Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 1-8)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه السورة مدنية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، لأنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم قال : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الفتح : 29 ] ، فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه ، فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } . وكانت عادة العرب ، وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء ، وأن يتكلم كل بما شاء وفعل ما أحب ، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك . قال قتادة : فربما قال قوم : ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا . وقال الحسن : ذبح قوم ضحايا قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، وفعل قوم في بعض غزواته شيئاً بآرائهم ، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك . فقال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه . وتقول العرب : تقدمت في كذا وكذا ، وقدمت فيه إذ قلت فيه . وقرأ الجمهور : لا تقدموا ، فاحتمل أن يكون متعدياً ، وحذف مفعوله ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم ، فلم يقصد لشيء معين ، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرض لمفعول معين ، كقولهم : فلان يعطي ويمنع . واحتمل أن يكون لازماً بمعنى تقدم ، كما تقول : وجه بمعنى توجه ، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف ، أي لا تتقدّموا في شيء مّا من الأشياء ، أو بما يحبون . ويعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم . لا تقدموا ، بفتح التاء والقاف والدال على اللزوم ، وحذفت التاء تخفيفاً ، إذ أصله لا تتقدموا . وقرأ بعض المكيين : تقدموا بشد التاء ، أدغم تاء المضارعة في التاء بعدها ، كقراءة البزي . وقرىء : لا تقدموا ، مضارع قدم ، بكسر الدال ، من القدوم ، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليها ، والمكان المسامت وجه الرجل قريباً منه . قيل : فيه بين يدي المجلوس إليه توسعاً ، لما جاور الجهتين من اليمين واليسار ، وهي في قوله : { بين يدي الله } ، مجاز من مجاز التمثيل . وفائدة تصوير الهجنة والشناعة فيها ؛ نهوا عنه من الإقدام على أمر دون الاهتداء على أمثلة الكتاب والسنة ؛ والمعنى : لا تقطعوا أمراً إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا عاملين بالوحي المنزل ، أو مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا ، وعلى هذا مدار تفسير ابن عباس . وقال مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئاً حتى يقصه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم . ولما نهى أمر بالتقوى ، لأن من التقوى اجتناب المنهي عنه . { إن الله سميع } لأقوالكم ، { عليم } بنياتكم وأفعالكم . ثم ناداهم ثانياً ، تحريكاً لما يلقيه إليهم ، واستعباداً لما يتجدد من الأحكام ، وتطرية للإنصات . ونزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت . { لا ترفعوا أصواتكم } : أي إذا نطق ونطقتم ، { ولا تجهروا له بالقول } إذا كلمتموه ، لأن رتبة النبوة والرسالة يجب أن توقر وتجل ، ولا يكون الكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم كالكلام مع غيره . ولما نزلت ، قال أبو بكر رضي الله عنه : لاأكلمك يا رسول الله إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله . وعن عمر رضي الله عنه ، أنه كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كأخي السرار ، لا يسمعه حتى يستفهمه . وكان أبو بكر ، إذا قدم على الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوم أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ، ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن الرفع والجهر إلا ما كان في طباعهم ، لا أنه مقصود بذلك الاستخفاف والاستعلاء ، لأنه كان يكون فعلهم ذلك كفراً ، والمخاطبون مؤمنون . { كجهر بعضكم لبعض } : أي في عدم المبالاة وقلة الاحترام ، فلم ينهوا إلا عن جهر مخصوص . وكره العلماء رفع الصوت عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبحضرة العالم ، وفي المساجد . وعن ابن عباس : " نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنه وقر ، وكان جهير الصوت ، وحديثه في انقطاعه في بيته أياماً بسبب ذلك مشهور ، وأنه قال : يا رسول الله ، لما أنزلت ، خفت أن يحبط عملي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك من أهل الجنة " . وقال له مرة : " أما ترضى أن تعيش حميداً وتموت شهيداً " ؟ فعاش كذلك ، ثم قتل باليمامة ، رضي الله تعالى عنه يوم مسيلمة " { أن تحبط أعمالكم } : إن كانت الآية معرضة بمن يجهر استخفافاً ، فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة ؛ وإن كانت للمؤمن الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على عادته ، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم ، وغض الصوت عنده ، أن لو فعل ذلك ، كأنه قال : مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها . وأن تحبط مفعول له ، والعامل فيه ولا تجهروا ، على مذهب البصريين في الاختيار ، ولا ترفعوا على مذهب الكوفيين في الاختيار ، ومع ذلك ، فمن حيث المعنى حبوط العمل علة في كل من الرفع والجهر . وقرأ عبد الله وزيد بن علي : فتحبط بالفاء ، وهو مسبب عن ما قبله . { إن الذين يغضون أصواتهم } ، قيل : نزلت في أبي بكر وعمر ، رضي الله تعالى عنهما ، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار . { امتحن الله قلوبهم للتقوى } : أي جربت ودربت للتقوى ، فهي مضطلعة بها ، أو وضع الامتحان موضع المعرفة ، لأن تحقيق الشيء باختباره ، أي عرف قلوبهم كائنة للتقوى في موضع الحال ، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن لأجل التقوى ، أي لتثبت وتظهر تقواها . وقيل : أخلصها للتقوى من قولهم : امتحن الذهب وفتنة إذا أذابه ، فخلص إبريزه من خبثه . وجاءت في هذه الآية إن مؤكدة لمضمون الجملة ، وجعل خبرها جملة من اسم الإشارة الدال على التفخيم والمعرفة بعده ، جائياً بعد ذكر جزائهم على غض أصواتهم . وكل هذا دليل على أن الارتضاء بما فعلوا من توقير النبي صلى الله عليه وسلم ، بغض أصواتهم ، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب رافعو أصواتهم واستجابهم ضد ما استوجبه هؤلاء . " { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } : نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم وغيرهم . وفدوا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة ، والرسول صلى الله عليه وسلم راقد ، فجعلوا ينادونه بجملتهم : يا محمد ، أخرج إلينا . فاستيقظ فخرج ، فقال له الأقرع بن حابس : يا محمد ، إن مدحي زين وذمي شين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك ذلك الله تعالى " . فاجتمع الناس في المسجد فقالوا : نحن بني تميم بخطيبنا وشاعرنا ، نشاعرك ونفاخرك ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا " . فقال الزبرقان لشاب منهم : فخروا ذكر فضل قومك ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه ، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء ، فنحن من خير أهل الأرض ، من أكثرهم عدداً ومالاً وسلاحاً ، فمن أنكر علينا فليأت بقول هو أحسن من قولنا ، وفعل هو أحسن من فعلنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيبه : " قم فأجبه " ، فقال : " الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوهاً وأعظمهم أحلاماً فأجابوه ، والحمد لله الذي جعلنا أنصار دينه ووزراء رسوله وعزاً لدينه ، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، فمن قالها منع نفسه وماله ، ومن أباها قتلناه وكان رغمه علينا هيناً ، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات " . وقال الزبرقان لشاب : قم فقل أبياتاً تذكر فيها فضل قومك ، فقال : * نحن الكرام فلا حي يعادلنا * فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع * * ونطعم النفس عند القحط كلهم * من السديف إذا لم يؤنس الفزع * * إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد * إنا كذلك عند الفخر نرتفع * فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعا حسان بن ثابت ، فقال له : " أعد لي قولك فأسمعه " ، فأجابه : * إن الذوائب من فهر وإخوتهم * قد شرعوا سنة للناس تتبع * * يوصي بها كل من كانت سريرته * تقوى الإله فكل الخير يطلع * ثم قال حسان في أبيات : * نصرنا رسول الله والدين عنوة * على رغم غاب من معد وحاضر * * بضرب كأنواع المخاض مشاشة * وطعن كأفواه اللقاح المصادر * * وسل أحداً يوم استقلت جموعهم * بضرب لنا مثل الليوث الخوادر * * ألسنا نخوض الموت في حومة الوغا * إذا طاب ورد الموت بين العساكر * * فنضرب هاماً بالذراعين ننتمي * إلى حسب من جذع غسان زاهر * * فلولا حياء الله قلنا تكرماً * على الناس بالحقين هل من منافر * * فأحياؤنا من خير من وطىء الحصا * وأمواتنا من خير أهل المقابر * قال : فقام الأقرع بن حابس فقال : إني والله لقد جئت