Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 18-26)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر تعالى حال من تخلف عن السفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ذكر حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه . والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم ، ولذا سميت : بيعة الرضوان ؛ وكانوا فيما روي ألفاً وخمسمائة وعشرين . وقال ابن أبي أوفى : وثلاثمائة . وأصل هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية ، بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة ، وحمله على جمل له يقال له : الثعلب ، يعلمهم أنه جاء معتمراً ، لا يريد قتالاً . فلما أتاهم وكلمهم ، عقروا جمله وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد بعث عمر . فقال : قد علمت فظاظتي ، وهم يبغضوني ، وليس هناك من بني عدي من يحميني ، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني وأحب إليهم ، عثمان بن عفان . فبعثه ، فأخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائراً لهذا البيت ، معظماً لحرمته . وكان أبان بن سعيد بن العاصي حين لقيه ، نزل عن دابته وحمله عليها وأجاره ، فقالت له قريش : إن شئت فطف بالبيت ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه . فقال : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال ، فصرخ صارخ من العسكر : قتل عثمان ، فحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وقالو : لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم . فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : البيعة البيعة ، فنزل روح القدس ، فبايعوا كلهم إلا الجد بن قيس المنافق . وقال الشعبي : أول من بايع أبو سنان بن وهب الأسدي ، والعامل في إذ رضي . والرضا على هذا بمعنى إظهار النعم عليهم ، فهو صفة فعل ، لا صفة ذات لتقييده بالزمان وتحت ، يحتمل أن يكون معمولاً ليبايعونك ، أو حالاً من المفعول ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان تحتها جالساً في أصلها . قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائماً على رأسه ، وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه ، فرفعت الغصن عن ظهره . فبايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا يفروا ، فقال لهم : " أنتم اليوم خير أهل الأرض " وكانت الشجرة سمرة . قال بكير بن الأشجع : يوم فتح مكة . قال نافع : كان الناس يأتون تلك الشجرة يصلون عندها ، فبلغ عمر ، فأمر بقطعها . وكانت هذه البيعة سنة ست من الهجرة . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل النار من شهد بيعة الرضوان " { فعلم ما في قلوبهم } ، قال قتادة ، وابن جريج : من الرضا بالبيعة أن لا يفروا . وقال الفراء : من الصدق والوفاء . وقال الطبري ، ومنذر بن سعيد : من الإيمان وصحته ، والحب في الدين والحرص عليه . وقيل : من الهم والانصراف عن المشركين ، والأنفة من ذلك ، على نحو ما خاطب به عمر وغيره ؛ وهذا قول حسن يترتب معه نزول السكينة والتعريض بالفتح القريب . والسكينة تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى ، وعلى الأقوال السابقة قيل هذا القول ، لا يظهر احتياج إلى إنزال السكينة إلا أن يجازي بالسكينة والفتح القريب والمغانم . وقال مقاتل : فعلم ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت ، { فأنزل السكينة عليهم } حتى بايعوا . قال ابن عطية : وهذا فيه مذمة للصحابة ، رضي الله تعالى عنهم . انتهى . { وأثابهم فتحاً قريباً } قال قتادة ، وابن أبي ليلى : فتح خيبر ، وكان عقب انصرافهم من مكة . وقال الحسن : فتح هجر ، وهو أجل فتح اتسعوا بثمرها زمناً طويلاً . وقيل : فتح مكة والقرب أمر نسبي ، لكن فتح خيبر كان أقرب . وقرأ الحسن ، ونوح القارىء : وآتاهم ، أي أعطاهم ؛ والجمهور : وأثابهم من الثواب . { ومغانم كثيرة } : أي مغانم خيبر ، وكانت أرضاً : ذات عقار وأموال ، فقسمها عليهم . وقيل : مغانم هجر . وقيل : مغانم فارس والروم . وقرأ الجمهور : يأخذونها بالياء على الغيبة في وأثابهم ، وما قبله من ضمير الغيبة . وقرأ الأعمش ، وطلحة ، ورويس عن يعقوب ، ودلبة عن يونس عن ورش ، وأبو دحية ، وسقلاب عن نافع ، والأنطاكي عن أبي جعفر : بالتاء على الخطاب . كما جاء بعد { وعدكم الله مغانم كثيرة } بالخطاب . وهذه المغانم الموعود بها هي المغانم التي كانت بعد هذه ، وتكون إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين . ولقد اتسع نطاق الإسلام ، وفتح المسلمون فتوحاً لا تحصى ، وغنموا مغانم لا تعد ، وذلك في شرق البلاد وغربها ، حتى في بلاد الهند ، وفي