الأمر ، ولذا جاء { إنه بما تعملون بصير } فيجازيكم بأعمالكم . { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } : هم قريش ومن تابعهم من الكفار غيرهم ، والذكر : القرآن هو بإجماع ، وخبر إن اختلفوا فيه أمذكور هو أو محذوف ؟ فقيل : مذكور ، وهو قوله : { أولئك ينادون من مكان بعيد } ، وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة . سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال : لم أجد لها نفاذاً ، فقال له أبو عمرو : إنه منك لقريب { أولئك ينادون } . وقال الحوفي : ويرد على هذا القول كثرة الفصل ، وأنه ذكر هناك من تكون الإشارة إليهم ، وهو قوله : { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون } . وقيل : محذوف ، وخبر إن يحذف لفهم المعنى . وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو : معناه في التفسير : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به ، وإنه لكتاب ، فقال عيسى : أجدت يا أبا عثمان . وقال قوم : تقديره معاندون أو هالكون . وقال الكسائي : قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل إن ، وهو قوله : { أفمن يلقى في النار } . انتهى ، كأنه يريد : دل عليه ما قبله ، فيمكن أن يقدر يخلدون في النار . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : { إن الذين كفروا بالذكر } ؟ قلت : هو بدل من قوله : { إن الذين يلحدون في آياتنا } . انتهى . ولم يتعرض بصريح الكلام في خبر إن أمذكور هو أو محذوف ، لكن قد ينتزع من كلامه هذا أنه تكلم فيه بطريق الإشارة إليه ، لأنه ادّعى أن قوله : { إن الذين كفروا بالذكر } بدل من قوله : { إن الذين يلحدون } ، فالمحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل ، فيكون التقدير : { إن الذين يلحدون في آياتنا } ، { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } لا يخفون علينا . وقال ابن عطية : والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر بعد { حكيم حميد } ، وهو أشد إظهاراً ، لأن قوله : { وإنه لكتاب عزيز } داخل في صفة الذكر المكذب به ، فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه . انتهى ، وهو كلام حسن . والذي أذهب إليه أن الخبر مذكور ، لكنه حذف منه عائد يعود على اسم إن ، وذلك في قوله : { لا يأتيه الباطل } : أي الباطل منهم ، أي الكافرون به ، وحالة هذه لا يأتيه باطلهم ، أي متى رامو فيه أن يكون ليس حقاً ثابتاً من عند الله وإبطالاً له لم يصلوا إليه ، أو تكون أل عوضاً من الضمير على قول الكوفيين ، أي لا يأتيه باطلهم ، أو يكون الخبر قوله : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } ، أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك . ولما جئت به مثل ما أوحى إلي من قبلك من الرسل ، وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك ، وفي الآخرة بالعذاب الدائم . وغاية ما في هذين التوجيهين حذف الضمير العائد على اسم إن ، وهو موجود ، نحو قوله : السمن منوان بدرهم : أي منوان منه والبركرّ بدرهم : أي كر منه . وعن بعض نحاة الكوفة : الخبر في قوله : { وإنه لكتاب عزيز } ، وهذا لا يتعقل . { وإنه لكتاب عزيز } : جملة حالية ، كما تقول : جاء زيد وأن يده على رأسه ، أي كفروا به ، وهذه حاله وعزته كونه عديم النظير لما احتوى عليه من الإعجاز الذي لا يوجد في غيره من الكتب ، أو غالب ناسخ لسائر الكتب والشرائع . وقال ابن عباس : عزيز كريم على الله تعالى . وقال مقاتل : ممتنع من الشيطان . وقال السدي : غير مخلوق . وقيل : وصف بالعزة لأنه لصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه ، وهو محفوظ من الله ، { لا يأتيه الباطل } من جعل خبر إن محذوفاً ، أو قوله : { أولئك ينادون } ، كانت هذه الجملة في موضع الصفة على ما اخترناه من أحد الوجهين تكون الجملة في موضع خبر إن ، والمعنى أن الباطل لا يتطرق إليه { من بين يديه ولا من خلفه } ، تمثيل : أي لا يجد الطعن سبيلاً إليه من جهة من الجهات ، فيتعلق