لأمر ، وقد قلت شعراً فاسمعه ، وقال : * أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا * إذا خالفونا عند ذكر المكارم * * وإنا رؤوس الناس في كل غارة * تكون بنجد أو بأرض التهائم * * وإن لنا المرباع في كل معشر * وأن ليس في أرض الحجاز كدارم * فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان : " قم فأجبه " ، فقام وقال : * بني درام لا تفخروا إن فخركم * يصير وبالاً عند ذكر المكارم * * هبلتم علينا تفخرون وأنتم * لنا خول من بين ظئر وخادم * فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد كنت غنياً يا أخا دارم أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد لتنوه " . فكان قوله عليه الصلاة والسلام أشد عليهم من جميع ما قاله حسان ، ثم رجع حسان إلى شعره فقال : * فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم * وأموالكم أن تقسموا في المقاسم * * فلا تجعلوا الله نداً وأسلموا * ولا تفخروا عند النبي بدارم * * وإلا ورب البيت قد مالت القنا * على هامكم بالمرهفات الصوارم * فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قولاً ، وتكلم شاعرنا ، فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ، ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يضرك ما كان قبل هذا " ، ثم أعطاهم وكساهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن المناداة من وراء الحجرات فيها رفع الصوت وإساءة الأدب ، والله قد أمر بتوقير رسوله وتعظيمه . والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام ، ومن لابتداء الغاية ، وإن المناداة نشأت من ذلك المكان . وقال الزمخشري : فإن قلت : أفرق بين الكلامين ، بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه . قلت : الفرق بينهما : أن المنادى والمنادي في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء ، وفي الثاني لا يجوز ، لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية ، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن يكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد . والذي يقول : ناداني فلان من وراء الدار ، لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أي قطر من أقطارها ، كان مطلقاً بغير تعين ولا اختصاص . انتهى . وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد ، وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما . وتأولوا ذلك على سيبويه وقالوا من ذلك قولهم : أخذت الدرهم من زيد ، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معاً . قالوا : فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع ، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً . وهذه المناداة التي أنكرت ، ليس إنكارها لكونها وقعت في إدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر ذلك لأنهم نادوه من خارج ، مناداة الأجلاف التي ليس فيها توقير ، كما ينادي بعضهم بعضاً . والحجرات : منازل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانت تسعة . والحجرة : الرفعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها . وحظيرة الإبل تسمى حجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة . وقرأ الجمهور : الحجرات ، بضم الجيم اتباعاً للضمة قبلها ؛ وأبو جعفر ، وشيبة : بفتحها ؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها ، وهي لغى ثلاث ، في كل فعلة بشرطها المذكور في علم النحو . والظاهر أن من صدر منه النداء كانوا جماعة . وذكر الأصم أن من ناداه كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، فإن صح ذلك ، كان الإسناد إلى الجماعة ، لأنهم راضون بذلك ؛ وإذا كانوا جماعة ، احتمل أن يكونوا تفرقوا ، فنادى بعض من وراء هذه الحجرة ، وبعض من وراء هذه ، أو نادوه مجتمعين من وراء حجرة حجرة ، أو كانت الحجرة واحدة ، وهي التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجمعت إجلالاً له ؛ وانتفاء العقل عن أكثرهم دليل على أن فيهم عقلاً . وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل ، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم . انتهى . وليس في الآية الحكم بقلة العقل منطوقاً به ، فيحتمل النفي ، وإنما هو مفهوم من قوله : { أكثرهم لا يعقلون } . والنفي المحض المستفاد إنما هو من صريح لفظ التقليل ، لا من المفهوم ، فلا يحمل قوله : { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } [ البقرة : 243 ] النفي المحض للشكر ، لأن النفي لم يستفد من صريح التقليل . وهذه