بلاد السودان في عصرنا هذا . وقدم علينا حاجاً أحد ملوك غانة من بلاد التكرور ، وذكر عنه أنه استفتح أزيد من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان ، وأسلموا ، وقدم علينا ببعض ملوكهم يحج معه . وقيل : الخطاب لأهل البيعة ، وأنهم سيغنمون مغانم كثيرة . وقال زيد بن أسلم وابنه : المغانم الكثيرة مغانم خيبر ؛ { فعجل لكم هذه } : الإشارة بهذه إلى البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح ، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم وابنه . وقال مجاهد : مغانم خيبر . { وكف أيدي الناس عنكم } : أي أهل مكة بالصلح . وقال ابن عباس عيينة بن حصن الفزاري ، وعوف بن مالك النضري ، ومن كان معهم : إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر ، والرسول عليه الصلاة والسلام محاصر لهم ، فجعل الله في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين . وقال ابن عباس أيضاً : أسد وغطفان حلفاء خيبر . وقال الطبري : كف اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وإلى خيبر . { ولتكون } : أي هذه الكفة آية للمؤمنين ، وعلامة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان ، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم . وقيل : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه ، ورؤيا الأنبياء حق ، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة ، فجعل فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة ، فيكون الضمير في ولتكون عائداً على هذه ، وهي مغانم خيبر ، والواو في ولتكون زائدة عند الكوفيين وعاطفة على محذوف عند غيرهم ، أي ليشكروه ولتكون ، أو وعد فعجل وكف لينفعكم بها ولتكون ، أو يتأخر ، أو يقدر ما يتعلق به متأخراً ، أي فعل ذلك . { ويهديكم صراطاً مستقيماً } : أي طريق التوكل وتفويض الأمور إليه . وقيل : بصيرة واتقاناً . { وأخرى لم تقدروا عليها } ، قال ابن عباس ، والحسن ، ومقاتل : بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون . وقال الضحاك ، وابن زيد ، وابن اسحاق : خيبر . وقال قتادة ، والحسن : مكة ، وهذا القول يتسق معه المعنى ويتأيد . وفي قوله : { لم تقدروا عليها } دلالة على تقدم محاولة لها ، وفوات درك المطلوب في الحال ، كما كان في مكة . وقال الزمخشري : هي مغانم هوازن في غزوة حنين . وقال : { لم تقدروا عليها } ، لما كان فيها من الجولة ، وجوز الزمخشري في : { وأخرى } ، أن تكون مجرورة بإضمار رب ، وهذا فيه غرابة ، لأن رب لم تأت في القرآن جارة ، مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب ، فكيف يؤتى بها مضمرة ؟ وإنما يظهر أن { وأخرى } مرفوع بالابتداء ، فقد وصفت بالجملة بعدها ، وقد أحاط هو الخبر . ويجوز أن تكون في موضع نصب بمضمر يفسره معنى { قد أحاط الله بها } : أي وقضى الله أخرى . وقد ذكر الزمخشري هذين الوجهين ومعنى { قد أحاط الله بها } بالقدرة والقهر لأهلها ، أي قد سبق في علمه ذلك ، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها . { ولو قاتلكم الذين كفروا } : هذا ينبني على الخلاف في قوله تعالى : { وكف أيدي الناس عنكم } ، أهم مشركو مكة ، أو ناصروا أهل خيبر ، أو اليهود ؟ { لولوا الأدبار } : أي لغلبوا وانهزموا . { سنة الله } : في موضع المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله ، أي سن الله عليه أنبياءه سنة ، وهو قوله : { لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] . { وهو الذي كف أيديهم } : أي قضى بينكم المكافة والمحاجزة ، بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة . وروي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها ، وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل ، وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما أحس بهم المسلمون ، بعث عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد ، وسماه حينئذ سيف الله ، في جملة من الناس ، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة ، وأسروا منهم جملة ، وسيقوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فمنّ عليهم وأطلقهم . وقال قتادة : كان ذلك بالحديبية عند معسكره ، وهو ببطن مكة . وعن أنس : هبط ثمانون رجلاً من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم مسلحين يريدون غرته ، فأخذناهم فاستحياهم . وفي حديث عبد الله بن معقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم ، فأخذ الله أبصارهم ، فقال لهم : " هل جئتم في عهد ؟ وهل جعل لكم أحد أماناً " ؟ قالوا : اللهم لا ، فخلي سبيلهم . وقال الزمخشري كان يعني هذا الكف يوم الفتح ، وبه استشهد أبو حنيفة ، على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً . وقيل : كان ذلك في غزوة الحديبية ، لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة . وعن ابن عباس : أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت . انتهى . وقرأ الجمهور : بما تعملون ، على الخطاب ؛ وأبو عمرو : بالياء ، وهو تهديد للكفار . { هم الذين كفروا } : يعني أهل مكة . قال ابن خالوية : يقال الهدي والهدى والهداء ، ثلاث لغات . انتهى . وقرأ الجمهور : الهدي ، بسكون الدال ، وهي لغة قريش ؛ وابن هرمز ، والحسن ، وعصمة عن عاصم ، واللؤلؤي ، وخارجة عن أبي عمرو : والهدي ، بكسر الدال وتشديد الياء ، وهما لغتان ، وهو معطوف على الضمير في صدّوكم ؛ ومعكوفاً : حال ، أي محبوساً . عكفت الرجل عن حاجته : حبسته عنها . وأنكر أبو عليّ تعدية عكف ، وحكاه ابن سيدة والأزهري وغيرهما . وهذا الحبس يجوز أن يكون من المشركين بصدهم ، أو من جهة المسلمين لتردّدهم ونظرهم في أمرهم . وقرأ الجعفي ، عن أبي عمرو : والهدي ، بالجر معطوفاً على المسجد الحرام : أي وعن نحر الهدي . وقرأ : بالرفع على إضمار وصد الهدي ، وكان خرج عليه ومعه مائة بدنة ، قاله مقاتل . وقيل : بسبعين ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت البدنة عن عشرة ، قاله المسور بن مخرمة وأبيّ بن الحكم . { أن يبلغ محله } ، قال الشافعي : الحرم ، وبه استدل أبو حنيفة أن محل هدي المحصر الحرم ، لا حيث أحصر . وقال الفراء : حيث يحل نحره ، و { أن يبلغ } : يحتمل أن يتعلق بالصد ، أي وصدوا الهدى ، وذلك على أن يكون بدل اشتمال ، أي وصدوا بلوغ الهدي محله ، أو على أنه مفعول من أجله ، أي كراهة أن يبلغ محله . ويحتمل أن يتعلق بمعكوفاً ، أي محبوساً لأجل أن يبلغ محله ، فيكون مفعولاً من أجله ، ويكون الحبس من المسلمين . أو محبوساً عن أن يبلغ محله ، فيكون الحبس من المشركين ، وكان بمكة قوم من المسلمين مختلطين بالمشركين ، غير متميزين عنهم ، ولا معروفي الأماكن ؛ فقال تعالى : ولولا كراهة أن يهلكوا أناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين لهم ، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة ، ما كف أيديكم عنهم ؛ وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون : { لو تزيلوا } ، كالتكرير للولا رجال مؤمنون ، لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون : { لعذبنا } ، هو الجواب . انتهى . وقوله : لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح ، لأن ما تعلق به لولا الأولى غير ما تعلق به الثانية . فالمعنى في الأولى : ولولا وطء قوم مؤمنين ، والمعنى في الثانية : لو تميزوا من الكفار ؛ وهذا معنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة . و { أن تطؤهم } : بدل اشتمال من رجال وما بعده . وقيل : بدل من الضمير في { تعلموهم } ، أي لم تعلموا وطأتهم ، أي أنه وطء مؤمنين . وهذا فيه بعد . والوطء : الدوس ، وعبر به عن الإهلاك بالسيف وغيره . قال الشاعر : @ ووطئتنا وطأ على حنق وطء المقيد ثابت الهرم @@ وفي الحديث : " اللهم اشدد وطأتك على مضر " و { لم تعلموهم } : صفة لرجال ونساء غلب فيها المذكر ؛ والمعنى : لم تعرفوا أعيانهم وأنهم مؤمنون . وقال ابن زيد : المعرة : المأثم . وقال ابن إسحاق : الدية . وقال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب . وقال الطبري : هي الكفارة . وقال القاضي منذر بن سعيد : المعرة : أن يعنفهم الكفار ، ويقولون قتلوا أهل دينهم . وقيل : الملامة وتألم النفس منه في باقي الزمن . ولفق الزمخشري من هذه الأقوال سؤالاً وجواباً على عادته في تلفق كلامه من أقوالهم وإيهامه أنها سؤالات وأجوبة له فقال : فإن قلت : أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون ؟ قلت : يصيبهم وجوب الدية والكفارة ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير . انتهى . { بغير علم } : أخبار عن الصحابة وعن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والامتناع من التعدى حتى أنهم لو أصابوا من ذلك أحداً لكان من غير قصد ، كقول النملة عن جند سليمان : { وهم لا يشعرون } [ النمل : 18 ] . وبغير علم متعلق بأن تطؤهم . وقيل : متعلق بقوله : { فتصيبكم منهم معرّة } من الذين بعدكم ممن يعتب عليكم . وقرأ الجمهور : لو تزيلوا ؛ وابن أبي عبلة ، وابن مقسم ، وأبو حيوة ، وابن عون : لو تزايلوا ، على وزن تفاعلوا ، ليدخل متعلق بمحذوف دل عليه المعنى ، أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة ، وانتفاء العذاب . { ليدخل الله في رحمته من يشاء } : وهذا المحذوف هو مفهوم من جواب لو ، ومعنى تزيلوا : لو ذهبوا عن مكة ، أي لو تزيل المؤمنون من الكفار وتفرقوا منهم ، ويجوز أن يكون الضمير للمؤمنين والكفار ، أي لو افترق بعضهم من بعض . { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } : إذ معمول لعذبنا ، أو لو صدوكم ، أو لا ذكر مضمرة . والحمية : الأنفة ، يقال : حميت عن كذا حمية ، إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله ، قال المتلمس : @ إلا أنني منهم وعرضي عرضهم كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما @@ وقال الزهري : حميتهم : أنفتهم عن الإقرار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم ، والذي امتنع من ذلك هو سهيل بن عمرو . وقال ابن بحر : حميتهم : عصبيتهم لآلهتهم ، والأنفة : أن يعبدوا غيرها . وقيل : قتلوا آباءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا ، واللات والعزى لا يدخلها أبداً ؛ وكانت حمية جاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها ، وإنما ذلك محض تعصب لأنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء معظماً للبيت لا يريد حرباً ، فهم في ذلك كما قال الشاعر في حمية الجاهلية : @ وهل أنا إلا من غزية إن غوت غوين وإن ترشد غزية أرشد @@ وحمية : بدل من الحمية والسكينة الوقار والاطمئنان ، فتوقروا وحلموا ؛ و { كلمة التقوى } : لا إله إلا الله . روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعمرو بن ميمون ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وسلمة بن كهيل ، وعبيد بن عمير ، وطلحة بن مصرف ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد . وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضاً : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . وقال علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، رضي الله تعالى عنهما : لا إله إلا الله ، والله أكبر . وقال أبو هريرة ، وعطاء الخراساني : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأضيفت الكلمة إلى التقوى لأنها سبب التقوى وأساسها . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي كلمة أهل التقوى . وقال المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم : كلمة التقوى هنا هي بسم الله الرحمن الرحيم ، وهي التي أباها كفار قريش ، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم أحق بها . وقيل : قولهم سمعاً وطاعة . والظاهر أن الضمير في : { وكانوا } عائد على المؤمنين ، والمفضل عليهم محذوف ، أي { أحق بها } من كفار مكة ، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم . وقيل : من اليهود والنصارى ، وهذه الأحقية هي في الدنيا . وقيل : أحق بها في علم الله تعالى . وقيل : { وأهلها } في الآخرة بالثواب . وقيل : الضمير في وكانوا عائد على كفار مكة لأنهم أهل حرم الله ، ومنهم رسوله لولا ما سلبوا من التوفيق . { وكان الله بكل شيء عليماً } ، إشارة إلى علمه تعالى بالمؤمنين ورفع الكفار عنهم ، وإلى علمه بصلح الكفار في الحديبية ، إذ كان سبباً لامتزاج العرب وإسلام كثير منهم ، وعلو كلمة الإسلام ؛ وكانوا عام الحديبية ألفاً وأربعمائة ، وبعده بعامين ساروا إلى مكة بعشرة آلاف . وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه الآية لطائف معنوية ، وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن . باين بين الفاعلين ، إذ فاعل جعل هو الكفار ، وفاعل أنزل هو الله تعالى ؛ وبين المفعولين ، إذ تلك حمية ، وهذه سكينة ؛ وبين الإضافتين ، أضاف الحمية إلى الجاهلية ، وأضاف السكينة إلى الله تعالى . وبين الفعل جعل وأنزل ؛ فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى ، والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها . والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحاً بالإضافة إلى الجاهلية ، والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسناً بإضافتها إلى الله تعالى . والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة ، تقول : أكرمني فأكرمته ، فدلت على المجازاة للمقابلة ، ولذلك جعل فأنزل . ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أجاب أولاً إلى الصلح ، وكان المؤمنون عازمين على القتال ، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر ، وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وباسم الله ، قال تعالى : { على رسوله } . ولما سكن هو صلى الله عليه وسلم للصلح ، سكن المؤمنون ، فقال : { وعلى المؤمنين } . ولما كان المؤمنون عند الله تعالى ، ألزموا تلك الكلمة ، قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] ، وفيه تلخيص ، وهو كلام حسن .