به . وأما ما ظهر من بعض الحمقى من الطعن على زعمهم ، ومن تأويل بعضهم له ، كالباطنية ، فقد رد عليهم علماء الإسلام وأظهروا حماقاتهم . وقال قتادة : الباطل الشيطان ، واللفظ لا يخص الشيطان . وقال ابن جبير والضحاك : { من بين يديه } : أي كتاب من قبله فيبطله ، ولا من بعده فيكون على هذا الباطل في معنى المبطل نحو : أورس النبات فهو وارس ، أي مورس ، أو يكون الباطل بمعنى المبطل مصدراً ، فيكون كالعافية . وقيل : { من بين يديه } : أي قبل أن يتم نزوله ، { ولا من خلفه } : من بعد نزوله . وقيل عكس هذا . وقيل : { من بين يديه } : قبل أن ينزل ، لأن الأنبياء بشرت به ، فلم يقدر الشيطان أن يدحض ذلك ، { ولا من خلفه } : بعد أن أنزل . وقال الطبري : { من بين يديه } : لا يقدر ذو باطل أن يكيده بتغيير ولا تبديل ، { ولا من خلفه } : لا يستطيع ذو باطل أن يلحد فيه . { تنزيل } : أي هو تنزيل ، { من حكيم } : أي حاكم أو محكم لمعانية ، { حميد } : محمود على ما أسدى لعباده من تنزيل هذا الكتاب وغيره من النعم . { ما يقال لك } : يقال مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون القائل الله تعالى ، كما تقدم تأويلها فيه ، أي ما يوحي إليك الله إلا مثل ما أوحى إلى الرسل في شأن الكفار ، كما تأولناه على أحد الوجهين أو في الشرائع . وجوزوا على أن القائل هو الله أن يكون . { إن ربك } : تفسير لقوله : { ما قد قيل } ، فالمقول { إن ربك لذو مغفرة } للطائعين ، { وذو عقاب أليم } للعاصين ، وهذا التأويل فيه بعد ، لأنه حصر ما أوحى الله إليه وإلى الرسل في قوله : { إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم } ، وهو تعالى قد أوحى إليه وإليهم أشياء كثيرة . فإذا أحذناه على الشرائع أو على عاقبة المكذبين كان الحصر صحيحاً ، وكان قوله تعالى : { إن ربك } استئناف إخبار عنه تعالى لا تفسير لما قد قيل . ويحتمل أن يكون القائل الكفار ، أي مايقول لك كفار قومك إلا ما قد قال كفار الرسل لهم من الكلام المؤذي والطعن فيما أنزل الله عليهم من الكتب . ثم أخبر تعالى أنه ذو مغفرة وذو عقاب أليم ، وفيه الترجئة بالغفران ، والزجر بالعقاب ، وهو وعظ وتهديد . وقال قتادة : عزى الله نبيه وسلاه بقوله : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } ، ومثله كذلك : { ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } [ الذاريات : 52 ] . ولما ذكر تعالى الملحدين في آياته ، وأنهم لا يخفون عليه ، والكافرين بالقرآن ما دل على تعنتهم وما ظهر من تكذيبهم ، وقولهم : هل أنزل بلغة العجم ؟ فقال : { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً } : أي لا يفصح ولا تبين معانيه لهم لكونه بلغة العجم أو بلغة غير العرب ، لم يتركوا الاعتراض ، و { لولا فصلت أياته } : أي بينت لنا ، وأوضحت حتى نفهمها . وقرأ الجمهور : آعجمي بهمزة الاستفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي ، وقياسها في التخفيف التسهيل بين بين . وقرأ الإخوان ، والأعمش ، وحفص : بهمزتين ، أي وقالوا منكرين : أقرآن أعجمي ورسول عربي ؟ أو مرسل إليه عربي ؟ وتأوله ابن جبير أن معنى قوله : { أعجمي } ، ونحن عرب ما لنا وللعجمة . وقال ابن عطية : لانهم ينكرون ذلك فيقولون : لولا بين أعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن . انتهى . ولا يصح هذا التقسيم لأنه بالنسبة للقرآن ، وهم إنما قالوا ما دل عليه قوله تعالى : { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً } ، من اقتراحهم أن يكون أعجمياً ، ولم يقترحوا أن يكون القرآن أعجمياً وعربياً . وقرأ الحسن ، وأبو الاسود ، والجحدري ، وسلام ، والضحاك ، وابن عباس ، وابن عامر بخلاف عنهما : أعجمي وعربي دون استفهام وسكون العين ، فقيل معناه : أنهم قالوا : أعجمة وأعراب ، إن هذا لشاذ . وقال ابن جبير معناه : لولا فصل فصلين ، فكان بعضه أعجمياً يفهمه العجم ، وبعضه عربياً يفهمه العرب . وقال صاحب اللوامح : لأنهم لما قالوا : { لولا فصلت آياته } ، أعادوا القول