الآية سجلت على الذين نادوه بالسفه والجهل . وابتدأ أول السورة بتقديم الأمور التي تنتمي إلى الله تعالى ورسوله على الأمور كلها ، ثم على ما نهى عنه من التقديم بالنهي عن رفع الصوت والجهر ، فكان الأول بساطاً للثاني ، ثم يلي بما هو ثناء على الذين امتنعوا من ذلك ، فغضوا أصواتهم دلالة على عظم موقعه عند الله تعالى . ثم جيء على عقبه بما هو أفظع ، وهو الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرمه من وراء الجدار ، كما يصاح بأهون الناس ، ليلبيه على فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، كان صنيع هؤلاء معه من المنكر المتفاحش . ومن هذا وأمثاله تقتبس محاسن الآداب . كما يحكى عن أبي عبيد ومحله من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال : ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه . { ولو أنهم صبرو حتى تخرج إليهم } ، قال الزمخشري : { أنهم صبروا } في موضع الرفع على الفاعلية ، لأن المعنى : ولو ثبت صبرهم . انتهى ، وهذا ليس مذهب سيبويه ، أن أن وما بعدها بعد لو في موضع مبتدأ ، لا في موضع فاعل . ومذهب المبرد أنها في موضع فاعل بفعل محذوف ، كما زعم الزمخشري . واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا ، أي لكان هو ، أي صبرهم خيراً لهم . وقال الزمخشري : في كان ، إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو . انتهى ، لأنه قدر أن وما بعدها فاعل بفعل مضمر ، فأعاد الضمير على ذلك الفاعل ، وهو الصبر المنسبك من أن ومعمولها خيراً لهم في الثواب عند الله ، وفي انبساط نفس الرسول صلى الله عليه وسلم وقضائه لحوائجهم . وقد قيل : إنهم جاءوا في أسارى ، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف وفادى على النصف ، ولو صبروا لأعتق الجميع بغير فداء . وقيل : لكان صبرهم أحسن لأدبهم . { والله غفور رحيم } ، لن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا . { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة } الآية ، " حدث الحرث بن ضرار قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فأسلمت ، وإلى الزكاة فأقررت بها ، فقلت : أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة ، فمن أجابني جمعت زكاته ، فترسل من يأتيك بما جمعت . فلما جمع ممن استجاب له ، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، واحتبس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لسروات قومه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً إلى من يقبض الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ، ولا أرى حبس الرسول إلا من سخطه . فانطلقوا بها إليه ، وكان عليه السلام بعث الوليد بن الحارث ، ففرق ، فرجع فقال : منعني الحارث الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث ، فاستقبل الحارث البعث وقد فصل من المدينة ، فقالوا : هذا الحارث ، إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك قال : ولم ؟ فقالوا : بعث إليك الوليد ، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيت رسولك ، ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك خشية أن يكون سخطة من الله ورسوله ، قال : فنزلت هذه الآية " وفاسق وبنبأ مطلقان ، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل ، وتقدم قراءة فتبينوا وفتثبتوا في سورة النساء ، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق ، ولا يبنى عليه حكم . وجاء الشرط بحرف إن المقتضي للتعليق في الممكن ، لا بالحرف المقتضي للتحقيق ، وهو إذا ، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب ، إنما كان على سبيل الندرة . وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم ، ونبا ما يترتب على كلامه . فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت ، كف عن مجيئهم بما يريد . { أن تصيبوا } : مفعول له ، أي كراهة أن يصيبوا ، أو لئلا تصيبوا ، { بجهالة } حال ، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق ، { فتصبحوا } : فتصيروا ، { على ما فعلتم } : من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق ، { نادمين } : مقيمين على فرط منكم ، متمنين أنه لم يقع . ومفهوم { إن جاءكم فاسق } : قبول كلام غير الفاسق ، وأنه لا يتثبت عنده ، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل . وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " وقال مقلد بن سعيد : هذه الآية ترد علي من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول . انتهى . وليس كما ذكر ، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق ، لا مجيء المسلم ، بل بشرط الفسق . والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقاً ، فالاحتياط لازم . { واعلموا أن فيكم رسول الله } : هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاة والسلام ، ووعيد بالنصيحة . ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة ، لأن الله تعالى لا يترك نبيه صلى الله عليه وسلم يعتمد على خبر الفاسق ، بل بين له ذلك . والظاهر أن قوله : { واعلموا أن فيكم رسول الله } كلام تام ، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تخبروه بما لا يصح ، فإنه رسول الله يطلعه على ذلك . ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه { لعنتم } : أي لشق عليكم . وقال مقاتل : لأثمتم . وقال الزمخشري : والجملة المصدرة بلو لا تكون كلاماً مستأنفاً لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور ، وكلاهما مذهب سديد ، والمعنى : أن فيكم رسول الله ، وأنتم على حالة يجب عليكم تغييرها ، وهو أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره ، والتابع له فيما يرتئيه المحتذي على أمثلته ، ولو فعل ذلك { لعنتم } : أي لوقعتم في الجهد والهلاك . وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق ، وتصديق قول الوليد ، وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصونون ، ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } : أي إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن إليها إلا الخواص . وعن بعض المفسرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . انتهى ، وفيه تكثير . ولا بعد أن تكون الجملة المصدرة بلو مستأنفة لا حالاً ، فلا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب . وتقديم خبر أن على اسمها قصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن من استتباعهم رأي الرسول صلى الله عليه وسلم لآرائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه . وقيل : يطيعكم دون أطاعكم ، للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عملهم على ما يستصوبونه ، وأنه كلما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولاً عليه بدليل قوله في كثير من الأمر ، وشريطة لكن مفقودة من مخالفة ما بعدها لما قبلها من حيث اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى ، لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم فوقعت لكن في حاق موقعها من الاستدراك . انتهى ، وهو ملتقط من كلام الزمخشري . وقال الزمخشري أيضاً : ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفيق وسبيله الكناية ، كما سبق وكل ذي لب ، وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبا عليه أن الرجل لا يمدح بفعل غيره . وحمل الآية على ظاهرها يؤدي إلى أن يثني عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا . انتهى ، وهي على طريق الاعتزال . وعن الحسن : حبب الإيمان بما وصف من الثناء عليه ، وكره الثلاثة بما وصف من العقاب . انتهى . { أولئك هم الراشدون } : التفات من الخطاب إلى الغيبة . { فضلاً من الله ونعمة } ، قال ابن عطية : مصدر مؤكد لنفسه ، لأن ما قبله هو بمعناه ، إذا التحبيب والتزيين هو نفس الفضل . وقال الحوفي : فضلاً نصب على الحال . انتهى ، ولا يظهر هذا الذي قاله . وقال أبو البقاء : مفعول له ، أو مصدر في معنى ما تقدم . وقال الزمخشري : فضلاً مفعول له ، أو مصدر من غير فعله . فإن قلت : من أين جاز وقوعه مفعولاً له ، والرشد فعل القوم ، والفضل فعل الله تعالى ، والشرط أن يتحد الفاعل ؟ قلت : لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه ، تقدست أسماؤه ، وصار الرشد كأنه فعله ، فجاز أن ينتصب عنه ولا ينتصب عن الراشدون ، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى . والجملة التي هي { أولئك هم الراشدون } اعتراض ، أو عن فعل مقدر ، كأنه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلاً من الله . وأما كونه مصدراً من غير فعله ، فأن يوضع موضع رشداً ، لأن رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه ، والفضل والنعمة بمعنى الأفضال والأنعام . { والله عليم } بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل ، { حكيم } حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم . انتهى . أما توجيهه كون فضلاً مفعولاً من أجله ، فهو على طريق الاعتزال . وأما تقديره أو كان ذلك فضلاً ، فليس من مواضع إضمار كان ، ولذلك شرط مذكور في النحو .