Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 1-3)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

البهيمة : كل ذات أربع في البر والبحر قاله الزمخشري وقال ابن عطية : البهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم انتهى . وما كان على فعيل أو فعيلة وعينه حرف حلق اسماً كان أو صفة ، فإنه يجوز كسر أوله اتباعاً لحركة عينه وهي لغة بني تميم تقول : رئي وبهيمة ، وسعيد وصغير ، وبحيرة وبخيل . الصيد : مصدر صاد يصيد ويصاد ، ويطلق على المصيد . وقال داود بن عليّ الأصبهاني : الصيد ما كان ممتنعاً ولم يكن له مالك وكان حلالا أكله ، وكأنه فسر الصيد الشرعي . القلادة في الهدي : ما قلد به من نعل ، أو عروة مزادة ، أو لحا شجر أو غيره ، وكان الحرمي ربما قلّد ركابه بلحاً شجر الحرم ، فيعتصم بذلك من السوء . الآمُّ : القاصد أممت الشيء قصدته . جرمه على كذا حمله ، قاله : الكسائي وثعلب . وقال أبو عبيدة والفراء : جرمه كسبه ، ويقال : فلان جريمة أهله أي كاسبهم ، والجارم الكاسب . وأجرم فلان اكتسب الإثم . وقال الكسائي أيضاً : جرم وأجرم أي كسب غيره ، وجرم يجرم جرماً إذا قطع . قال الرماني : وهو الأصل ، فجرم حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم كسب لانقطاعه إلى الكسب ، وجرم بمعنى حق ، لأن الحق يقطع عليه . قال الخليل : لا جرّم أن لهم النار أي لقد حق . الشنآن : البغض ، وهو أحد مصادر شيء . يقال : شنيء يشنأ شنأ وشنآنا مثلثي الشين فهذه ستة : وشناء ، وشناءة ، وشناء ، وشنأة ، ومشنأة ، ومشنئة ، ومشنئة ، وشنانا ، وشنانا . فهذه ستة عشر مصدراً وهي أكثر ما حفظ للفعل . وقال سيبويه : كل بناء كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن . المعاونة : المساعدة . المنخنقة : هي التي تحتبس نفسها حتى تموت ، سواء أكان حبسها بحبل أم يد أم غير ذلك . الوقد : ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت . وقيل : الموقوذة المضروبة بعصا أو حجر لا حد له ، فتموت بلا ذكاة . ويقال : وقذه النعاس غلبه ، ووقذه الحكم سكنه . التردّي : السقوط في بئر أو التهوّر من جبل . ويقال : ردى وتردّى أي هلك ، ويقال : ما أدري أين ردي ؟ أي ذهب . النطيحة : هي التي ينطحها غيرها فتموت بالنطح ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل ، ولذلك ثبت فيها الهاء . السبع : كل ذي ناب وظفر من الحيوان : كالأسد ، والنمر ، والدب ، والذئب ، والثعلب ، والضبع ، ونحوها . وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع . قال الشاعر : @ وسباع الطير تغدو بطانا تتخطاهم فما تستقل @@ ومن العرب من يخص السبع بالأسد ، وسكون الباء لغة نجدية ، وسمع فتحها ، ولعل ذلك لغة . التذكية : الذبح ، وتذكية النار رفعها ، وذكى الرجل وغيره أسن . قال الشاعر : @ على أعراقه تجري المذاكي وليس على تقلبه وجهده @@ النصب ، قيل جمع نصاب ، وهي حجارة منصوبة حول الكعبة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ، ولها أيضاً وتلطخ بالدماء ، ويوضع عليها اللحم قطعاً قطعاً ليأكل منها الناس . وقيل : النصب مفرد . قال الأعشى : @ وذا النصب المنصوب لا تقربنه @@ الأزلام : القداح واحدها زلم وزُلم بضم الزاي وفتحها وهي السهام ، كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح ، وهي مكتوب على بعضها نهاني ربي ، وعلى بعضها أمرني ربي ، وبعضها غفل ، فإن خرج الآمر مضى لطلبته ، وإن خرج الناهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد الضرب . اليأس : قطع الرجاء . يقال : يئس ييئس وييئس ، ويقال : أيس وهو مقلوب من يئس ، ودليل القلب تخلف الحكم عن ما ظاهره أنه موجب له . ألا ترى أنهم لم يقلبوا ياءه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فلم يقولوا آس كما قالوا هاب . المخمصة : المجاعة التي يخمص فيها البطون أي تضمر ، والخمص ضمور البطن ، والخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال : خمصانة ، وبطن خميص ، ومنه أخمص القدم . ويستعمل كثيراً في الجوع والغرث . قال الأعشى : @ تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا @@ وقال آخر : @ كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص @@ { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } هذه السورة مدنية ، نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، ومنها ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما نزل عام الفتح . وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة ، أو في سفر ، أو بمكة ، فهو مدني . وذكروا فضائل هذه السورة وأنها تسمى : المائدة ، والعقود ، والمنقذة ، والمبعثرة . ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال ، فبين في هذه السورة أحكاماً كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل . قالوا : وقد تضمنت هذه السورة ثمانية عشر فريضة لم يبينها في غيرها ، وسنبينها أوّلاً فأوّلاً إن شاء الله تعالى . وذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا لقرآن ، فقال : نعم ، أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلاً عاماً ، ثم استثنى استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في إجلاد انتهى . والظاهر أنّ النداء لأمة الرسول المؤمنين . وقال ابن جريج : هم أهل الكتاب . وأمر تعالى المؤمنين بإيفاء العقود وهي جمع عقد ، وهو العهد ، قاله : الجمهور ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي . وقال الزجاج : العقود أوكد من العهود ، وأصله في الاجرام ثم توسع فأطلق في المعاني ، وتبعه الزمخشري فقال : هو العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه . قال الحطيئة : @ قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدّوا العناج وشدوا فوقه الكربا @@ والظاهر عموم المؤمنين في المخلص والمظهر ، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلامياً أم جاهلياً وقد " سأل فرات بن حنان العجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال : لعلك تسأل عن حلف تيم الله قال : نعم يا نبي الله . قال : لا يزيده الإسلام إلا شدة " وقال صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان : " ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو ادّعى به في الإسلام لأجبت " وكان هذا الحلف أنّ قريشاً تعاقدوا على أنْ لا يجدوا مظلوماً بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته ، وسميت ذلك الحلف حلف الفضول . وكان الوليد بن عقبة أميراً على المدينة ، فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال : لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي ، ثم لأقومن في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم لأدعون بحلف الفضول . فقال عبد الله بن الزبير : لئن دعاني لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه ، أو نموت جميعاً . وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيميّ فقالا مثل ذلك ، وبلغ ذلك الوليد فأنصفه . ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمانٍ ، ودية ، ونكاح ، وبيع ، وشركة ، وهبة ، ورهن ، وعتق ، وتدبير ، وتخيير ، وتمليك ، ومصالحة ، ومزارعة ، وطلاق ، وشراء ، وإجارة ، وما عقده مع نفسه لله تعالى من طاعة : كحجٍ ، وصومٍ ، واعتكافٍ ، وقيام ، ونذر وشبه ذلك . وقال ابن عباس ومجاهد : هي العهود التي أخذها الله على عباده فيما أحل وحرم ، وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : هي العهود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم من واجب التكليف ، وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل . وقال قتادة : هو الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية ، قال : وروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام " وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما : هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره . وقال ابن زيد أيضاً ، وعبد الله بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة البيع ، وعقدة الحلف . وقيل : هي عقود الأمانات والبياعات ونحوها ، وقال ابن جريج : هي التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بها بما جاءهم به الرسول . وقال ابن شهاب : قرأت الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : " هذا بيان من الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إلى قوله إن الله سريع الحساب " وقيل : العقود هنا الفرائض . { أحلت لكم بهيمة الأنعام } قيل : هذا تفصيل بعد إجمال . وقيل : استئناف تشريع بيَّن فيه فساد تحريم لحوم السوائب ، والوصائل ، والبحائر ، والحوام ، وأنها حلال لهم . وبهيمة الأنعام من باب إضافة الشيء إلى جنسه فهو بمعنى مِن ، لأن البهيمة أعم ، فأضيفت إلى أخص . فبهيمة الأنعام هي كلها قاله : قتادة ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ، والحسن . وهي الثمانية الأزواج التي ذكرها الله تعالى . وقال ابن قتيبة : هي الإبل ، والبقرة ، والغنم ، والوحوش كلها . وقال قوم منهم الضحاك والفراء : بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء ، وبقر الوحش وحمرة . وكأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام البهائم ، والإضرار وعدم الأنياب ، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه ، وتقدم الكلام في مدلول لفظ الأنعام . وقال ابن عمر وابن عباس : بهيمة الأنعام هي الأجنة التي تخرج عند ذبح أمّهاتها فتؤكل دون ذكاة ، وهذا فيه بعد . وقيل : بهيمة الأنعام هي التي ترعى من ذوات الأربع ، وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن حد الإبهام فصار له نظر مّا . { إلا ما يتلى عليكم } هذا استثناء من بهيمة الأنعام والمعنى : إلا ما يتلى عليكم تحريمه من نحو قوله : { حرمت عليكم الميتة } وقال القرطبي : ومعنى يتلى عليكم يقرأ في القرآن والسنة ، ومنه { كل ذي ناب من السباع حرام } . وقال أبو عبد الله الرازي : ظاهر هذا الاستثناء مجمل ، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملاً ، إلا أنّ المفسرين أجمعوا على أنّ المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله : { حرمت عليكم } إلى قوله : { وما ذبح على النصب } ووجه هذا أنّ قوله : أحلت لكم بهيمة الأنعام ، يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه . فبيّن تعالى أنها إن كانت ميتة أو مذبوحة على غير اسم الله ، أو منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة ، أو افترسها السبع فهي محرمة انتهى كلامه . وموضع ما نصب على الاستثناء ، ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة . قال ابن عطية : وأجاز بعض الكوفيين أن يكون في موضع رفع على البدل ، وعلى أن تكون إلا عاطفة ، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك : جاء الرجل إلا زيد ، كأنك قلت : غير زيد انتهى . وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة ، لأنّ الذي قبله موجب . فكما لا يجوز : قام القوم إلا زيد على البدل ، كذلك لا يجوز البدل في : إلا ما يتلى عليكم . وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية . وقوله : وذلك لا يجوز عند البصريين ، ظاهره الإشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف . وقوله : إلا من نكرة ، هذا استثناء مبهم لا يدرى من أي شيء هو . وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه ، لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصرى ولا كوفي . وأما العطف فلا يجيزه بصرى ألبتة ، وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتاً لما قبله في مثل هذا التركيب . وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون من المنعوت نكرة ، أو ما قاربها من أسماء الأجناس ، فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت ولم يفرق بينهما في الحكم . ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل حتى يسوغ ذلك ، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقارباً للنكرة من أسماء الأجناس ، لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف . { غير محلي الصيد وأنتم حرم } قرأ الجمهور غير بالنصب . واتفق جمهور من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال . ونقل بعضهم الإجماع على ذلك ، واختلفوا في صاحب الحال . فقال الأخفش : هو ضمير الفاعل في أوفوا . وقال الجمهور ، والزمخشري ، وابن عطية وغيرهما : هو الضمير المجرور في أحلّ لكم . وقال بعضهم : هو الفاعل المحذوف من أجل القائم مقامه المفعول به ، وهو الله تعالى . وقال بعضهم : هو ضمير المجرور في عليكم . ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله : إلا ما يتلى عليكم ، هو استثناء من بهيمة الأنعام . وأنّ قوله : غير محلى الصيد ، استثناء آخر منه . فالاستثناءان معناهما من بهيمة الأنعام ، وفي المستثنى منه والتقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون ، بخلاف قوله : { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } [ الحجر : 58 ] على ما يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء . قال : ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ، لأنه مستثنى من المحظور إذا كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإباحة ، وهذا وجه ساقط ، فإذا معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد انتهى . وقال ابن عطية : وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير ، وقدروا تقديمات وتأخيرات ، وذلك كله غير مرضي ، لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء انتهى كلامه . وهو أيضاً ممن خلط على ما سنوضحه . فأمّا قول الأخفش : ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة اعتراضية ، بل هي منشئة أحكاماً ، وذلك لا يجوز . وفيه تقييد الإيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم ، وهم مأمورون بإيفاء العقود بغير قيد ، ويصير التقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام أنفسها . وإنْ أريد به الظباء وبقر الوحش وحمره فيكون المعنى : وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهذا تركيب قلق معقد ، ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا . ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه . وأما قول : من جعله حالاً من الفاعل . وقدّره : وأحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم ، قال كما تقول : أحلت لك كذا غير مبيحه لك يوم الجمعة ، فهو فاسد . لأنهم نصوا على أنّ الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسياً منسياً ، ولا يجوز وقوع الحال منه . لو قلت : أنزل المطر للناس مجيباً لدعائهم ، إذ الأصل أنزل الله المطر مجيباً لدعائهم لم يجز ، وخصوصاً على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين ، لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلاً كما وضعت صيغته مبنياً للفاعل ، وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل ، ولأنه يتقيد إحلاله تعالى بهيمة الأنعام إذا أريد بها ثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم ، وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها . وأما ما نقله القرطبي عن البصريين ، فإنْ كان النقل صحيحاً فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، فنقول : إنما عرض الإشكال في الآية من جعلهم غير محلى الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود ، أو من المحلل لهم ، أو من المحلل وهو الله تعالى ، أو من المتلو عليهم . وغرّهم في ذلك كونه كتب محلي بالياء ، وقدّره هم أنه اسم فاعل من أحل ، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة . وأصله : غير محلين الصيد وأنتم حرم ، إلا في قول من جعله حالاً من الفاعل المحذوف ، فلا يقدر فيه حذف النون ، بل حذف التنوين . وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله : محلي الصيد ، من باب قولهم : حسان النساء . والمعنى : النساء الحسان ، وكذلك هذا أصله غير الصيد المحل . والمحل صفة للصيد لا للناس ، ولا للفاعل المحذوف . ووصف الصيد بأنه محل على وجهين : أحدهما : أنْ يكون معناه دخل في الحل كما تقول : أحل الرّجل أي : دخل في الحل ، وأحرم دخل في الحرم . والوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حل ، أي حلالاً بتحليل الله . وذلك أن الصيد على قسمين : حلال ، وحرام . ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال . ألا ترى إلى قول بعضهم : إنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعاً ؟ وقد تجوزت العرب فأطلقت الصيد على ما يوصف بحل ولا حرمة نحو قوله : @ ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما كذب الليث عن أقرانه صدقا @@ وقال آخر : @ وقد ذهبت سلمى بعقلك كله فهل غير صيد أحرزته حبائله @@ وقال آخر : @ وميّ تصيد قلوب الرّجال وأفلت منها ابن عمر وحجر @@ ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب . فمن مجيء أفعل لبلوغ المكان ودخوله قولهم : أحرم الرّجل ، وأعرق ، وأشأم ، وأيمن ، وأتهم ، وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها . ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم : أعشبت الأرض ، وأبقلت ، وأغد البعير ، وألبنت الشاة ، وغيرها ، وأجرت الكلبة ، وأصرم النخل ، وأتلت الناقة ، وأحصد الزرع ، وأجرب الرّجل ، وأنجبت المرأة . وإذا تقرر أنّ الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ ، أو صار ذا حل ، اتضح كونه استثناء من استثناء ، إذ لا يمكن ذلك لتناقص الحكم . لأنّ المستثنى من المحلل محرم ، والمستثنى من المحرم محلل . بل إن كان المعنى بقوله : بهيمة الأنعام ، الأنعام أنفسها ، فيكون استثناء منقطاً . وإن كان المراد الظباء وبقر الوحش وحمره ونحوها ، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المحل ، استثنى الصيد الذي بلغ الحل في حل كونهم محرمين . ( فإن قلت ) : ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً ؟ ( قلت ) : الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم ، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل ، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم ، وإن كان حلالاً لغيره ، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم . وعلى هذا التفسير يكون قوله : إلا ما يتلى عليكم ، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله : حرمت عليكم الميتة الآية ، استثناء منقطعاً ، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها ، فيصير لكنْ ما يتلى عليكم أي : تحريمه فهو محرم . وإن كان المراد ببهيمة الأنعام الأنعام والوحوش ، فيكون الاستثناءان راجعين إلى المجموع على التفصيل ، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج ، ويرجع غير محلى الصيد إلى الوحوش ، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول . وإذا لم يمكن ذلك ، وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز . وقد نص النحويون على أنه إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك : قام القوم إلا زيداً ، إلا عمراً ، إلا بكراً ( فإن قلت ) : ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد ، لا من صفة الناس ، ولا من صفة الفاعل المحذوف ، يعكر عليه كونه كتب في رقم المصحف بالياء ، فدل ذلك على أنه من صفات الناس ، إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء ، وبكون الفراء وأصحابه وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك . ( قلت ) : لا يعكر على هذا التخريج لأنّهم كتبوا كثيراً رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو : باييد بياءين بعد الألف ، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف ، وبنقصهم منه ألفاً . وكتابتهم الصلحت ونحوه بإسقاط الألفين ، وهذا كثير في الرسم . وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز ، لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه ، وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو ينقطع النفس ، فوقفوا على الرسم كما وقفوا على { سندع الزبانية } [ العلق : 18 ] من غير واو اتباعاً للرسم . على أنه يمكن توجيه كتابته بالياء