Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 61, Ayat: 1-14)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
النداء بـ { يا أيها الذين آمنوا } ، إن كان للمؤمنين حقيقة ، فالاستفهام يراد به التلطف في العتب ، وإن كان للمنافقين ، فالمعنى { يا أيها الذين آمنوا } : أي بألسنتهم ، والاستفهام يراد به الإنكار والتوبيخ وتهكم بهم في إسناد الإيمان إليهم ، ولم يتعلق بالفعل وحده . ووقف عليه بالهاء أو بسكون الميم ، ومن سكن في الوقف فلإجرائه مجرى الوقف ، والظاهر انتصاب { مقتاً } على التمييز ، وفاعل { كبر } : أن { تقولوا } ، وهو من التمييز المنقول من الفاعل ، والتقدير : كبر مقت قولكم ما لا تفعلون . ويجوز أن يكون من باب نعم وبئس ، فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالتمييز ، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم ، أي بئس مقتاً قولكم كذا ، والخلاف الجاري في المرفوع في : بئس رجلاً زيد ، جار في { أن تقولوا } هنا ، ويجوز أن يكون في كبر ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله : { لم تقولون } ، أي كبر هو ، أي القول مقتاً ، ومثله { كبرت كلمة } [ الكهف : 5 ] ، أي ما أكبرها كلمة ، وأن تقولوا بدل من المضمر ، أو خبر ابتداء مضمر . وقيل : هو من أبنية التعجب ، أي ما أكبره مقتاً . وقال الزمخشري : قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله : @ غـلت نـاب كـليب بـواؤهـا @@ ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظرائه وأشكاله ، وأسند إلى { أن تقولوا } ونصب { مقتاً } على تفسيره ، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه ، واختير لفظ المقت لأنه أشدّ البغض ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كثيراً حتى جعل أشدّه وأفحشه ، وعند الله أبلغ من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته . انتهى . وقال ابن عطية : والمقت : البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت . انتهى . وقال المبرد : رجل ممقوت ومقيت ، إذا كان يبغضه كل أحد . انتهى . وقرأ زيد بن عليّ : يقاتلون بفتح التاء . وقيل : قرىء يقتلون ، وانتصب صفاً على الحال ، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين ، كأنهم فيء في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ، بنيان رص بعضه إلى بعض . والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص . وقيل : المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . قيل : وفيه دليل على فضل القتال راجلاً ، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة ؛ وصفاً وكأنهم ، قال الزمخشري : حالان متداخلان . وقال الحوفي : كأنهم في موضع النعت لصفاً . انتهى . ويجوز أن يكونا حالين من ضمير يقاتلون . ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل ، وهو راجع إلى الكذب ، فإن ذلك في معنى الإذاية للرسول عليه الصلاة والسلام ، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب ، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه : { لم تؤذونني } ، وإذايتهم له كان بانتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحاتهم عليه ما ليس لهم اقتراحه ، { وقد تعلمون } : جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه ، فرتبوا على علمهم أنه رسول الله ما لا يناسب العلم وهو الإذاية ، وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المضارع ، والمضارع هنا معناه المضي ، أي وقد علمتم ، كقوله : { قد يعلم ما أنتم عليه } [ النور : 64 ] أي قد علم ، { قد نرى تقلب } [ البقرة : 144 ] وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل ، { فلما زاغوا } عن الحق ، { أزاغ الله قلوبهم } . قال الزمخشري : بأن منع ألطافه ، { والله لا يهدي القوم الفاسقين } : لا يلطف بهم ، لأنهم ليسوا من أهل اللطف . وقال غيره : أسند الزيغ إليهم ، ثم قال : { أزاغ الله } كقوله تعالى : { نسوا الله فأنساهم أنفسهم } [ الحشر : 19 ] وهو من العقوبة على الذنب بالذنب ، بخلاف قوله : { ثم تاب عليهم ليتوبوا } [ التوبة : 118 ] . ولما ذكر شيئاً من قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل ، ذكر أيضاً شيئاً من قصة عيسى عليه السلام . وهناك قال : { يا قوم } لأنه من بني إسرائيل ، وهنا قال عيسى : { يا بني إسرائيل } من حيث لم يكن له فيهم أب ، وإن كانت أمه منهم . ومصدقاً ومبشراً : حالان ، والعامل رسول ، أي مرسل ، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من كتب الله الإلهية ، ولمن تأخر من النبي المذكور ، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته . " وروي أن الحواريين قالوا : يا رسول الله هل بعدنا من أمة ؟ قال : نعم ، أمة أحمد صلى الله عليه وسلم ، حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم بالقليل من العمل " وأحمد علم منقول من المضارع للمتكلم ، أو من أحمد أفعل التفضيل ، وقال حسان : @ صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد @@ وقال القشيري : بشر كل نبي قومه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، والله أفرد عيسى بالذكر في هذا الموضع لأنه آخر نبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، فبين أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام . والظاهر أن الضمير المرفوع في { جاءهم } يعود على عيسى لأنه المحدث عنه . وقيل : يعود على أحمد . لما فرغ من كلام عيسى ، تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك على سبيل الإخبار للمؤمنين ، أي فلما جاء المبشر به هؤلاء الكفار بالمعجزات الواضحة قالوا : { هذا سحر مبين } . وقرأ الجمهور : سحر ، أي ما جاء به من البينات . وقرأ عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب : ساحر ، أي هذا الحال ساحر . وقرأ الجمهور : يدعى مبنياً للمفعول ؛ وطلحة : يدعى مضارع ادعى مبنياً للفاعل ، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به ، لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدى بإلى . وقال الزمخشري : أيضاً ، وقرأ طلحة بن مصرف : وهو يدعى بشد الدال ، بمعنى يدعى دعاه وادعاه ، نحو لمسه والتمسه . { يريدون } الآية : تقدم تفسير نظيرها في سورة التوبة . وقال الزمخشري : أصله : { يريدون أن يطفئوا } [ التوبة : 32 ] كما جاء في سورة براءة ، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لأكرمك ، كما زيدت اللام في : لا أبا لك ، تأكيداً لمعنى الإضافة في : لا أبا لك . انتهى . وقال نحوه ابن عطية ، قال : واللام في قوله : { ليطفئوا } لام مؤكدة ، دخلت على المفعول لأن التقدير : يريدون أن يطفؤا ، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم ، تقول : لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصرت . انتهى . وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر ، بل الأكثر : زيداً ضربت ، من : لزيد ضربت . وأما قولهما إن اللام للتأكيد ، وأن التقدير أن يطفؤا ، فالإطفاء مفعول { يريدون } ، فليس بمذهب سيبويه والجمهور . وقال ابن عباس وابن زيد : هنا يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول . وقال السدي : يريدون دفع الإسلام بالكلام . وقال الضحاك : هلاك الرسول صلى الله عليه وسلم بالأراجيف . وقال ابن بحر : إبطال حجج الله بتكذيبهم . وعن ابن عباس : سبب نزولها أن الوحي أبطأ أربعين يوماً ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر يهود أبشروا ، اطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم نوره ، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنزلت واتصل الوحي . وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن : { متم } بالتنوين ، { نوره } بالنصب ؛ وباقي السبعة والأعمش : بالإضافة . وقرأ الجمهور : { تنجيكم } مخففاً ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر : مشدداً . والجمهور : { تؤمنون } ، { وتجاهدون } ؛ وعبد الله : آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا أمرين ؛ وزيد بن علي بالتاء ، فيهما محذوف النون فيهما . فأما توجيه قراءة الجمهور ، فقال المبرد : هو بمعنى آمنوا على الأمر ، ولذلك جاء يغفر مجزوماً . انتهى ، فصورته صورة الخبر ، ومعناه الأمر ، ويدل عليه قراءة عبد الله ، ونظيره قوله : اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه ، أي ليتق الله ، وجيء به على صورة الخبر . قال الزمخشري : للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل ، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين ، ونظيره قول الداعي : غفر الله لك ويغفر الله لك ، جعلت المغفرة لقوة الرجاء ، كأنها كانت ووجدت . انتهى . وقال الأخفش : هو عطف بيان على تجارة ، وهذا لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر ، ثم حذف أن فارتفع الفعل كقوله : @ ألا أيهـذا الـزاجـري احضـر الـوغـا @@ يريد : أن احضر ، فلما حذف أن ارتفع الفعل ، فكان تقدير الآية { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } : إيمان بالله ورسوله وجهاد . وقال ابن عطية : { تؤمنون } فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون . انتهى ، وهذا ليس بشيء ، لأن فيه حذف المبتدأ وحذف أنه وإبقاء الخبر ، وذلك لا يجوز . وقال الزمخشري : وتؤمنون استئناف ، كأنهم قالوا : كيف نعمل ؟ فقال : تؤمنون ، ثم اتبع المبرد فقال : هو خبر في معنى الأمر ، وبهذا أجيب بقوله : { يغفر لكم } . انتهى . وأما قراءة عبد الله فظاهرة المعنى وجواب الأمر يغفر ، وأما قراءة زيد فتتوجه على حذف لام الأمر ، التقدير : لتؤمنوا ، كقول الشاعر : @ قلت لبواب على بابها تأذن لي أني من أحمائها @@ يريد : لتأذن ، ويغفر مجزوم على جواب الأمر في قراءة عبد الله وقراءة زيد ، وعلي تقدير المبرد . وقال الفراء : هو مجزوم على جواب الاستفهام ، وهو قوله : { هل أدلكم } ، واستبعد هذا التخريج . قال الزجاج : ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم ، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا . وقال المهدوي : إنما يصح حملاً على المعنى ، وهو أن يكون تؤمنون وتجاهدون عطف بيان على قوله : { هل أدلكم } ، كأن التجارة لم يدر ما هي ، فبينت بالإيمان والجهاد ، فهي هما في المعنى ، فكأنه قال : هل تؤمنون وتجاهدون ؟ قال : فإن لم تقدر هذا التقدير لم يصح ، لأنه يصير : إن دللتم يغفر لكم ، والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة . وقال الزمخشري نحوه ، قال : وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة ، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد ، فكأنه قال : هل تتحرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم ؟ انتهى ، وتقدم شرح بقية الآية . ولما ذكر تعالى ما يمنعهم من الثواب في الآخرة ، ذكر ما يسرهم في العاجلة ، وهي ما يفتح عليهم من البلاد . { وأخرى } : صفة لمحذوف ، أي ولكم مثوبة أخرى ، أو نعمة أخرى عاجلة إلى هذه النعمة الآجلة . فأخرى مبتدأ وخبره المقدر لكم ، وهو قول الفراء ، ويرجحه البدل منه بقوله : { نصر من الله } ، و { تحبونها } صفة ، أي محبوبة إليكم . وقال قوم : وأخرى في موضع نصب بإضمار فعل ، أي ويمنحكم أخرى ؛ ونصر خبر مبتدأ ، أي ذلك ، أو هو نصر . وقال الأخفش : وأخرى في موضع جر عطفاً على تجارة ، وضعف هذا القول لأن هذه الأخرى ليست مما دل عليه ، إنما هي من الثواب الذي يعطيهم الله على الإيمان والجهاد بالنفس والمال . وقرأ الجمهور : { نصر } بالرفع ، وكذا { وفتح قريب } ؛ وابن أبي عبلة : بالنصب فيها ثلاثتها ، ووصف أخرى بتحبونها ، لأن النفس قد وكلت بحب العاجل ، وفي ذلك تحريض على ما يحصل ذلك ، وهو الإيمان والجهاد . وقال الزمخشري : وفي تحبونها شيء من التوبيخ على محبة العاجل ، قال : فإن قلت : لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً ؟ قلت : يجوز أن ينصب على الاختصاص ، أو على ينصرون نصراً ويفتح لكم فتحاً ، أو على { يغفر لكم } و { يدخلكم جنات } ويؤتكم أخرى نصراً وفتحاً قريباً . فإن قلت علام عطف قوله : { وبشر المؤمنين } ؟ قلت : على { تؤمنون } ، لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك . انتهى . { كونوا أنصار الله } : ندب المؤمنين إلى النصرة ووضع لهم هذا الاسم ، وإن كان قد صار عرفاً للأوس والخزرج ، وسماهم الله به . وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان : أنصاراً لله بالتنوين ؛ والحسن والجحدري وباقي السبعة : بالإضافة إلى الله ، والظاهر أن كما في موضع نصب على إضمار ، أي قلنا لكم ذلك كما قال عيسى . وقال مكي : نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : كونوا كوناً . وقيل : نعت لأنصاراً ، أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال : { من أنصاري إلى الله } . انتهى . والحواريون اثنا عشر رجلاً ، وهم أول من آمن بعيسى ، بثهم عيسى في الآفاق ، بعث بطرس وبولس إلى رومية ، وأندارس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وبوقاس إلى أرض بابل ، وفيليس إلى قرطاجنة وهي إفريقية ، ويحنس إلى أقسوس قرية أصحاب الكهف ، ويعقوبين إلى بيت المقدس ، وابن بليمن إلى أرض الحجاز وتستمر إلى أرض البربر وما حولها ، وفي بعض أسمائهم إشكال من جهة الضبط ، فليلتمس ذلك من مظانه . { فأيدنا الذين آمنوا بعيسى على عدوّهم } : وهم الذين كفروا بعيسى ، { فأصبحوا ظاهرين } : أي قاهرين لهم مستولين عليهم . وقال زيد بن عليّ وقتادة : ظاهرين : غالبين بالحجة والبرهان . وقيل : أيدنا المسلمين على الفرقتين الضالتين ، والله أعلم .