Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 7-11)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا } الخطاب للمؤمنين ، والنعمة هنا الإسلام ، وما صاروا إليه من اجتماع الكلمة والعزة . والميثاق : هو ما أخذه الرسول عليهم في بيعة العقبة وبيعة الرضوان ، وكل موطن قاله : ابن عباس ، والسدي ، وجماعة . وقال مجاهد : هو ما أخذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم . وقيل : هو الميثاق المأخوذ عليهم حين بايعهم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر ، والمنشط والمكره . وقيل : الميثاق هو الدلائل التي نصبها لأعينهم وركبها في عقولهم ، والمعجزات التي أظهرها في أيامهم حتى سمعوا وأطاعوا . وقيل : الميثاق إقرار كل مؤمن بما ائتمر به . وروي عن ابن عباس : أنه الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل حين قالوا : آمنا بالتوراة وبكل ما فيها ، ومن جملته البشارة بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فلزمهم الإقرار به . ولا يتأتى هذا القول إلا أن يكون الخطاب لليهود ، وفيه بعد . والقولان بعده يكون الميثاق فيهما مجاز ، والأجود حمله على ميثاق البيعة ، إذ هو حقيقة فيه ، وفي قوله : إذا قلتم سمعنا وأطعنا . { واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور } أي : واتقوا الله ولا تتناسوا نعمته ، ولا تنقضوا ميثاقه . وتقدم شرح شبه هذه الجملة في النساء فأغنى عن إعادته . { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا } تقدم تفسير مثل هذه الجملة الأولى في النساء ، إلا أنّ هناك بدىء بالقسط ، وهنا أخر . وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة . ويلزم مَن كان قائماً لله أن يكون شاهداً بالقسط ، ومن كان قائماً بالقسط أن يكون قائماً لله ، إلا أنَّ التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين ، فبدىء فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة ، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والإحن ، فبدىء فيها بالقيام لله تعالى أولاً لأنه أردع للمؤمنين ، ثم أردف بالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيه بما هو آكد وهو القسط ، وفي معرض العداوة والشنآن بدىء فيها بالقيام لله ، فناسب كل معرض بما جيء به إليه . وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا } [ النساء : 129 ] وقوله : { فلا جناح عليهما أن يصالحا } [ النساء : 128 ] فناسب ذكر تقديم القسط ، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط ، وتعدية يجرمنكم بعلى إلا أن يضمن معنى ما يتعدى بها ، وهو خلاف الأصل . { اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي : العدل نهاهم أولاً أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانياً تأكيداً ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله : هو أقرب للتقوى ، أي : أدخل في مناسبتها ، أو أقرب لكونه لطفاً فيها . وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين في العدل ، إذ كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين . { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } لما كان الشنآن محله القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى ، وأتى بصفة خبير ومعناها عليم ، ولكنها تختص بما لطف إدراكه ، فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية . { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم } لما ذكر تعالى أوامر ونواهي ذكر وعده من اتبع أوامره واجتنب نواهيه ، ووعد تتعدى لأنين ، والثاني محذوف تقديره : الجنة ، وقد صرح بها في غير هذا الموضع . والجملة من قوله : لهم مغفرة ، مفسرة لذلك المحذوف تفسير السبب للمسبب ، لأن الجنة مترتبة على الغفران وحصول الأجر . وإذا كانت الجملة مفسرة فلا موضع لها من الإعراب ، والكلام قبلها تامْ وجعل الزمخشري قوله : لهم مغفرة وأجر عظيم ، بياناً للوعد قال : كأنه قال : قدم لهم وعداً فقيل : أي شيء وعده ؟ فقال لهم : مغفرة وأجر عظيم . أو يكون على إرادة القول وعدهم وقال لهم : مغفرة ، أو على إجراء وعد مجرى قال : لأنه ضرب من القول ، أو يجعل وعد واقعاً على الجملة التي هي مغفرة ، كما رفع تركنا على قوله : { سلام على نوح في العالمين } [ الصافات : 79 ] كأنه قيل : وعدهم هذا القول ، وإذا وعدهم مَن لا يخلف الميعاد فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم ، وهذا القول يتلقونه عند الموت ويوم القيامة ، فيسرون ويستريحون إليه ، وتهون عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى التراب انتهى . وهي تقادير محتملة ، والأول أوجهها . { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } لما ذكر ما لمن آمن ، ذكر ما لمن كفر . وفي المؤمنين جاءت الجملة فعلية متضمنة الوعد بالماضي الذي هو دليل على الوقوع ، فأنفسهم متشوقة لما وعدوا به ، متشوفة إلفيه مبتهجة طول الحياة بهذا الوعد الصادق . وفي الكافرين جاءت الجملة إسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم ، وأنهم أصحاب النار ، فهم دائمون في عذابٍ ، إذْ حتم لهم أنهم أصحاب الجحيم ، ولم يأت بصورة الوعيد ، فكان يكون الرجاء لهم في ذلك . { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } روى أبو صالح عن ابن عباس : أنها نزلت من أجل كفار قريش ، وقد تقدم ذكرهم في قوله : { لا يجرمنكم شنآن قوم } [ المائدة : 8 ] وبه قال مقاتل ، وقال الحسن : بعثت قريش رجلاً ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأطلعه الله على ذلك . وقال مجاهد وقتادة : إنه عليه السلام ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في دية فهموا بقتله . وقال جماعة من المفسرين : أتى بني قريظة ومعه أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ حسبهما مشركين ، فقالوا : نعم يا أبا القاسم اجلسْ حتى نطعمك ونقرضك ، فأجلسوه في صفة وهموا بالقتل به ، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه ، فأمسك الله يده ، ونزل جبريل عليه السلام فأخبره فخرج . وقيل : نزل منزلاً في غزوة ذات الرقاع بني محارب بن حفصة بن قيس بن غيلان ، وتفرق الناس في العضاة يستظلون بها ، فعلق الرسول سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابي فسلّ سيف الرسول صلى الله عليه وسلم واسمه غورث ، وقيل : دعثور بن الحرث ، ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك مني ؟ قال : » الله قالها ثلاثاً « وقال : أتخافني ؟ قال : لا ، فشام السيف وحبس . وفي البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه . قيل : أسلم . وقيل : ضرب برأسه ساق الشجرة حتى مات . وروي أن المشركين رأوا المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معاً بعسفان في غزوة ذي انمار ، فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا : إن لهم صلاة بعدها هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ، وهي صلاة العصر ، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها ، فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف . وقد طوّلوا بذكر أسباب أخر . وملخص ما ذكروه أنّ قريشاً ، أو بني النضير ، أو قريظة ، أو غورثا ، هموا بالقتل بالرسول ، أو المشركين هموا بالقتل بالمسلمين ، أو نزلت في معنى { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } [ المائدة : 3 ] قاله الزجاج ، أو عقيب الخندق حين هزم الله الأحزاب { وكفى الله المؤمنين القتال } [ الأحزاب : 25 ] والذي تقتضيه الآية أنّ الله تعالى ذكر المؤمنين بنعمه إذ أراد قوم من الكفار لم يعينهم الله بل أبهمهم أن ينالوا المسلمين بشر ، فمنعهم الله ، ثم أمرهم بالتقوى والتوكل عليه . ويقال : بسط إليه لسانه أي شتمه ، وبسط إليه يده مدها ليبطش به . وقال تعالى : { ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } [ الممتحنة : 2 ] ويقال : فلان بسيط الباع ، ومد يد الباع ، بمعنى . وكف الأيدي منعها وحبسها . وجاء الأمر بالتقوى أمر مواجهة مناسباً لقوله اذكروا . وجاء الأمر بالتوكل أمر غائب لأجل الفاصلة ، وإشعاراً بالغلبة ، وإفادة لعموم وصف الإيمان ، أي : لأجل تصديقه بالله ورسوله يؤمر بالتوكل كل مؤمن ، ولابتداء الآية بمؤمنين على جهة الاختصاص وختمها بمؤمنين على جهة التقريب .