والوقف عليه بياء بأنه جاء على لغة الازد ، إذ يقفون على بزيد بزيدي بإبدال التنوين ياء ، فكتب محلي بالياء على الوقف على هذه اللغة ، وهذا توجيه شذوذ رسمي ، ورسم المصحف مما لا يقاس عليه . وقرأ ابن أبي عبلة : غير بالرفع ، وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله : بهيمة الأنعام ، ولا يلزم من الوصف بغير أن يكون ما بعدها مماثلاً للموصوف في الجنسية ، ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء ، وخرج أيضاً على الصفة للضمير في يتلى . قال ابن عطية : لأن غير محلى الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً انتهى . ولا يحتاج إلى هذا التكلف على تخريجنا محلي الصيد وأنتم حرم جملة حالية . وحرم جمع حرام . ويقال : أحرم الرجل إذا دخل في الإحرام بحج أو بعمرة ، أو بهما ، فهو محرم وحرام ، وأحرم الرجل دخل في الحرم . وقال الشاعر : @ فقلت لها فيىء إليك فإنني حرام وإني بعد ذاك لبيب @@ أي : ملب . ويحتمل الوجهين قوله : وأنتم حرم ، إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم ، وعلى من كان أحرم بالحج والعمرة ، وهو قول الفقهاء . وقال الزمخشري : وأنتم حرم ، حال عن محل الصيد كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم انتهى . وقد بينا فساد هذا القول ، بأنّ الأنعام مباحة مطلقاً لا بالتقييد بهذه الحال . { إن الله يحكم ما يريد } قال ابن عباس : يحل ويحرم . وقيل : يحكم فيما خلق بما يريد على الإطلاق وهذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإيفاء العقود وتحليل بهيمة الأنعام ، والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقاً في الحل والحرم إلا في اضطرار ، واستثناء الصيد في حالة الإحرام ، وتضمن ذلك حله لغير المحرم ، فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله : إن الله يحكم ما يريد . فموجب الحكم والتكليف هو إرادته لا اعتراض عليه ، ولا معقب لحكمه ، لا ما يقوله المعتزلة من مراعاة المصالح . ولذلك قال الزمخشري : إنّ الله يحكم ما يريد من الأحكام ، ويعلم أنه حكمة ومصلحة . وقال ابن عطية : وقد نبه على ما تضمنته هذه الآية من الأحكام ما نصه هذه الآية مما يلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ، ولمن عنده أدنى بصيرة . ثم ذكر ابن عطية الحكاية التي قدمناها عن الكندي وأصحابه ، وفي مثل هذا أقول من قصيدة مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معارضاً لقصيدة كعب منه في وصف كتاب الله تعالى : @ جار على منهج الأعراب أعجزهم باق مدى الدهر لا يأتيه تبديل بلاغة عندها كعّ البليغ فلم ينبس وفي هديه طاحت أضاليل @@ { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } خرج سريح أحد بني ضبيعة إلى مكة حاجاً وساق الهدي . وفي رواية ومعه تجارة ، وكان قبل قد قدم المدينة وتكلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتروّى في إسلامه ، وقال الرسول عليه السلام : " لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر " فمر بسرح بالمدينة فاستاقه ، فلما قدم مكة عام الحديبية أراد أهل السرح أن يغيروا عليه ، واستأذنوا الرسول ، فنزلت . وقال السدي : اسمه الحطيم بن هند البلدي أحد بني ضبيعة ، وأراد الرسول أن يبعث إليه ناساً من أصحابه فنزلت . وقال ابن زيد : نزلت بمكة عام الفتح وحج المشركون واعتمروا فقال المسلمون : يا رسول الله إن هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن . { ولا آمّين البيت الحرام } والشعائر جمع شعيرة أو شعارة ، أي : قد أشعر الله أنها حده وطاعته ، فهي بمعنى معالم الله ، وتقدم تفسيرها في { إن الصفا والمروة من شعائر الله } [ البقرة : 158 ] . قال الحسن : دين الله كله يعني شرائعه التي حدها لعباده ، فهو عام في جميع تكاليفه تعالى . وقال ابن عباس : ما حرم عليكم في حال الإحرام . وقال أيضاً هو ومجاهد : مناسك الحج . وقال زيد بن أسلم : شعائر الحج وهي ست : الصفا والمروة ، والبدن ، والجمار ، والمشعر الحرام ، وعرفة ، والركن . وقال أيضاً : المحرمات خمس : الكعبة الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، حتى يحل . وقال ابن الكلبي : كان عامّة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر ، وكانت قريش لا تقف بعرفات ، فنهوا عن ذلك . وقيل : الأعلام المنصوبة المتفرقة بين الحل والحرم نهوا أن يتجاوزوها إلى مكة بغير إحرام . وقال أبو عبيدة : هي الهدايا تطعن في سنامها وتقلد . قال : ويدل عليه { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } [ الحج : 36 ] وضعف قوله ، بأنه قد عطف عليه . والهدي والقلائد . وقيل : هي ما حرم الله مطلقاً سواء كان في الإحرام أو غيره . وقال الزمخشري : هي ما أشعر أي جعل إشعاراً وعلماً للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والطواف والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر انتهى . { ولا الشهر الحرام } الظاهر أنه مفرد معهود . فقال الزمخشري : هو شهرالحج . وقال عكرمة وقتادة : هو ذو القعدة من حيث كان أول الأشهر الحرم . وقال الطبري وغيره : رجب . ويضاف إلى مضر لأنها كانت تحرم فيه القتال وتعظمه ، وتزيل فيه السلاح والأسنة من الرماح . وكانت العرب مجمعة على تعظيم ذي القعدة وذي الحجة ، ومختلفة في رجب ، فشدد تعالى أمره . فهذا وجه التخصيص بذكره . وقيل : الشهر مفرد محلى بأل الجنسية ، فالمراد به عموم الأشهر الحرم وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب . والمعنى : لا تحلوا بقتال ولا غارة ولا نهب . قال مقاتل : وكان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كل يوم فيقول : ألا إني قد حللت كذا وحرمت كذا . { ولا الهدي } قال ابن عطية : لا خلاف أن الهدي ما هدي من النعم إلى بيت الله ، وقصد به القربة ، فأمر تعالى أن لا يستحل ، ولا يغار عليه انتهى . والخلاف عن المفسرين فيه موجود . قيل : هو اسم لما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة أو صدقة ، وغيرها من الذبائح والصدقات . وقيل : هو ما قصد به وجه الله ومنه في الحديث : " ثم كالمهدي دجاجة ، ثم كالمهدي بيضة " فسمى هذه هدياً . وقيل : الشعائر البدن من الأنعام ، والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما أهدي . وقيل : الشعائر ما كان مشعراً بإسالة الدم من سنامه أو بغيره من العلائم ، والهدي ما لم يشعر اكتفى فيه بالتقليد . وقال من فسر الشعائر بالمناسك ، ذكر الهدي تنبيهاً على تفصيلها . { ولا القلائد } قال مجاهد ، وعطاء ، ومطرف بن الشخير : القلائد هي ما كانوا يتقلّدون به من شجر الحرم ليأمنوا به ، فنُهي المؤمنون عن فعل الجاهلية ، وعن أخذ القلائد من شجر الحرم . وفي الحديث : " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها " . وقال الجمهور : القلائد ما كانوا