Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 21-25)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما ذكر تعالى ما في الآخرة من المغفرة ، أمر بالمسابقة إليها ، والمعنى : سابقوا إلى سبب مغفرة ، وهو الإيمان وعمل الطاعات . وقد مثل بعضهم المسابقة في أنواع ؛ فقال عبد الله : كونوا في أول صف في القتال . وقال أنس : اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام . وقال علي : كن أول داخل في المسجد وآخر خارج . واستدل بهذا السبق على أن أول أوقات الصلوات أفضل ، وجاء لفظ سابقوا كأنهم في مضمار يجرون إلى غاية مسابقين إليهم . { عرضها } : أي مساحتها في السعة ، كما قال : { فذو دعاء عريض } [ فصلت : 51 ] ، أو العرض خلاف الطول . فإذا وصف العرض بالبسطة ، عرف أن الطول أبسط وأمد . { أعدّت } : يدل على أنها مخلوقة ، وتكرر ذلك في القرآن يقوي ذلك ، والسنة ناصة على ذلك ، وذلك يرد على المعتزلة في قولهم : إنها الآن غير مخلوقة وستخلق . { ذلك } : أي الموعود من المغفرة والجنة ، { فضل الله } : عطاؤه ، { يؤتيه من يشاء } : وهم المؤمنون . { ما أصاب من مصيبة } : أي مصيبة ، وذكر فعلها ، وهو جائز التذكير والتأنيث ، ومن التأنيث { ما تسبق من أمة أجلها } [ الحجر : 5 ، المؤمنون : 43 ] ولفظ مصيبة يدل على الشر ، لأن عرفها ذلك . قال ابن عباس ما معناه : أنه أراد عرف المصيبة ، وهو استعمالها في الشر ، وخصصها بالذكر لأنها أهم على البشر . والمصيبة في الأرض مثل القحط والزلزلة وعاهة الزرع ، وفي الأنفس : الأسقام والموت . وقيل : المراد بالمصيبة الحوادث كلها من خير وشر ، { إلا في كتاب } : هو اللوح المحفوظ ، أي مكتوبة فيه ، { من قبل أن نبرأها } : أي نخلقها . برأ : خلق ، والضمير في نبرأها الظاهر أنه يعود على المصيبة ، لأنها هي المحدث عنها ، وذكر الأرض والأنفس هو على سبيل محل المصيبة . وقيل : يعود على الأرض . وقيل : على الأنفس ، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة . وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر . قال ابن عطية : وهي كلها معارف صحاح ، لأن الكتاب السابق أزليّ قبل هذه كلها . انتهى . { إن ذلك } : أي يحصل كل ما ذكر في كتاب وتقديره ، { على الله يسير } : أي سهل ، وإن كان عسيراً على العباد . ثم بين تعالى الحكمة في إعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير ذلك ، وسبق قضائه به فقال : { لكيلا تأسوا } : أي تحزنوا ، { على ما فاتكم } ، لأن العبد إن أعلم ذلك سلم ، وعلم أن ما فاته لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه ، فلذلك لا يحزن على فائت ، لأنه ليس بصدد أن يفوته ، فهون عليه أمر حوادث الدنيا بذلك ، إذ قد وطن نفسه على هذه العقيدة . ويظهر أن المراد بقوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } [ آل عمران : 153 ] : أن يلحق الحزن الشديد على ما فات من الخير ، فيحدث عنه التسخط وعدم الرضا بالمقدور . { ولا تفرحوا بما آتاكم } : أن يفرح الفرح المؤدي إلى البطر المنهي عنه في قوله تعالى : { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } [ القصص : 76 ] فإن الحزن قد ينشأ عنه البطر ، ولذلك ختم بقوله : { والله لا يحب كل مختال فخور } . فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يلحقه في نفسه الخيلاء والافتخار والتكبر على الناس ، فمثل هذا هو المنهي عنه . وأما الحزن على ما فات من طاعة الله ، والفرح بنعم الله والشكر عليها والتواضع ، فهو مندوب إليه . وقال ابن عباس : ليس أحد إلا يحزن ويفرح ، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبراً ، ومن أصاب خيراً جعله شكراً . انتهى ، يعني هو المحمود . وقال الزمخشري : فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح . قلت : المراد : الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر ، والتسليم لأمر الله تعالى ، ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغي الملهي عن الشكر . فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر ، فلا بأس به . انتهى . وقرأ الجمهور : بما آتاكم : أي أعطاكم ؛ وعبد الله : أوتيتم ، مبنياً للمفعول : أي أعطيتم ؛ وأبو عمرو : أتاكم : أي جاءكم . { الذين يبخلون } : أي هم الذين يبخلون ، أو يكون الذين مبتدأ محذوف الخبر على جهة الإبهام تقديره : مذمومون ، أو موعودون بالعذاب ، أو مستغنى عنهم ، أو على إضمار ، أعني فهو في موضع نصب ، أو في موضع نصب صفة لكل مختال ، وإن كان نكرة ، فهو مخصص نوعاً مّا ، فيسوغ لذلك وصفة بالمعرفة . قال ابن عطية : هذا مذهب الأخفش . انتهى . عظمت الدنيا في أعينهم ، فبخلوا أن يؤدوا منها حقوق الله تعالى ، وما كفاهم ذلك حتى أمروا الناس بالبخل ورغبوهم في الإمساك ، والظاهر أنهم أمروا الناس حقيقة . وقيل : كانوا قدوة فيه ، فكأنهم يأمرون به . { ومن يتول } عن ما أمر الله به . وقرأ الجمهور : { فإن الله هو } ؛ وقرأ نافع وابن عامر : بإسقاط هو ، وكذا في مصاحف المدينة والشام ، وكلتا القراءتين متواترة . فمن أثبت هو ، فقال أبو علي الفارسي : يحسن أن يكون فصلاً ، قال : ولا يحسن أن يكون ابتداء ، لأن حذف الابتداء غير سائغ . انتهى . يعني أنه في القراءة الأخرى حذف ، ولو كان مبتدأ لم يجز حذفه ، لأنك إذا قلت : إن زيداً هو الفاضل ، فأعربت هو مبتدأ ، لم يجز حذفه ، لأن ما بعده من قولك الفاضل صالح أن يكون خبراً لأن ، فلا يبقى دليل على حذف هو الرابط . ونظيره : { الذين هم يراءون } [ الماعون : 6 ] لا يجوز حذف هم ، لأن ما بعده يصلح أن يكون صلة ، فلا يبقى دليل على المحذوف . وما ذهب إليه أبو علي ليس بشيء ، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وتركيب إحداهما على الأخرى ، وليس كذلك . ألا ترى أنه يكون قراءتان في لفظ واحد ، ولكل منهما توجيه يخالف الآخر ، كقراءة من قرأ : { والله أعلم بما وضعت } [ آل عمران : 36 ] بضم التاء ، والقراءة الأخرى : { بما وضعت } بتاء التأنيث فضم التاء يقتضي أن الجملة من كلام أم مريم ، وتاء التأنيث تقتضي أنها من كلام الله تعالى ، وهذا كثير في القراءات المتواترة . فكذلك هذا يجوز أن يكون هو مبتدأ في قراءة من أثبته ، وإن كان لم يرد في القراءة الأخرى ، ولكل من التركيبين في الإعراب حكم يخصه . { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } : الظاهر أن الرسل هنا هم من بني آدم ، والبينات : الحجج والمعجزات . { وأنزلنا معهم الكتاب } : الكتاب اسم جنس ، ومعهم حال مقدرة ، أي وأنزلنا الكتاب صائراً معهم ، أي مقدراً صحبته لهم ، لأن الرسل منزلين هم والكتاب . ولما أشكل لفظ معهم على الزمخشري ، فسر الرسل بغير ما فسرناه ، فقال : { لقد أرسلنا رسلنا } ، يعنى : الملائكة ، إلى الأنبياء بالحجج والمعجزات ، { وأنزلنا معهم الكتاب } : أي الوحي ، { والميزان } . وروي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان ، فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به . { وأنزلنا الحديد } ، قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة . وروي : ومعه المسن والمسحاة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ، أنزل الحديد والنار والماء والملح . انتهى . وأكثر المتأولين على أن المراد بالميزان : العدل ، فقال ابن زيد وغيره : أراد بالموازين : المعرفة بين الناس ، وهذا جزء من العدل . { ليقوم الناس بالقسط } : الظاهر أنه علة لإنزال الميزان فقط ، ويجوز أن يكون علة لإنزال الكتاب والميزان معاً ، لأن القسط هو العدل في جميع الأشياء من سائر التكاليف ، فإنه لا جور في شيء منها ، ولذلك جاء : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] . { وأنزلنا الحديد } : عبر عن إيجاده بالإنزال ، كما قال : { وأنزل لكم من الأنعام } [ الزمر : 6 ] وأيضاً فإن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تلقى من السماء ، جعل الكل نزولاً منها ، قاله ابن عطية . وقال الجمهور : أراد بالحديد جنسه من المعادن . وقال ابن عباس : نزل آدم من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة . { فيه بأس شديد } : أي السلاح الذي يباشر به القتال ، { ومنافع للناس } : في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم ؛ فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها . { وليعلم الله } علة لإنزال الكتاب والميزان والحديد . { من ينصره ورسله } بالحجج والبراهين المنتزعة من الكتاب المنزل ، وبإقامة العدل ، وبما يعمل من آلة الحرب للجهاد في سبيل الله . قال ابن عطية : أي ليعلمه موجوداً ، فالتغير ليس في علم الله ، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود . وقوله : { بالغيب } معناه : بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه ، فآمن بها لقيام الأدلة عليها . ولما قال تعالى : { من ينصره ورسله } ، ذكر تعالى أنه غني عن نصرته بقدرته وعزته ، وأنه إنما كلفهم الجهاد لمنفعة أنفسهم ، وتحصيل ما يترتب لهم من الثواب . وقال ابن عطية : ويترتب معنى الآية بأن الله تعالى أخبر بأنه أرسل رسله ، وأنزل كتباً وعدلاً مشروعاً ، وسلاحاً يحارب به من عاند ولم يهتد بهدي الله ، فلم يبق عذر . وفي الآية ، على هذا التأويل ، حث على القتال .