ثانياً فقالوا : { أعجمي } ، وأضمر المبتدأ ، أي هو أعجمي ، والقرآن ، أو الكلام ، أو نحوها ، والذي أتى به ، أو الرسول عربي ، كأنهم كانوا ينكرون ذلك . وقرأ عمرو بن ميمون : أعجمي بهمزة استفهام وفتح العين أن القرآن لو جاء على طريقة كائنة كانوا تعنتوا ، لأنهم لا يطلبون الحق . وقال صاحب اللوامح : والعجمي المنسوب إلى العجم ، والياء للنسب على الحقيقة ؛ وأما إذا سكنت العين فهو الذي لا يفصح ، والياء فيه بلفظ النسب دون معناه ، فهو بمنزلة ياء كرسي وبختي ، والله أعلم . انتهى ، وليست كياء كرسي بنيت الكلمة عليها ، وياء أعجمي لم تبن الكلمة عليها . تقول العرب : رجل أعجم ورجل أعجمي ، فالياء للنسبة الدالة على المبالغة في الصفة ، نحو : أحمري ودواري مبالغة في أحمر ودوار . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب ؟ قلت : هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتاباً عجمياً كتب إلى قوم من العرب يقول : أكتاب عجمي والمكتوب إليه عربي ؟ وذلك لأن نسخ الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه ، لا على أن المكتوب إليه واحد وجماعة ؛ فوجب أن يجرد لما سيق له من الغرض ، ولا يوصل به ما يخل غرضاً آخر . ألا تراك تقول : وقد رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة ، اللباس طويل واللابس قصير ؟ ولو قلت : واللابسة قصيرة ، جئت بما هو لكنة وفضول قول ، لإن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته ، إنما وقع في غرض وراءهما . انتهى ، وهو حسن ، إلا أن فيه تكثيراً على عادته في حب الشقشقة والتفهيق . { قل هو } : أي القرآن ، { للذين آمنوا هدى وشفاء } ، هدى : أي إرشاد إلى الحق ، وشفاء : أي لما في الصدور من الظن والشك . والظاهر أن { والذين لا يؤمنون } مبتدأ ، و { في آذانهم وقر } هو موضع الخبر . وقال الزمخشري : هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ لما أخبر أنه هدى وشفاء للمؤمنين ، أخبر أنه وقر وصمم في آذانهم ، أي الكافرين ، ولا يضطر إلى إضمار هو ، فالكلام تام دونه أخبر أن في آذانهم صمماً عن سماعهم . ثم أخبر أنه عليهم عمى ، يمنعهم من إبصار حكمته والنظر في معانيه والتقرير لآياته ، وجاء بلفظ عليهم الدالة على استيلاء العمى عليهم ، وجاء في حق المؤمنين باللام الدالة على الاختصاص ، وكون والذين في موضع جر عطفاً على قوله : { للذين آمنوا } ، والتقدير : وللذين لا يؤمنون وقر في آذانهم إعراب متكلف ، وهو من العطف على عاملين ، وفيه مذاهب كثيرة في النحو ، والمشهور منع ذلك . وقرأ الجمهور : عمى بفتح الميم منوناً : مصدر عمى . وقرأ ابن عمرو ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وابن هرمز : بكسر الميم وتنوينه . وقال يعقوب القارىء ، وأبو حاتم : لا ندري نونوا أم فتحوا الياء ، على أنه فعل ماض وبغير تنوين ، رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس . والظاهر أن الضمير في { وهو عليهم } عائد على القرآن ، وقيل : يعود على الوقر . { أولئك } إشارة إلى الذين لا يؤمنون ، ومن جعله خبراً ، لأن الذين كفروا كانت الإشارة إليهم . { ينادون من مكان بعيد } ، قيل : هو حقيقة . قال الضحاك : ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب . وقال علي ومجاهد : استعارة لقلة فهمهم ، شبههم بالرجل ينادي من بعد ، فيسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه . وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم : أنت تنادي من بعيد ، أي كأنه ينادي من موضع بعيد ، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه . وحكى النقاش : كأنما ينادون من السماء . { ولقد آتينا موسى الكتاب } تسلية للرسول في كون قومه اضطربوا فيما جاء به من الذكر ، فذكر أن موسى عليه السلام أوتي الكتاب ، وهو التوراة ؛ فاختلف فيه . وتقدم شرح هذه الآية في أواخر سورة هود عليه السلام ، والكلام على نظير { وما ربك بظلام للعبيد } في قوله في سورة الحج : { وأن الله ليس بظلام للعبيد } [ الحج : 10 ] .