يتقلدونه من السمر إذا خرجوا إلى الحج ، فيكون ذلك علامة حجة . وقيل : أو ما يقلده الحرمي إذا خرج لحاجة ، ليدل ذلك على أنه حرمي ، فنهى تعالى عن استحلال من يحرم بشيء من هذه . وحكى الطبري عن ابن عباس : أنّ القلائد هي الهدى المقلد ، وأنه إنما سمي هدياً ما لم يقلد ، فكأنه قال : ولا الهدي الذي لم يقلد ولا المقلد منه . قال ابن عطية : وهذا تحامل على ألفاظ ابن عباس ، وليس من كلامه أن الهدي ، إنما يقال : لما لم يقلد . وإنما يقتضي أنه تعالى نهى عن الهدي جملة ، ثم ذكر المقلد منه تأكيداً ومبالغة في التنبيه على الحرمة في المقلد . وقيل : أراد القلائد نفسها فنهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي ، أي : لا تحلوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها كما قال تعالى : { ولا يبدين زينتهنّ } [ النور : 31 ] نهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها . وقال الطبري : تأويله أنه نهى عن استحلال حرمة المقلد هدياً كان أو إنساناً ، واجتزأ بذكر القلائد عن ذكر المقلد إذ كان مفهوماً عند المخاطب . { ولا آمّين البيت الحرام } وقرأ عبد الله وأصحابه : ولا آمي بحذف النون للإضافة إلى البيت ، أي ولا تحلوا قوماً قاصدين المسجد الحرام ، وهم الحجاج والعمار . قال الزمخشري : وإحلال هذه أي : يتهاون بحرمة الشعائر ، وأن يحال بينها وبين المتنسكين وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج ، وأن يتعرّض للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله . { يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً } قرأ الجمهور يبتغون بالياء ، فيكون صفة لآمين . وفسر الزمخشري الفضل بالثواب ، وهو قول بعضهم . وقيل : الفضل التجارة والأرباح فيها . وقيل : الزيادة في الأموال والأولاد يبتغون رجاء الزيادة في هذا . وأما الرضوان فإنهم كانوا يقصدونه وإن كانوا لا ينالونه ، وابتغاء الشيء لا يدل على حصوله . وقيل : هو توزيع على المشركين ، فمنهم من كان يبتغي التجارة إذ لا يعتقد معاداً ، ومنهم من يبتغي الراضون بالحج إذ كان منهم من يعتقد الجزاء بعد الموت وأنه يبعث ، وإن كان لا يحصل له رضوان الله ، فأخبر بذلك على بناء ظنه . وقيل : كان المسلمون والمشركون يحجون ، فابتغاء الفضل منهما ، وابتغاء الرضوان من المؤمنين . وقال قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ، ولا يعجِّل لهم العقوبة فيها . وقال قوم : الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله تعالى وفضله بالرحمة . نهى تعالى أن يتعرض لقوم هذه صفتهم تعظيماً لهم واستنكاراً أن يتعرض لمثلهم . وفي النهي عن التعرض لهم استئلاف للعرب ولطف بهم وتنشيط لورود الموسم ، وفي الموسم يسمعون القرآن ، وتقوم عليهم الحجة ، ويرجى دخولهم في الإيمان كالذي كان . ونزلت هذه الآية عام الفتح ، فكل ما كان فيها في حق مسلم حاج فهو محكم ، أو في حق كافر فهو منسوخ ، نسخ ذلك بعد عام سنة تسع ، إذ حج أبو بكر ونودي في الناس بسورة براءة . وقول الحسن وأبي ميسرة : ليس فيها منسوخ ، قول مرجوح . وقرأ حميد بن قيس والأعرج : تبتغون بالتاء خطاباً للمؤمنين ، والمعنى على الخطاب أنّ المؤمنين كانوا يقصدون قتالهم والغارة عليهم ، وصدهم عن المسجد الحرام امتثالاً لأمر الله وابتغاء مرضاته ، إذ أمر تعالى بقتال المشركين ، وقتلهم وسبي ذراريهم ، وأخذ أموالهم ، حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية . وقرأ الأعمش : ورضواناً بضم الراء ، وتقدم في آل عمران أنها قراءة أبي بكر عن عاصم ، حيث وقع إلا في ثاني هذه السورة ، فعنه فيه خلاف . { وإذا حللتم فاصطادوا } تضمن آخر قوله : أحلت لكم تحريم الصيد حالة الإحرام ، وآخر قوله : لا تحلوا شعائر الله ، النهي عن إحلال آمي البيت ، فجاءت هذه الجملة راجعاً حكمها إلى الجملة الأولى ، وجاء ما بعدها من قوله : { ولا يجرمنكم } راجعاً إلى الجملة الثانية ، وهذا من بليغ الفصاحة . فليست هذه الجملة اعتراضاً بين قوله : ولا آمين البيت الحرام ، وقوله : ولا يجرمنكم ، بل هي مؤسسة حكماً لا مؤكدة مسددة فيكون أصل التركيب : ولا آمين البيت الحرام بيتغون فضلاً من ربهم ورضواناً ولا يجرمنكم ، كما ذهب إليه بعضهم وجعل من ذلك قصة ذبح البقرة ، فقال : وجه النظر أن يقال : { وإذ قتلتم نفساً } [ البقرة : 72 ] الآية ثم يقال : { وإذ قال موسى لقومه } [ البقرة : 54 ] وكثيراً ما ذكر هذا الرجل التقديم والتأخير في القرآن ، والعجب منه أنه يجعله من علم البيان والبديع ، وهذا لا يجوز عندنا إلا في ضرورة الشعر ، وهو من أقبح الضرائر ، فينبغي بل يجب أن ينزه القرآن عنه . قال : والسبب في هذا أن الصحابة لما جمعوا القرآن لم يرتبوه على حكم نزوله ، وإنما رتبوه على تقارب المعاني وتناسق الألفاظ ، وهذا الذي قاله ليس بصحيح ، بل الذي نعتقد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي رتبه لا الصحابة ، وكذلك نقول في سورة وإن خالف في ذلك بعضهم . والأمر بالاصطياد هنا أمر إباحة بالإجماع ، ولهذا قال الزمخشري : وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا انتهى . ولما كان الاصطياد مباحاً ، وإنما منع منه الإحرام ، وإذا زال المانع عاد إلى أصله من الإباحة . وتكلموا هنا على صيغة الأمر إذا جاءت بعد الحظر ، وعليها إذا جاءت مجردة عن القرائن ، وعلى ما تحمل عليه ، وعلى مواقع استعمالها ، وذلك من علم أصول الفقه فيبحث عن ذلك فيه . وقرىء : فإذا حللتم وهي لغة يقال : حل من إحرامه وأحل . وقرأ أبو واقد ، والجراح ، ونبيح ، والحسن بن عمران : فاصطادوا بكسر الفاء . قال الزمخشري : قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء . وقال ابن عطية : وهي قراءة مشكلة ، ومن توجيهها أن يكون راعي كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت : اصطادوا بكسر الفاء مراعاة وتذكرة لأصل ألف الوصل انتهى . وليس عندي كسراً محضاً بل هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل ، كما أمالوا الفاء في ، فإذا لوجود كسرة إذا . { ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا } قال ابن عباس وقتادة : ولا يجرمنكم أي لا يحملنكم ، يقال : جرمني كذا على بغضك . فيكون أنْ تعتدوا أصله على أن تعتدوا ، وحذف منه الجار . وقال قوم : معناها كسب التي تتعدى إلى اثنين ، فيكون أن تعتدوا في موضع المفعول الثاني أي : اعتداؤكم عليكم . وتتعدى أيضاً إلى واحد تقول : أجرم بمعنى كسب المتعدّية لاثنين ، يقال في معناها : جرم وأجرم . وقال أبو علي : أجرم أعرفه الكسب في الخطايا والذنوب . وقرأ الحسن ، وابراهيم . وابن وثاب ، والوليد عن يعقوب : يجرمنكم بسكون النون ، جعلوا نون التوكيد خفيفة . قال الزمخشري : والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم ، لأنّ صدوكم الاعتداء ، ولا يحملنكم عليه انتهى . وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، لأنه يمتنع أن يكون مدلول حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما ، فيمتنع أن يكون : أن تعتدوا في محل مفعول به ، ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر . وقرأ النحويان وابن كثير ، وحمزة ، وحفص ، ونافع : شنآن بفتح النون . وقرأ ابن عامر وأبو بكر بسكونها ، ورويت عن نافع . والأظهر في الفتح أن يكون مصدراً ، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان ، وجوزوا أن يكون وصفاً وفعلان في الأوصاف موجود نحو قولهم : حمار قطوان أي : عسير السير ، وتيس عدوان كثير العدو ، وليس في الكثرة كالمصدر . قالوا : فعلى هذا يكون المعنى لا يجرمنكم بغض قوم . ويعنون ببغيض مبغض اسم فاعل ، لأنه من شنيء بمعنى البغض . وهو متعد وليس مضافاً للمفعول ولا لفاعل بخلافه إذا كان مصدراً ، فإنه يحتمل أن يكون مضافاً للمفعول وهو الأظهر . ويحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي : بغض قوم إياكم ، والأظهر في السكون أن يكون وصفاً ، فقد حكى رجل شنآن وامرأة شنآنة ، وقياس هذا أنه من فعل متعد . وحكى أيضاً شنآن وشنأى مثل عطشان وعطشى ، وقياسه أنه من فعل لازم . وقد يشتق من لفظ واحد المتعدي واللازم نحو : فغر فاه ، وغرَّفوه بمعنى فتح وانفتح . وجوز أن يكون مصدراً وقد حكى في مصادر شنيء ، ومجيء المصدر على فعلان بفتح الفاء وسكون العين قليل ، قالوا : لويته دينه لياناً . وقال الأحوص : @ وما الحب إلا ما تحب وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا @@ أصله الشنآن ، فحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها . والوصف في فعلان أكثر من المصدر نحو رحمان . وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير : إنْ صدوكم بكسر الهمزة على أنها شرطية ، ويؤيد قراءة ابن مسعود : إنْ صدوكم وأنكر ابن جرير والنحاس وغيرهما قراءة كسران ، وقالوا : إنما صد المشركون الرسول والمؤمنون عام الحديبية ، والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، والحديبية سنة ست ، فالصد قبل نزول الآية ، والكسر يقتضي أن يكون بعد ، ولأنّ مكة كانت عام الفتح في أيدي المسلمين ، فكيف يصدون عنها وهي في أيديهم ؟ وهذا الإنكار منهم لهذه القراءة صعب جداً ، فإنها قراءة متواترة ، إذ هي في السبعة ، والمعنى معها صحيح ، والتقدير : إن وقع صدّ في المستقبل مثل ذلك الصد الذي كان زمن الحديبية ، وهذا النهي تشريع في المستقبل . وليس نزول هذه الآية عام الفتح مجمعاً عليه ، بل ذكر اليزيدي أنها نزلت قبل أن يصدّوهم ، فعلى هذا القول يكون الشرط واضحاً . وقرأ باقي السبعة : أن بفتح الهمزة جعلوه تعليلاً للشنآن ، وهي قراءة واضحة أي : شنآن قوم من أجل أنْ صدوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام . والاعتداء الانتقام منهم بإلحاق المكروه بهم . { وتعاونوا على البر والتقوى } لما نهى عن الاعتداء بأمر بالمساعدة والتظافر على الخير ، إذ لا يلزم من النهي عن الاعتداء التعاون على الخير ، لأنّ بينهما واسطة وهو الخلو عن الاعتداء والتعاون . وشرح الزمخشري البر والتقوى بالعفو والإغضاء ، قال : ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى ، فيتناول العفو انتهى . وقال قوم : هما بمعنى واحد ، وكرر لاختلاف اللفظ تأكيداً . قال ابن عطية : وهذا تسامح ، والعرف في دلالة هذين اللفظين يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب . فإن جعل أحدهما بدل الآخر فتجوّز انتهى . وقال ابن عباس : البر ما ائتمرت به ، والتقوى ما نهيت عنه . وقال سهل : البر الإيمان ، والتقوى السنة . يعني : اتباع السنة . { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } الإثم : المعاصي ، والعدوان : التعدي في حدود الله قاله عطاء . وقيل : الإثم الكفر ، والعصيان والعدوان البدعة . وقيل : الإثم الحكم اللاحق للجرائم ، والعدوان ظلم الناس قاله : ابن عطية . وقال الزمخشري : الإثم والعدوان الانتقام والتشفي قال : ويجوز أن يراد العموم لكل إثم وعدوان . { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } أمر بالتقوى مطلقة ، وإن كان قد أمر بها في التعاون تأكيداً لأمرها ، ثم علل ذلك بأنه شديد العقاب . فيجب أن يتقى وشدّة عقابه بكونه لا يطيقه أحد ولاستمراره ، فإن غالب الدنيا منقض . وقال مجاهد : نزلت نهياً عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، ولقد قيل : ذلك حليف لأبي سفيان من هذيل . { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به } تقدم مثل هذه الجملة في البقرة . وقال هنا ابن عطية : ولحم الخنزير مقتض لشحمه بإجماع انتهى . وليس كذلك ، فقد خالف فيه داود وغيره ، وتكلمنا على ذلك في البقرة ، وتأخر هنا به وتقدم هناك تفنناً في الكلام واتساعاً ، ولكون الجلالة وقعت هناك فصلاً أولاً كالفصل ، وهنا جاءت معطوفات بعدها ، فليست فصلاً ولا كالفصل ، وما جاء كذلك يقتضي في أكثر المواضع المد . { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع } تقدم شرح هذه الألفاظ في المفردات . قال ابن عباس وقتادة : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها ، فإذا ماتت أكلوها . وقال أبو عبد الله : ليس الموقوذة إلا في ملك ، وليس في صيد وقيذ . وقال مالك وغيره من الفقهاء في : الصيد ما حكمه حكم الوقيذ ، وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم في المعراض : " وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ " وقال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك : النطيحة الشاة تنطحها أخرى فيموتان ، أو الشاة تنطحها البقر والغنم . وقال قوم : النطيحة المناطحة ، لأن الشاتين قد يتناطحان فيموتان . قال ابن عطية : كل ما مات ضغطاً فهو نطيح . وقرأ عبد الله وأبو ميسرة : والمنطوحة والمعنى في قوله وما أكل السبع : ما افترسه فأكل منه . ولا يحمل على ظاهره ، لأن ما فرض أنه أكله السبع لا وجود له فيحرم أكله ، ولذلك قال الزمخشري : وما أكل السبع بعضه ، وهذه كلها كان أهل الجاهلية يأكلونها . وقرأ الحسن والفياض ، وطلحة بن سلمان ، وأبو حيوة : السبع بسكون الباء ، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور ، ورويت عن أبي عمرو . وقرأ عبد الله : وأكيلة السبع . وقرأ ابن عباس : وأكيل السبع وهما بمعنى مأكول السبع ، وذكر هذه المحرمات هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله : { إلا ما يتلى عليكم } وبهذا صار المستثنى منه والمستثنى معلومين . { إلا ما ذكيتم } قال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابراهيم ، وطاووس ، وعبيد بن عمير ، والضحاك ، وابن زيد ، والجمهور : هو راجع إلى المذكورات أي من قوله : والمنخنقة إلى وما أكل السبع . فما أدرك منها بطرف بعض ، أو بضرب