Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 60, Ayat: 10-13)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كان صلح الحديبية قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يرد إليهم ، ومن أتى المسلمين من أهل مكة رد إليهم ، فجاءت أم كلثوم ، وهي بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أول امرأة هاجرت بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية ، فخرج في أثرها أخواها عمارة والوليد ، فقالا : يا محمد أوف لنا بشرطنا ، فقالت : يا رسول الله حال النساء إلى الضعف ، كما قد علمت ، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي ، فنقض الله العهد في النساء ، وأنزل فيهن الآية ، وحكم بحكم رضوه كلهم . وقيل : سبب نزولها سبيعة بنت الحارث الأسلمية ، جاءت الحديبية مسلمة ، فأقبل زوجها مسافر المخدومي . وقيل : صيفي بن الراهب ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي ، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزلت بياناً أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء . وذكر أبو نعيم الأصبهاني أن سبب نزولها أميمة بنت بشر بن عمرو بن عوف ، امرأة حسان بن الدحداحة ، وسماهن تعالى مؤمنات قبل أن يمتحن ، وذلك لنطقهن بكلمة الشهادة ، ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان . وقرىء : مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات ، وامتحانهن ، قالت عائشة : بآية المبايعة . وقيل : بأن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وقال ابن عباس : بالحلف إنها ما خرجت إلا حباً لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام . وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة وعكرمة : كانت تستحلف أنها ما هاجرت لبغض في زوجها ، ولا لجريرة جرتها ، ولا لسبب من أغراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة . { الله أعلم بإيمانهن } : لأنه تعالى هو المطلع على أسرار القلوب ومخبآت العقائد ، { فإن علمتموهن } : أطلق العلم على الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات بالخروج من الوطن ، والحلول في قوم ليسوا من قومها ، وبين انتفاء رجعهن إلى الكفار أزواجهن ، وذلك هو التحريم بين المسلمة والكافر . وقرأ طلحة : لا هن يحلان لهم ، وانعقد التحريم بهذه الجملة ، وجاء قوله : { ولا هم يحلون لهن } على سبيل التأكيد وتشديد الحرمة ، لأنه إذا لم تحل المؤمنة للكافر ، علم أنه لا حل بينهما البتة . وقيل : أفاد قوله : { ولا هم يحلون لهن } استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل ، كما هو في الحال ما داموا على الإشراك وهن على الإيمان . { وآتوهم ما أنفقوا } : أمر أن يعطي الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت ، فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية . قال ابن عباس : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد إمتحانها زوجها الكافر ، ما أنفق عليها ، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وكان إذا امتحنهن ، أعطى أزواجهن مهورهن . وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما كان في نساء أهل العهد ، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين ، فلا يرد عليه الصداق ، والأمر كما قال قتادة ، ثم نفى الحرج في نكاح المؤمنين اياهن إذا آتوهن مهورهن ، ثم أمر تعالى المؤمنين بفراق نسائهن الكوافر عوابد الأوثان . وقرأ الجمهور : { تمسكوا } مضارع أمسك ، كأكرم ؛ وأبو عمرو ومجاهد : بخلاف عنه ؛ وابن جبير والحسن والأعرج : مضارع مسك مشدّداً ؛ والحسن أيضاً وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ : تمسكوا بفتح الثلاثة ، مضارع تمسك محذوف الثاني بتمسكوا ؛ والحسن أيضاً : تمسكوا بكسر السين ، مضارع مسك ثلاثياً . وقال الكرخي : { الكوافر } ، يشمل الرجال والنساء ، فقال له أبو علي الفارسي : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء ، جمع كافرة ، وقال : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة ؟ قال أبو علي : فبهت فقلت : هذا تأييد . انتهى . وهذا الكرخي معتزلي فقيه ، وأبو علي معتزلي ، فأعجبه هذا التخريج ، وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعاً لموصوفها ، أو يكون محذوفاً مراداً ، أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث . والعصم جمع عصمة ، وهي سبب البقاء في الزوجية . { واسألوا ما أنفقتم } : أي واسألوا الكافرين ما أنفقتم على أزواجكم إذا فروا إليهم ، { وليسـألوا } : أي الكفار ما أنفقوا على أزواجهم إذ فروا إلى المؤمنين . ولما تقرر هذا الحكم ، قالت قريش ، فيما روي : لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقاً ، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى : { وإن فاتكم } ، فأمر تعالى المؤمنين أن يدفعوا من فرت زوجته من المسلمين ، ففاتت بنفسها إلى الكفار وانقلبت من الإسلام ، ما كان مهرها . قال الزمخشري : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضوع فائدة ؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه أن لا يغادر شيء من هذا الجنس ، وإن قل وحقر ، غير معوض منه تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه . انتهى . واللاتي ارتددن من نساء المهاجرين ولحقن بالكفار : أم الحكم بنت أبي سفيان ، زوج عياض بن شداد الفهري ؛ وأخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية ، زوج عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ؛ وعبدة بنت عبد العزى ، زوج هشام بن العاصي ؛ وأم كلثوم بنت جرول ، زوج عمر أيضاً . وذكر الزمخشري أنهن ست ، فذكر : أم الحكم ، وفاطمة بنت أبي أمية زوج عمر بن الخطاب ، وعبدة وذكر أن زوجها عمرو بن ود ، وكلثوم ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاصي ، أعطى أزواجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مهورهن من الغنيمة . وقرأ الجمهور { فعاقبتم } بألف ؛ ومجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني : بشد القاف ؛ والنخعي والأعرج أيضاً وأبو حيوة أيضاً والزهري أيضاً وابن وثاب : بخلاف عنه بخف القاف مفتوحة ؛ ومسروق والنخعي أيضاً والزهري أيضاً : بكسرها ؛ ومجاهد أيضاً : فاعقبتم على وزن افعل ، يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ، ويقال : أعقب ، قال : @ وحادرت البلد الحلاد ولم يكن لعقبة قدر المستعيرين يعقب @@ وعقب : أصاب عقبى ، والتعقيب : غزو إثر غزو ، وعقب بفتح القاف وكسرها مخففاً . وقال الزمخشري : فعاقبتم من العقبة ، وهي النوبة . شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر . { فآتوا } من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة ، ولا يؤتوه زوجها الكافر ، وهكذا عن الزهري ، يعطي من صداق من لحق بهم . ومعنى أعقبتم : دخلتم في العقبة ، وعقبتم من عقبه إذا قفاه ، لأن كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم بالتخفيف ، يقال : عقبه يعقبه . انتهى . وقال الزجاج : فعاقبتم : قاضيتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، وفسر غيرها من القراءات : لكانت العقبى لكم : أي كانت الغلبة لكم حتى غنمتم والكفار من قوله : { إلى الكفار } ، ظاهره العموم في جميع الكفار ، قاله قتادة ومجاهد . قال قتادة : ثم نسخ هذا الحكم . وقال ابن عباس : يعطى من الغنيمة قبل أن تخمس . وقال الزهري : من مال الفيء ؛ وعنه : من صداق من لحق بنا . وقيل : الكفار مخصوص بأهل العهد . وقال الزهري : اقتطع هذا يوم الفتح . وقال الثوري : لا يعمل به اليوم . وقال مقاتل : كان في عهد الرسول فنسخ . وقال ابن عطية : هذه الآية كلها قد ارتفع حكمها . وقال أبو بكر بن العربي القاضي : كان هذا حكم الله مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة بإجماع الأمة . وقال القشيري : قال قوم هو ثابت الحكم إلى الآن . { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } : كانت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا ، بعدما فرغ من بيعة الرجال ، وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه ، وما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأة أجنبية قط . " وقالت أسماء بنت يزيد بن السكن : كنت في النسوة المبايعات ، فقلت : يا رسول الله ابسط يدك نبايعك ، فقال لي عليه الصلاة والسلام : « إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن » وكانت هند بنت عتبة في النساء ، فقرأ عليهن الآية . فلما قررهن على أن لا يشركن بالله شيئاً ، قالت هند : وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال ؟ تعني أن هذا بين لزومه . فلما وقف على السرقة قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان ، لا أدري أيحل لي ذلك ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما عبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها ، فقال لها : « وإنك لهند بنت عتبة » قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك . فقال : { ولا يزنين } ، فقالت : أوتزني الحرة ؟ قال : { ولا يقتلن أولادهن } ، فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر ، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى ، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { ولا يأتين ببهتان } ، فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ، ولا يأمر الله إلا بالرشد ومكارم الأخلاق . فقال : { ولا يعصينك في معروف } ، فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء " ومعنى قول هند : أو تزني الحرة أنه كان في قريش في الإماء غالباً ، وإلا فالبغايا ذوات الربات قد كن حرائر . وقرأعليّ والحسن والسلمي : ولا يقتلن مشدداً ، وقتلهن من أجل الفقر والفاقة ، وكانت العرب تفعل ذلك . والبهتان ، قال الأكثرون : أن تنسب إلى زوجها ولداً ليس منه ، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك . { بين أيديهن وأرجلهن } : لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين ، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين . وروى الضحاك : البهتان : العضة ، لأنها إذا قذفت المرأة غيرها ، فقد بهتت ما بين يدي المقذوفة ورجليها ، إذ نفت عنها ولداً قد ولدته ، أو ألحقت بها ولداً لم تلده . وقيل : البهتان : السحر . وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة ، وأرجلهن ؛ فروجهن . وقيل : بين أيديهن قبله أو جسة ، وأرجلهن الجماع . ومن البهتان الفرية بالقول على أحد من الناس ، والكذب فيما اؤتمنّ عليه من حمل وحيض ، والمعروف الذي نهى عن العصيان فيه ، قال ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم : هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر ، وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها . وروي أن قوماً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم ، فقيل لهم : لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم وعلى أنهم اليهود ، فسرهم الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد ، لأن غضب الله قد صار عرفاً لهم . وقال ابن عباس : كفار قريش ، لأن كل كافر عليه غضب من الله . وقيل : اليهود والنصارى . { قد يئسوا من الآخرة } ، قال ابن عباس : من خيرها وثوابها . والظاهر أن من في { من أصحاب القبور } لابتداء الغاية ، أي لقاء أصحاب القبور . فمن الثانية كالأولى من الآخرة . فالمعنى أنهم لا يلقونهم في دار الدنيا بعد موتهم . وقال ابن عرفة : هم الذين قالوا : ما يهلكنا إلا الدهر . انتهى . والكفار على هذا كفار مكة ، لأنهم إذا مات لهم حميم قالوا : هذا آخر العهد به ، لن يبعث أبداً ، وهذا تأويل ابن عباس وقتادة والحسن . وقيل : من لبيان الجنس ، أي الكفار الذين هم أصحاب القبور ، والمأيوس منه محذوف ، أي كما يئس الكفار المقبورون من رحمة الله ، لأنه إذا كان حياً لم يقبر ، كان يرجى له أن لا ييأس من رحمة الله ، إذ هو متوقع إيمانه ، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد . وقال ابن عطية : وبيان الجنس أظهر . انتهى . وقد ذكرنا أن الظاهر كون من لابتداء الغاية ، إذ لا يحتاج الكلام إلى تقدير محذوف . وقرأ ابن أبي الزناد : كما يئس الكافر على الإفراد . والجمهور : على الجمع . ولما فتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ، ختمها بمثل ذلك تأكيداً لترك موالاتهم وتنفير المسلمين عن توليهم وإلقاء المودّة إليهم .