Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 1-10)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه السورة مدنية ، وعن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة ، ولعل بعضاً منها نزل ، والصحيح أنها نزلت بطريق منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، سنة ست من الهجرة ، فهي تعد في المدني . ومناسبتها لما قبلها أنه تقدم : { وإن تتولوا } [ محمد : 38 ] الآية ، وهي خطاب لكفار قريش ، أخبر رسوله بالفتح العظيم ، وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال ، وآمن كل من كان بها ، وصارت مكة دار إيمان . ولما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية ، تكلم المنافقون وقالوا : لو كان محمد نبياً ودينه حق ، ما صد عن البيت ، ولكان فتح مكة . فأكذبهم الله تعالى ، وأضاف عز وجل الفتح إلى نفسه ، إشعاراً بأنه من عند الله ، لا بكثرة عدد ولا عدد ، وأكده بالمصدر ، ووصفه بأنه مبين ، مظهر لما تضمنه من النصر والتأييد . والظاهر أن هذا الفتح هو فتح مكة . وقال الكلبي ، وجماعة : وهو المناسب لآخر السورة التي قبل هذه لما قال : { ها أنتم هؤلاء تدعون } [ محمد : 38 ] الآية ، بين أنه فتح لهم مكة ، وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ؛ ولو بخلوا ، لضاع عليهم ذلك ، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم . وأيضاً لما قال : { وأنتم الأعلون والله معكم } [ محمد : 35 ] ، بين برهانه بفتح مكة ، فإنهم كانوا هم الأعليين . وأيضاً لما قال : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } [ محمد : 35 ] ، كان فتح مكة حيث لم يلحقهم وهن ، ولادعوا إلى صلح ، بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين مسلمين . وكانت هذه البشرى بلفظ الماضي ، وإن كان لم يقع ، لأن إخباره تعالى بذلك لا بد من وقوعه ، وكون هذا الفتح هو فتح مكة بدأ به الزمخشري . وقال الجمهور : هو فتح الحديبية ؛ وقاله : السدي ، والشعبي ، والزهري . قال ابن عطية : وهو الصحيح . انتهى . ولم يكن فيه قتال شديد ، ولكن ترام من القوم بحجارة وسهام . وعن ابن عباس : رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم . وعن الكلبي : ظهروا عليهم حتى سألوه الصلح . قال الشعبي : بلغ الهدى محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس ، وأطعموا كل خيبر . وقال الزهري : لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبية ، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم ، وتمكن الإسلام من قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام . قال القرطبي : فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف . وقال موسى بن عقبة : " قال رجل منصرفهم من الحديبية : ما هذا الفتح ؟ لقد صدونا عن البيت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل هو أعظم الفتوح ، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادكم بالراح ، ويسألونكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، ورأوا منكم ما كرهوا " وكان في فتحها آية عظيمة وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مجه فيها ، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه . وقيل : فجاش الماء حتى امتلأت ، ولم ينفد ماؤها بعد . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون فتحاً ، وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية ؟ قلت : كان ذلك قبل الهدنة ، فلما طلبوها وتمت كان فتحاً مبنياً . انتهى . وفي هذا الوقت اتفقت بيعة الرضوان ، وهو الفتح الأعظم ، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب ، وفيه استقبل فتح خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً ، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية ، ولم يشركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية . وقال مجاهد : هو فتح خيبر . " وفي حديث مجمع بن جارية : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا ، إذ الناس يهزون الأباعر ، فقيل : ما بال الناس ؟ قالوا : أوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فخرجنا نرجف ، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم عند كراع الغميم ، فلما اجتمع الناس ، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } . قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أوفتح هو يا رسول الله ؟ قال : " نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح " " فقسمت خيبر على أهل الحديبية ، ولم يدخل فيها أحد إلا من شهد الحديبية . وقال الضحاك : الفتح : حصول المقصود بغير قتال ، وكان الصلح من الفتح ، وفتح مكة بغير قتال ، فتناول الفتحين : الحديبية ومكة . وقيل : فتح الله تعالى له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كلها ، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه . وقيل : قضينا لك قضاءً بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل ، ليطوفوا بالبيت من الفتاحة ، وهي الحكومة ، وكذا عن قتادة . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة ؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز ؛ كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوّك ، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل . ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث أنه جهاد للعدوّ ، وسبب للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحاً ، بحرب أو بغير حرب ، لأنه منغلق ما لم يظفر ، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح . انتهى . وقال ابن عطية : المراد هنا : أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك علامة لغفرانه لك ، فكأنها لام صيرورة ، ولهذا قال عليه السلام : " لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا " انتهى . ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها ، ولو جاز بحال لجاز : ليقوم زيد ، في معنى : ليقومّن زيد . انتهى . أما الكسر ، فقد علل بأنه شبهت تشبيهاً بلام كي ، وأما النصب فله أن يقول : ليس هذا نصباً ، لكنها الحركة التي تكون مع وجود النون ، بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف ، وبعد هذا ، فهذا القول ليس بشيء ، إذ لا يحفظ من لسانهم : والله ليقوم ، ولا بالله ليخرج زيد ، بكسر اللام وحذف النون ، وبقاء الفعل مفتوحاً . { ويتم نعمته عليك } ، بإظهارك على عدوّك ورضاه عنك ، وبفتح مكة والطائف وخيبر { نصراً عزيزاً } ، أي بالظفر والتمكن من الأعداء بالغنيمة والأسر والقتل نصراً فيه عز ومنعة . وأسندت العزة إليه مجازاً ، والعزيز حقيقة هو المنصور صلى الله عليه وسلم . وأعيد لفظ الله في : { وينصرك ألله نصراً } ، لما بعد عن ما عطف عليه ، إذ في الجملتين قبله ضمير يعود على الله ، وليكون المبدأ مسنداً إلى الاسم الظاهر والمنتهى كذلك . ولما كان الغفران وإتمام النعمة والهداية والنصر يشترك في إطلاقها الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره بقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، وقوله : { إنهم لهم المنصورون } [ الصافات : 172 ] ؛ وكان الفتح لم يبق لأحد إلا للرسول صلى الله عليه وسلم ، أسنده تعالى إلى نون العظمة تفخيماً لشأنه ، وأسند تلك الأشياء الأربعة إلى الاسم الظاهر ، واشتركت الخمسة في الخطاب له صلى الله عليه وسلم ، تأنيساً له وتعظيماً لشأنه . ولم يأت بالاسم الظاهر ، لأن في الإقبال على المخاطب ما لا يكون في الاسم الظاهر . { هو الذين أنزل السكينة } : وهي الطمأنينة والسكون ؛ قيل : بسبب الصلح والأمن ، فيعرفون فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف ، والهدنة بعد القتال ، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم . وقيل : السكينة إشارة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرائع ، ليزدادوا إيماناً بها إلى إيمانهم ، وهو التوحيد ؛ روي معناه عن ابن عباس . وقيل : الوقار والعظمة لله ولرسوله . وقيل : الرحمة ليتراحموا ، وقاله ابن عباس . { ولله جنود السموات والأرض } : إشارة إلى تسليم الأشياء إليه تعالى ، ينصر من شاء ، وعلى أي وجه شاء ، ومن جنده السكينة ثبتت قلوب المؤمنين . { ليدخل } : هذه اللام تتعلق ، قيل : بإنا فتحنا لك . وقيل : بقوله : { ليزدادوا } . فإن قيل : { ويعذب } عطف عليه ، والازدياد لا يكون سبباً لتعذيب الكفار ، أجيب عن هذا بأنه ذكر لكونه مقصوداً للمؤمن ، كأنه قيل : بسبب ازديادكم في الأيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا . وقيل : بقوله : { وينصرك الله } : أي بالمؤمنين . وهذه الأقوال فيها بعد . وقال الزمخشري : { ولله جنود السموات والأرض } ، يسلط بعضها على بعض ، كما يقتضيه علمه وحكمته . ومن قضيته أن صلح قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ، وإن وعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكرون ، فيستحقوا الثواب ، فيثيبهم ، ويعذب الكافرين والمنافقين ، لما غاظهم من ذلك وكرهوه . انتهى . ولا يظهر من كلامه هذا ما تتعلق به اللام ؛ والذي يظهر أنها تتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام ، وذلك أنه قال : { ولله جنود السموات والأرض } . كان في ذلك دليل على أنه تعالى يبتلي بتلك الجنود من شاء ، فيقبل الخير من قضى له بالخير ، والشر من قضى له بالشر . { ليدخل المؤمنين } جنات ، ويعذب الكفار . فاللام تتعلق بيبتلي هذه ، وما تعلق بالابتلاء من قبول الإيمان والكفر . { ويكفر } : معطوف على ليدخل ، وهو ترتيب في الذكر لا ترتيب في الوقوع . وكان التبشير بدخول الجنة أهم ، فبدىء به . ولما كان المنافقون أكثر ضرراً على المسلمين من المشركين ، بدىء بذكرهم في التعذيب . { الظانين بالله السوء } : الظاهر أنه مصدر أضيف إلى ما يسوء المؤمنين ، وهو أن المشركين يستأصلونهم ولا ينصرون ، ويدل عليه : { عليهم دائرة السوء } ، و { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً } [ الفتح : 12 ] . وقيل : { ظن السوء } : ما يسوء المشركين من إيصال الهموم إليهم ، بسبب علو كلمة الله ، وتسليط رسوله قتلاً وأسراً ونهباً . ثم أخبر أنهم يستعلي عليهم السوء ويحيط بهم ، فاحتمل أن يكون خبراً حقيقة ، واحتمل أن يكون هو وما بعده دعاء عليهم . وتقدم الكلام على هذه الجملة في سورة براءة . وقيل : { ظن السوء } يشمل ظنونهم الفاسدة من الشرك ، كما قال : { إن يتبعون إلا الظن } [ يونس : 66 ] ، ومن انتفاء رؤية الله تعالى الأشياء وعلمه بها كما قال : { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً } [ فصلت : 22 ] بطلان خلق العالم ، كما قال : { ذلك ظن الذين كفروا } [ ص : 27 ] . وقيل : السوء هنا كما تقول : هذا فعل سوء . وقرأ الحسن : السوء فيهما بضم السين . { وكان الله عزيزاً حكيماً } : لما تقدم تعذيب الكفار والانتقام منهم ، ناسب ذكر العزة . ولما وعد تعالى بمغيبات ، ناسب ذكر العلم ، وقرن باللفظتين ذكر جنود السموات والأرض ؛ فمنها السكينة التي للمؤمنين والنقمة للمنافقين والمشركين ، ومن جنود الله الملائكة في السماء ، والغزاة في سبيل الله في الأرض . وقرأ الجمهور : { لتؤمنوا } ، وما عطف عليه بتاء الخطاب ؛ وأبو جعفر ، وأبو حيوة ، وابن كثير ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ؛ والجحدري : بفتح التاء وضم الزاي خفيف ؛ وهو أيضاً ، وجعفر بن محمد كذلك ، إلا أنهم كسروا الزاي ؛ وابن عباس ، واليماني : بزاءين من العزة ؛ وتقدم الكلام في وعزّروه في الأعراف . والظاهر أن الضمائر عائدة على الله تعالى ، وتفريق الضمائر يجعلها للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعضها لله تعالى ، حيث يليق قول الضحاك . { بكرة وأصيلاً } ، قال ابن عباس : صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر . { إن الذين يبايعونك } : هي بيعة الرضوان وبيعة الشجرة ، حين أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الأهبة لقتال قريش ، حين أرجف بقتل عثمان بن عفان ، فقد بعثه إلى قريش يعلمهم أنه جاء معتمراً لا محارباً ، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية ، بايعهم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد ، ولذلك قال سلمة بن الأكوع وغيره : بايعنا على الموت . وقال ابن عمر ، وجابر : على أن لا نفر . والمبايعة : مفاعلة من البيع ، { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } [ التوبة : 111 ] ، وبقي اسم البيعة بعد على معاهدة الخلفاء والملوك . { إنما يبايعون الله } أي صفقتهم ، إنما يمضيها ويمنح الثمن الله عز وجل . وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب : إنما يبايعون لله ، أي لأجل الله ولوجهه ؛ والمفعول محذوف ، أي إنما يبايعونك لله . { يد الله فوق أيديهم } . قال الجمهور : اليد هنا النعمة ، أي نعمة الله في هذه المبايعة ، لما يستقبل من محاسنها ، فوق أيديهم التي مدوها لبيعتك . وقيل : قوة الله فوق قواهم في نصرك ونصرهم . وقال الزمخشري : لما قال : { إنما يبايعون الله } ، أكد تأكيداً على طريقة التخييل فقال : { يد الله فوق أيديهم } ، يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعلو يدي المبايعين ، هي يد الله ، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام . وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما ، كقوله تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [ النساء : 80 ] ، و { من نكث فإنما ينكث على نفسه } ، فلا يعود ضرر نكثه إلا على نفسه . انتهى . وقرأ زيد بن علي : ينكث ، بكسر الكاف . وقال جابر بن عبد الله : ما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس ، وكان منافقاً ، اختبأ تحت إبط بعيره ، ولم يسر مع القوم فحرم . وقرأ الجمهور : { عليه الله } : بنصب الهاء . وقرىء : بما عهد ثلاثياً . وقرأ الحميدي : { فسيؤتيه } ؛ بالياء ؛ والحرميان ، وابن عامر ، وزيد بن علي : بالنون . { أجراً عظيماً } : وهي الجنة ، وأو في لغة تهامه