برجل ، أو يحرك ذنباً . وبالجملة ما تيقنت فيه حياة ذكي وأكل . وقال بهذا مالك في قول ، والمشهور عنه وعن أصحابه المدنيين : أنّ الذكاة في هذه المذكورات هي ما لم ينفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ، ومتى صارت إلى ذلك كانت في حكم الميتة . وعلى هذين القولين فالاستثناء متصل ، لكنه خلاف في الحال التي يؤثر فيها الذكاة في المذكورات . وكان الزمخشري مال إلى مشهور قول مالك فإنه قال : إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب وداجه . وقيل : الاستثناء متصل عائد إلى أقرب مذكور وهو ما أكل السبع ومختص به ، والمعنى : إلا ما أدركتم فيه حياة مما أكل السبع فذكيتموه ، فإنه حلال . وقيل : هو استثناء منقطع والتقدير : لكنْ ما ذكيتم من غير هذه فكلوه . وكان هذا القائل رأى أنّ هذه الأوصاف وجدت فيما مات بشيء منها ، إما بالخنق ، وإما بالوقذ ، أو التردي ، أو النطح ، أو افتراس السبع ، ووصلت إلى حد لا تعيش فيه بسب بوصف من هذه الأوصاف على مذهب من اعتبر ذلك ، فلذلك كان الاستثناء منقطعاً . والظاهر أنه استثناء متصل ، وإنما نص على هذه الخمسة وإن كان في حكم الميتة ، ولم يكتف بذكر الميتة لأن العرب كانت تعتقد أنّ هذه الحوادث على المأكول كالذكاة ، وأن الميتة ما ماتت بوجع دون سبب يعرف من هذه الأسباب . وظاهر قوله : إلا ما ذكيتم ، يقتضي أنّ ما لا يدرك لا يجوز أكله كالجنين إذا خرج من بطن أمه المذبوحة ميتاً ، إذا كان استثناء منقطعاً فيندرج في عموم الميتة ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وذهب الجمهور إلى جواز أكله . والحديث الذي استنبطوا منه الجواز حجة لأبي حنيفة لا لهم . وهو " إذكاة الجنين ذكاة أمه " المعنى على التشبيه أي ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه كما ذكاتها الذبح فكذلك ذكاته الذبح ولو كان كما زعموا لكان التركيب ذكاة أم الجنين ذكاته . { وما ذبح على النصب } قال مجاهد وقتادة وغيرهما : هي حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها . قال ابن عباس : ويحلون عليها . قال ابن جريج : وليست بأصنام ، الصنم مصور ، وكانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة ، فلما جاء الإسلام قال المسلمون : نحن أحق أنْ نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكره ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت . وما ذبح على النصب ونزل لن ينال الله لحومها ولا دماؤها انتهى . وكانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ، ويحلون عليها أنصاب مكة ، ومنها الحجر المسمى بسعد . قال ابن زيد : ما ذبح على النصب ، وما أهل به لغير الله شيء واحد . وقال ابن عطية : ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله ، لكنْ خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له . وقد يقال للصنم أيضاً : نصب ، لأنه ينصب انتهى . وقرأ الجمهور : النُصُب بضمتين . وقرأ طلحة بن مصرف : بضم النون ، وإسكان الصاد . وقرأ عيسى بن عمر : بفتحتين ، وروي عنه كالجمهور . وقرأ الحسن : بفتح النون ، وإسكان الصاد . { وأن تستقسموا بالأزلام } هذا معطوف على ما قبله أي : وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وهو طلب معرفة القسم ، وهو النصيب أو القسم ، وهو المصدر . قال ابن جريج : معناه أن تطلبوا على ما قسم لكم بالأزلام ، أو ما لم يقسم لكم انتهى . وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها . وروي عنه أيضاً : أنها سهام العرب ، وكعاب فارس ، وقال سفيان ووكيع : هي الشطرنج . وقيل : الأزلام حصى كانوا يضربون بها ، وهي التي أشار إليها الشاعر بقوله : @ لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع @@ وروي هذا عن ابن جبير قالوا : وأزلام العرب ثلاثة أنواع : أحدها : الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه في أحدها افعل وفي الآخر لا تفعل والثالث غفل فيجعلها في خريطة ، فإذا أراد فعل شيء دخل يده في الخريطة منسابة ، وائتمر بما خرج له من الآمر أو الناهي . وإن خرج الغفل أعاد الضرب . والثاني : سبعة قداح كانت عندها في جوف الكعبة ، في أحدها العقل في أمر الديات من يحمله منهم فيضرب بالسبعة ، فمن خرج عليه قدح العقل لزمه العقل ، وفي آخر تصح ، وفي آخر لا ، فإذا أرادوا أمراً ضرب فيتبع ما يخرج ، وفي آخر منكم ، وفي آخر من غيركم ، وفي آخر ملصق ، فإذا اختلفوا في إنسان أهو منهم أمْ من غيرهم ضربوا فاتبعوا ما خرج ، وفي سائرها لأحكام المياه إذا أرادوا أن يحفروا لطلب المياه ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك القداح ، فحيث ما خرج عملوا به . وهذه السبعة أيضاً متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على ما كانت في الكعبة عند هبل . والثالث : قداح الميسر وهي عشرة ، وتقدم شرح الميسر في سورة البقرة . { ذلكم فسق } الظاهر أنّ الإشارة إلى الاستقسام خاصة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال الزمخشري : إشارة إلى الاستقسام ، وإلى تناول ما حرم عليهم ، لأن المعنى : حرم عليهم تناول الميتة وكذا وكذا . ( فإن قلت ) : لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام ليعرف الحال فسقاً ؟ ( قلت ) : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب ، وقال : { لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } [ النمل : 65 ] واعتقاد أن إليه طريقاً وإلى استنباطه . وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله تعالى ، وما يبديه أنه أمره أو نهاه الكهنة والمنجمون بهذه المثابة ، وإن كان أراد بالرب الصنم . فقد روي أنهم كانوا يحلون بها عند أصنامهم ، وأمره ظاهر انتهى . قال الزمخشري في اسم الإشارة رواه عن ابن عباس عليّ بن أبي طلحة ، وهو قول ابن جبير . قال الطبري : ونهى الله عن هذه الأمور التي يتعاطاها الكهان والمنجمون ، لما يتعلق بها من الكلام في المغيبات . وقال غيره : العلة في تحريم الاستقسام بالأزلام كونها يؤكل بها المال بالباطل ، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً أو ينكحوا أو يدفنوا ميتاً أو شكوا في نسب ، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور ، فالمائة للضارب بالقداح ، والجزور ينحر ويؤكل ، ويسمون صاحبهم ويقولون لهبل : يا إلهنا هذا فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه ، ويضرب صاحب القداح فما خرج عمل به ، فإن خرج لا أخروه عامهم حتى يأتوا به مرة أخرى ، ينتهون في كل أمورهم إلى ما خرجت به القداح . { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } الألف واللام فيه للعهد وهو يوم عرفة قاله : مجاهد ، وابن زيد . وهو يوم نزولها بعد العصر في حجة الوداع يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف على ناقته ، وليس في الموقف مشرك . وقيل : اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع . وقيل : سنة ثمان ، ونادى مناديه بالأمان لمن لفظ بشهادة الإسلام ، ولمن وضع السلاح ، ولمن أغلق بابه . وقال الزجاح : لم يرد يوماً بعين ، وإنما المعنى : الآن يئسوا ، كما تقول : أنا اليوم قد كبرت انتهى . واتبع الزمخشري الزجاج فقال : اليوم لم يرد به يوماً بعينه ، وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية ، كقولك : كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب ، فلا يريد بالأمس الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك . ونحوه الآن في قوله : @ الآن لما ابيض مسربتي وعضضت من نابي على جدم @@ انتهى . والذين كفروا : مشركو العرب . قال ابن عباس ، والسدي ، وعطاء : أيسوا من أن ترجعوا إلى دينهم . وقال ابن عطية : ظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وظهور دينه ، يقتضي أن يئس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان ، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه ، لأنّ هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار . ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون فظنها هزيمة . ألا بطل السحر اليوم . وقال الزمخشري : يئسوا منه أن يبطلوه وأن يرجعوا محللين لهذه الخبائث بعدما حرمت عليكم . وقيل : يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأنّ الله وفى بوعده من إظهاره على الدين كله انتهى . وقرأ أبو جعفر : ييس من غير همز ، ورويت عن أبي عمرو . { فلا تخشوهم فاخشون } قال ابن جبير : فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم . وقال ابن السائب : فلا تخشوهم أن يظهروا على دينكم . وقيل : فلا تخشوا عاقبتهم . والظاهر أنه نهى عن خشيتهم إياهم ، وأنهم لا يخشون إلا الله تعالى . { اليوم أكملت لكم دينكم } يحتمل اليوم المعاني التي قيلت في قوله : اليوم يئس . قال الجمهور : وإكماله هو إظهاره ، واستيعاب عظم فرائضه ، وتحليله وتحريمه . قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآيات الربا ، وآية الكلالة ، وغير ذلك ، وإنما كمل معظم الدين ، وأمر الحج ، إنْ حجوا وليس معهم مشرك . وخطب الزمخشري في هذا المعنى فقال : كفيتكم أمر عدوكم ، وجعلت اليد العليا لكم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد إذا كفوا من ينازعهم الملك ، ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم . أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه من تعليم الحلال والحرام ، والتوقيف على الشرائع ، وقوانين القياس ، وأصول الاجتهاد انتهى . وهذا القول الثاني هو : قول ابن عباس والسدي قالا : اكمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم ، فعلى هذا يكون المعنى : أكملت لكم شرائع دينكم . وقال قتادة وابن جبير : كما له أن ينفي المشركين عن البيت ، فلم يحج مشرك . وقال الشعبي : كمال الدين هو عزه وظهوره ، وذل الشرك ودروسه ، لا تكامل الفرائض والسنن ، لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض . وقيل : إكماله إلا من من نسخه بعده كما نسخ به ما تقدّم . وقال القفال : الدين ما كان ناقصاً البتة ، بل كانت الشرائع تنزل في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلا أنه تعالى كان عالماً في أول المبعث بأنّ ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ، وكان ينسخ بعد الثبوت ويزيد بعد العدم ، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة ، وأحكم ثباتها إلى يوم القيامة . وروي أن هذه الآية لما نزلت يوم الحج الأكبر ، وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر بن الخطاب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : صدقتَ " { وأتممت عليكم نعمتي } أي في ظهور الإسلام ، وكمال الدين ، وسعة الأحوال ، وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية ، إلى دخول الجنة ، والخلود ، وحسَّن العبارة الزمخشري فقال : بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وإن لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان انتهى . فكلامه مجموع أقوال المتقدّمين . قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة : إتمام النعمة منع المشركين من الحج . وقال السدي : هو الإظهار على العدو . وقال ابن زيد : بالهداية إلى الإسلام . وقال الزمخشري : وأتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال : وأتممت عليكم نعمتي بذلك ، لأنه لا نعمة من نعمة الإسلام . { ورضيت لكم الإسلام ديناً } يعني : اخترته لكم من بين الأديان ، وأذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } [ آل عمران : 85 ] { إن هذه أمتكم أمة واحدة } [ الأنبياء : 92 ] قاله الزمخشري . وقال ابن عطية الرضا في : هذا الموضع يحتمل أن يكون بمعنى الإرادة ، ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه ، لأنّ الرضا من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال ، والله تعالى قد رضي الإسلام وأراده لنا ، وثم أشياء يريد الله وقوعها ولا يرضاها . والإسلام هنا هو الدين في قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } انتهى وكلامه يدل على أنّ الرضا إذا كان من صفات الذات فهو صفة تغاير الإرادة . وقيل : المعنى أعلمتكم برضائي به لكم ديناً ، فإنه تعالى لم يزل راضياً بالإسلام لنا ديناً ، فلا يكون الاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إنْ حمل على ظاهره . وقيل : رضيت عنكم إذا تعبدتم لي بالدين الذي شرعته لكم . وقيل : رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم ديناً كاملاً إلى آخر الأبد لا ينسخ منه شيء . { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } هذا متصل بذكر المحرمات وذلكم فسق أكده به وبما بعده يعني التحريم ، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعم التامة ، والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملك . وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة . وقراءة ابن محيصن : فمن اطرّ بإدغام الضاد في الطاء . ومعنى متجانف : منحرف ومائل . وقرأ الجمهور : متجانف بالألف . وقرأ أبو عبد الرحمن ، والنخعي وابن وثاب : متجنف دون ألف . قال ابن عطية وهو أبلغ في المعنى من متجانف ، وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه . ألا ترى أنك إذا قلت : تمايل الغصن ، فإنّ ذلك يقتضي تأوّداً ومقاربة ميل ، وإذا قلت : تميل ، فقد ثبت الميل . وكذلك تصاون الرجل وتصوّن وتغافل وتغفل انتهى . والإثم هنا قيل : أنْ يأكل فوق الشبع . وقيل : العصيان بالسفر . وقيل : الإثم هنا الحرام ، ومن ذلك قول عمر : ما تجأنفنا فيه لإثم ، ولا تعهدنا ونحن نعلمه . أي : ما ملنا فيه لحرام .