Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 68, Ayat: 1-33)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ن } : حرف من حروف المعجم ، نحو ص وق ، وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل والحكم على موضعها بالإعراب تخرص . وما يروى عن ابن عباس ومجاهد : أنه اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع . وعن ابن عباس أيضاً والحسن وقتادة والضحاك : أنه اسم الدواة . وعن معاوية بن قرة : يرفعه أنه لوح من نور . وعن ابن عباس أيضاً : أنه آخر حرف من حروف الرحمن . وعن جعفر الصادق : أنه نهر من أنهار الجنة ، لعله لا يصح شيء من ذلك . وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : ن حرف من حروف المعجم ، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم ، فهو إذن حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور . انتهى . ومن قال إنه اسم الدواة أو الحوت وزعم أنه مقسم به كالقلم ، فإن كان علماً فينبغي أن يجر ، فإن كان مؤنثاً منع الصرف ، أو مذكراً صرف ، وإن كان جنساً أعرب ، ونون وليس فيه شيء من ذلك فضعف القول به . وقال ابن عطية : إذا كان اسماً للدواة ، فإما أن يكون لغة لبعض العرب ، أو لفظة أعجمية عربت ، قال الشاعر : @ إذا ما الشوق برّح بي إليهم ألقت النون بالدمع السجوم @@ فمن جعله البهموت ، جعل القلم هو الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات ، وجعل الضمير في { يسطرون } للملائكة . ومن قال : هو اسم ، جعله القلم المتعارف بأيدي الناس ؛ نص على ذلك ابن عباس وجعل الضمير في { يسطرون } للناس ، فجاء القسم على هذا المجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم وأمور الدنيا والآخرة ، فإن القلم أخو اللسان ونعمة من الله عامة . انتهى . وقرأ الجمهور : { ن } بسكون النون وإدغامها في واو { والقلم } بغنة وقوم بغير غنة ، وأظهرها حمزة وأبو عمرو وابن كثير وقالون وحفص . وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السمال : بكسر النون لالتقاء الساكنين ؛ وسعيد بن جبير وعيسى : بخلاف عنه بفتحها ، فاحتمل أن تكون حركة إعراب ، وهو اسم للسورة أقسم به وحذف حرف الجر ، فانتصب ومنع الصرف للعلمية والتأنيث ، ويكون { والقلم } معطوفاً عليه . واحتمل أن يكون لالتقاء الساكنين ، وأوثر الفتح تخفيفاً كأين ، وما يحتمل أن تكون موصولة ومصدرية ، والضمير في { يسطرون } عائد على الكتاب لدلالة القلم عليهم ، فإما أن يراد بهم الحفظة ، وإما أن يراد كل كاتب . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه ، فيكون الضمير في { يسطرون } لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وتسطيرهم . انتهى . فيكون كقوله : { أو كظلمات في بحر لجي } [ النور : 40 ] أي وكذي ظلمات ، ولهذا عاد عليه الضمير في قوله : { يغشاه موج } [ النور : 40 ] . وجواب القسم : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } . ويظهر أن { بنعمة ربك } قسم اعترض به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عطية : { بنعمة ربك } اعتراض ، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل . انتهى . ولم يبين ما تتعلق به الباء في { بنعمة } . وقال الزمخشري : يتعلق { بمجنون } منفياً ، كما يتعلق بعاقل مثبتاً في قولك : أنت بنعمة الله عاقل ، مستوياً في ذلك النفي والإثبات استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً ، وما ضرب زيد عمراً تعمل الفعل مثبتاً ومنفياً إعمالاً واحداً ، ومحله النصب على الحال ، كأنه قال : ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك ، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي ، والمعنى : استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً ، وأنه من إنعام الله تعالى عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوة بمنزلة . انتهى . وما ذهب إليه الزمخشري من أن { بنعمة ربك } متعلق { بمجنون } ، وأنه في موضع الحال ، يحتاج إلى تأمل ، وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به ، وذلك له معمول ، ففي ذلك طريقان : أحدهما : أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط ، والآخر : أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك ، تقول : ما زيد قائم مسرعاً ، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه ، فيكون قد قام غير مسرع . والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه ، أي لا قيام فلا إسراع ، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري بوجه ، بل يؤدي إلى مالا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم صلى الله عليه وسلم . وقيل معناه : ما أنت بمجنون والنعمة بربك لقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي والحمد لله ، ومنه قول لبيد : @ وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي وفارقني جار بأربد نافع @@ أي : وهو أربد . انتهى . وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب . وفي المنتخب ما ملخصه المعنى : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، أي حصول الصفة المحمودة ، وزال عنك الصفة المذمومة بواسطة إنعام ربك . ثم قرر بهذه الدعوى ما هو كالدليل القاطع على صحتها ، لأن نعمه كانت ظاهرة في حقه من كمال الفصاحة والعقل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة ، فحصول ذلك وظهوره جار مجرى اليقين في كونهم كاذبين في قولهم : إنه مجنون . { وإن لك لأجراً } في احتمال طعنهم وفي دعاء الخلق إلى الله ، فلا يمنعك ما قالوا عن الدعاء إلى الله . { وإنك لعلى خلق عظيم } : هذا كالتفسير لما تقدم من قوله : { بنعمة ربك } ، وتعريف لمن رماه بالجنون أنه كذب وأخطأ ، وأن من كان بتلك الأخلاق المرضية لا يضاف الجنون إليه ، ولفظه يدل على الاستعلاء والاستيلاء . انتهى . { وإن لك لأجراً } : أي على ما تحملت من أثقال النبوة ومن أذاهم مما ينسبون إليك مما أنت لا تلتبس به من المعائب ، { غير ممنون } : أي غير مقطوع ، مننت الحبل : قطعته ، وقال الشاعر : @ عبساً كـواسب لا يمـن طعـامهـا @@ أي لا يقطع . وقال مجاهد : غير محسوب . وقال الحسن : غير مكدر بالمن . وقال الضحاك : بغير عمل . وقيل : غير مقدر ، وهو معنى قول مجاهد . وقال الزمخشري : أو غير ممنون عليك ، لأن ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء ، وإنما تمن الفواصل لا الأجور على الأعمال . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال . { وإنك لعلى خلق عظيم } ، قال ابن عباس ومجاهد : دين عظيم ليس دين أحب إلى الله تعالى منه . وقالت عائشة : إن خلقه كان القرآن . وقال علي : هو أدب القرآن . وقال قتادة : ما كان يأتمر به من أمر الله تعالى . وقيل : سمي عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، من كرم السجية ، ونزاهة القريحة ، والملكة الجميلة ، وجودة الضرائب ؛ ما دعاه أحد إلا قال لبيك ، وقال : " إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق " ، ووصى أبا ذر فقال : " وخالق الناس بخلق حسن " وعنه صلى الله عليه وسلم : " ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن " وقال : " أحبكم إلى الله تعالى أحسنكم أخلاقاً " والظاهر تعلق { بأيكم المفتون } بما قبله . وقال عثمان المازني : تم الكلام في قوله { ويبصرون } ، ثم استأنف قوله : { بأيكم المفتون } . انتهى . فيكون قوله : { بأيكم المفتون } استفهاماً يراد به الترداد بين أمرين ، ومعلوم نفي الحكم عن أحدهما ، ويعينه الوجود ، وهو المؤمن ، ليس بمفتون ولا به فتون . وإذا كان متعلقاً بما قبله ، وهو قول الجمهور ، فقال قتادة وأبو عبيدة معمر : الباء زائدة ، والمعنى : أيكم المفتون ؟ وزيدت الباء في المبتدأ ، كما زيدت فيه في قوله : بحسبك درهم ، أي حسبك . وقال الحسن والضحاك والأخفش : الباء ليست بزائدة ، والمفتون بمعنى الفتنة ، أي بأيكم هي الفتنة والفساد الذي سموه جنوناً ؟ وقال الأخفش أيضاً : بأيكم فتن المفتون ، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه . ففي قوله الأول جعل المفتون مصدراً ، وهنا أبقاه اسم مفعول وتأوله على حذف مضاف . وقال مجاهد والفراء : الباء بمعنى في ، أي في أيّ فريق منكم النوع المفتون ؟ انتهى . فالباء ظرفية ، نحو : زيد بالبصرة ، أي في البصرة ، فيظهر من هذا القول أن الباء في القول قبله ليست ظرفية ، بل هي سببية . وقال الزمخشري : المفتون : المجنون لأنه فتن ، أي محن بالجنون ، أو لأن العرب يزعمون أنه من تخييل الجن ، وهم الفتان للفتاك منهم . انتهى . وقرأ ابن أبي عبلة : في أيكم المفتون . { إن ربك هو أعلم } : وعيد للضال ، وهم المجانين على الحقيقة ، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها ، ولا استعملوها فيما جاءت به الرسل ، أو يكون أعلم كناية عن جزاء الفريقين . { فلا تطع المكذبين } : أي الذين كذبوا بما أنزل الله عليك من الوحي ، وهذا نهي عن طواعيتهم في شيء مما دعوه إليه من تعظيم آلهتهم . { ودوا لو تدهن } : لو هنا على رأي البصريين مصدرية بمعنى أن ، أي ودوا ادهانكم ، وتقدم الكلام في ذلك في قوله تعالى : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } [ البقرة : 96 ] ومذهب الجمهور أن معمول ود محذوف ، أي ودوا ادهانكم ، وحذف لدلالة ما بعده عليه ، ولو باقية على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف تقديره لسروا بذلك . وقال ابن عباس والضحاك وعطية والسدي : لو تدهن : لو تكفر ، فيتمادون على كفرهم . وعن ابن عباس أيضاً : لو ترخص لهم فيرخصون لك . وقال قتادة : لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك . وقال الحسن : لو تصانعهم في دينك فيصانعوك في دينهم . وقال زيد بن أسلم : لو تنافق وترائي فينافقونك ويراؤونك . وقال الربيع بن أنس : لو تكذب فيكذبون . وقال أبو جعفر : لو تضعف فيضعفون . وقال الكلبي والفراء : لو تلين فيلينون . وقال أبان بن ثعلب : لو تحابي فيحابون ، وقالوا غير هذه الأقوال . وقال الفراء : الدهان : التليين . وقال المفضل : النفاق وترك المناصحة ، وهذا نقل أهل اللغة ، وما قالوه لا يخرج عن ذلك لأن ما خالف ذلك هو تفسير باللازم ، وفيدهنون عطف على تدهن . وقال الزمخشري : عدل به إلى طريق آخر ، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يدهنون كقوله : { فمن يؤمن بربه فلا يخاف } [ الجن : 13 ] بمعنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ ، أو ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك . انتهى . وجمهور المصاحف على إثبات النون . وقال هارون : إنه في بعض المصاحف فيدهنوا ، ولنصبه وجهان : أحدهما أنه جواب ودوا لتضمنه معنى ليت ؛ والثاني أنه على توهم أنه نطق بأن ، أي ودوا أن تدهن فيدهنوا ، فيكون عطفاً على التوهم ، ولا يجيء هذا الوجه إلا على قول من جعل لو مصدرية بمعنى أن . { ولا تطع كل حلاف مهين } : تقدّم تفسير مهين وما بعده في المفردات ، وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ، ونوسب فيها فجاء { حلاف } وبعده { مهين } ، لأن النون فيها مع الميم تواخ . ثم جاء : { هماز مشاء بنميم } بصفتي المبالغة ، ثم جاء : { مناع للخير معتد أثيم } ، فمناع وأثيم صفتا مبالغة ، والظاهر أن الخير هنا يراد به العموم فيما يطلق عليه خير . وقيل : الخير هنا المال ، يريد مناع للمال عبر به عن الشح ، معناه : متجاوز الحد في الظلم . و " في حديث شداد بن أوس قلت : يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وما العتل الزنيم ؟ قال : الرحيب الجوف ، الوتير الخلق ، الأكول الشروب ، الغشوم الظلوم " وقرأ الحسن : عتل برفع اللام ، والجمهور : بجرها بعد ذلك . وقال الزمخشري : جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه ، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية ، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشىء منها ، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده " ، وبعد ذلك نظير ثم في قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] وقرأ الحسن : عتل رفعاً على الذم ، وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك . انتهى . وقال ابن عطية : { بعد ذلك } : أي بعد أن وصفناه به ، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف ، وإلا فكونه عتلاً هو قبل كونه صاحب خير يمنعه . انتهى . والزنيم : الملصق في القوم وليس منهم ، قاله ابن عباس وغيره . وقيل : الزنيم : المريب القبيح الأفعال ، وعن ابن عباس أيضاً : الزنيم : الذي له زنمة في عنقه كزنمة الشاة ، وما كنا نعرف المشار إليه حتى نزلت فعرفناه بزنمته . انتهى . وروي أن الأخنس بن شريف كان بهذه الصفة ، كان له زنمة . وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر ، كما تعرف الشاة بالزنمة . وعنه أيضاً : أنه المعروف بالابنة . وعنه أيضاً : أنه الظلوم . وعن عكرمة : هو اللئيم . وعن مجاهد وعكرمة وابن المسيب : أنه ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم ، وكان الوليد دعيا في قريش ليس من منحهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده . وقال مجاهد : كانت له ستة أصابع في يده ، في كل إبهام أصبع زائدة ، والذي يظهر أن هذه الأوصاف ليست لمعين . ألا ترى إلى قوله : { كل حلاف } ، وقوله : { إنا بلوناهم } ؟ فإنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات . قال ابن عطية ما ملخصه ، قرأ النحويان والحرميان وحفص وأهل المدينة : { إن كان } على الخبر ؛ وباقي السبعة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر : على الاستفهام ؛ وحقق الهمزتين حمزة ، وسهل الثانية باقيهم . فأما على الخبر ، فقال أبو علي الفارسي : يجوز أن يعمل فيها عتل وإن كان قد وصف . انتهى ، وهذا قول كوفي ، ولا يجوز ذلك عند البصريين . وقيل : { زنيم } لا سيما على قول من فسره بالقبيح الأفعال . وقال الزمخشري : متعلق بقوله : { ولا تطع } ، يعنى ولا تطعه مع هذه المثالب ، لـ { أن كان ذا مال } : أي ليساره وحظه من الدنيا ، ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين ، كذب آياتنا ولا يعمل فيه ، قال الذي هو جواب إذا ، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب . انتهى . وأما على الاستفهام ، فيحتمل أن يفسر عامل يدل عليه ما قبله ، أي أيكون طواعية لأن كان ؟ وقدره الزمخشري : أتطيعه لأن كان ؟ أو عامل يدل عليه ما قبله ، أي أكذب أو جحد لأن كان ؟ وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه : إن كان بكسر الهمزة . قال الزمخشري : والشرط للمخاطب ، أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره ، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه ، فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الرجاء إليه في قوله : { لعله يتذكر } [ طه : 44 ] . انتهى . وأقوال : إن كان شرط ، وإذا تتلى شرط ، فهو مما اجتمع فيه شرطان ، وليسا من الشروط المترتبة الوقوع ، فالمتأخر لفظاً هو المتقدم ، والمتقدم لفظاً هو شرط في الثاني ، كقوله : @ فإن عثرت بعدها إن والت نفسي من هاء تاء فقولا لها لها @@ لأن الحامل على ترك تدبر آيات الله كونه ذا مال وبنين ، فهو مشغول القلب ، فذلك غافل عن النظر والفكر ، قد استولت عليه الدنيا وأبطرته . وقرأ الحسن : أئذا على الاستفهام ، وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله القرآن أساطير الأولين لما تليت عليه آيات الله . ولما ذكر قبائح أفعاله وأقواله ، ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد فقال : { سنسمه على الخرطوم } ، والسمة : العلامة . ولما كان الوجه أشرف ما في الإنسان ، والأنف أكرم ما في الوجه لتقدمه ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية ، واشتقوا منه الأنفة وقالوا : حميّ الأنف شامخ العرنين . وقالوا في الذليل : جدع أنفه ، ورغم أنفه . وكان أيضاً مما تظهر السمات فيه لعلوه ، قال : { سنسمه على الخرطوم } ، وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد ، إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف ، وإذا كان الوسم في الوجه شيناً ، فكيف به على أكرم عضو فيه ؟ وقد قيل : الجمال في الأنف ، وقال بعض الأدباء : @ وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل فكيف إذا ما الخال كان له حليا @@ وسنسمه فعل مستقبل لم يتعين زمانه . وقال ابن عباس : هو الضرب بالسيف ، أي يضرب به وجهه وعلى أنفه ، فيجيء ذلك كالوسم على الانف ، وحل به ذلك يوم بدر . وقال المبرد : ذلك في عذاب الآخرة في جهنم ، وهو تعذيب بنار على أنوفهم . وقال آخرون : ذلك يوم القيامة ، أي نوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره . وقال قتادة وغيره : معناه سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به ، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتاً بيناً ، كما تقول : سأطوقك طوق الحمامة : أي أثبت لك الأمر بيناً فيك ، ونحو هذا أراد جرير بقوله : @ لمـا وضـعت عـلى الفـرزدق ميسمـي @@ وفي الوسم على الأنف تشويه ، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدّاً . قال ابن عطية : وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه ، وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأخروية ، رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم . انتهى . وقال أبو العالية ومقاتل ، واختاره الفراء : يسود وجهه قبل دخول النار ، وذكر الخرطوم ، والمراد الوجه ، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض . وقال أبو عبد الله الرازي : إنما بالغ الكافر في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب الأنفة والحمية ، فلما كان شاهد الإنكار هو الأنفة والحمية ، عبر عن هذا الاختصاص بقوله : { سنسمه على الخرطوم } . انتهى كلامه . وفي استعارة الخرطوم مكان الأنف استهانة واستخفاف ، لأن حقيقة الخرطوم هو للسباع . وتلخص من هذا أن قوله : { سنسمه على الخرطوم } ، أهو حقيقة أم مجاز ؟ وإذا كان حقيقة ، فهل ذلك في الدنيا أو في الآخرة ؟ وأبعد النضر بن شميل في تفسيره الخرطوم بالخمر ، وأن معناه سنحده على شربها . ولما ذكر المتصف بتلك الأوصاف الذميمة ، وهم كفار قريش ، أخبر تعالى بما حل بهم من الابتلاء بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " الحديث ، كما بلونا أصحاب الجنة المعروف خبرها عندهم . كانت بأرض اليمن بالقرب منهم قريباً من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله منها ، فمات فصارت إلى ولده ، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى ، فأهلكها الله تعالى من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بهم . وقيل : كانت بصوران على فراسخ من صنعاء لناس بعد رفع عيسى عليه السلام ، وكان صاحبها ينزل للمساكنين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكراس وما أخطاه القطاف من العنب وما بقي على السباط تحت النخلة إذا صرمت ، فكان يجتمع لهم شيء كثير . فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ، فحلفوا { ليصرِمنها مصبحين } في السدف خفية من المساكين ، ولم يستثنوا في يمينهم ؛ والكاف في { كما بلونا } في موضع نصب ، وما مصدرية . وقيل : بمعنى الذي ، وإذ معمول لبلوناهم ليصرمنها جواب القسم لا على منطوقهم ، إذ لو كان على منطوقهم لكان لنصرمنها بنون المتكلمين ، والمعنى : ليجدن ثمرها إذا دخلوا في الصباح قبل خروج المساكين إلى عادتهم مع أبيهم . { ولا يستثنون } : أي ولا ينثنون عن ما عزموا عليه من منع المساكين . وقال مجاهد : معناه : لا يقولون إن شاء الله ، بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره . وقال الزمخشري ، متبعاً قول مجاهد : ولا يقولون إن شاء الله . فإن قلت : لم سمي استثناء ، وإنما هو شرط ؟ قلت : لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء من حيث أن معنى قولك : لأخرجن إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد . انتهى . { فطاف عليها طائف } ، قرأ النخعي : طيف . قال الفراء : والطائف : الأمر الذي يأتي بالليل ، ورد عليه بقوله : { إذا مسهم طائف من الشيطان } [ الأعراف : 201 ] فلم يتخصص بالليل ، وطائف مبهم . فقيل : هو جبريل عليه السلام ، اقتلعها وطاف بها حول البيت ، ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم ، ولذلك سميت بالطائف ، وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها . وقال ابن عباس : طائف من أمر ربك . وقال قتادة : عذاب من ربك . وقال ابن جرير : عنق خرج من وادي جهنم . { فأصبحت كالصريم } ، قال ابن عباس : كالرماد الأسود ، والصريم : الرماد الأسود بلغة خزيمة ، وعنه أيضاً : الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت ، فشبه جنتهم بها . وقال الحسن : صرم عنها الخير ، أي قطع . فالصريم بمعنى مصروم . وقال الثوري : كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود . وقال مورج : كالرملة انصرمت من معظم الرمل ، والرملة لا تنبت شيئاً ينفع . وقال الأخفش : كالصبح انصرم من الليل . وقال المبرد : كالنهار فلا شيء فيها . وقال شمر : الصريم : الليل ، والصريم : النهار ، أي ينصرم هذا عن ذاك ، وذاك عن هذا . وقال الفراء والقاضي منذر بن سعيد وجماعة : الصريم : الليل من حيث اسودت جنتهم . { فتنادوا } : دعا بعضهم بعضاً إلى المضي إلى ميعادهم ، { أن اغدوا على حرثكم } . قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل { اغدوا إلى حرثكم } ، وما معنى على ؟ قلت : لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه ، كما تقول : غدا عليهم العدو . ويجوز أن يضمن الغدو ومعنى الإقبال ، كقولهم : يغدي عليه بالجفنة ويراح ، أي فاقبلوا على حرثكم باكرين . انتهى . واستسلف الزمخشري أن غداً يتعدى بإلى ، ويحتاج ذلك إلى نقل بحيث يكثر ذلك فيصير أصلاً فيه ويتأول ما خالفه ، والذي في حفظي أنه معدى بعلى ، كقول الشاعر : @ بكرت عليه غدوة فرأيته قعوداً عليه بالصريم عوادله @@ { إن كنتم صارمين } : الظاهر أنه من صرام النحل . قيل : ويحتمل أن يريد : إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم ، من قولك : سيف صارم . { يتخافتون } : يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين . { أن لا يدخلنها } : أي يتخافتون بهذا الكلام وهو لا يدخلنها ، وأن مصدرية ، ويجوز أن تكون تفسيرية . وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة : لا يدخلنها ، بإسقاط أن على إضمار يقولون ، أو على إجراء يتخافتون مجرى القول ، إذ معناه : يسارون القول والنهي عن الدخول . نهى عن التمكين منه ، أي لا تمكنوهم من الدخول فيدخلوا . { وغدوا على حرد قادرين } : أي على قصد وقدوة في أنفسهم ، يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم . قال معناه ابن عباس ، أي قاصدين إلى جنتهم بسرعة ، قادرين عند أنفسهم على صرامها . قال أبو عبيدة والقتبي : { على حرد } : على منع ، أي قادرين في أنفسهم على منع المساكين من خيرها ، فجزاهم الله بأن منعهم خيراً . وقال الحسن : { على حرد } ، أي حاجة وفاقة . وقال السدي وسفيان : { على حرد } : على غضب ، أي لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض . وقيل : { على حرد } : على انفراد ، أي انفردوا دون المساكين . وقال الأزهري : حرد اسم قريتهم . وقال السدي : اسم جنتهم ، أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم ، أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام . قيل : ويحتمل أن يكون من التقدير بمعنى التضييق لقوله تعالى : { ومن قدر عليه رزقه } [ الطلاق : 7 ] أي مضيقين على المساكين ، إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها . { فلما رأوها } : أي على الحالة التي كانوا غدوها عليها ، من هلاكها وذهاب ما فيها من الخير ، { قَالوا إنا لضالون } : أي عن الطريق إليها ، قاله قتادة . وذلك في أول وصولهم أنكروا أنها هي ، واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق إليها ، ثم وضح لهم أنها هي ، وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها . وقيل : لضالون عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين ، فقالوا : { بل نحن محرومون } خيرها بخيانتنا على أنفسنا . { قال أوسطهم } : أي أفضلهم وأرجحهم عقلاً ، { ألم أقل لكم لولا تسبحون } : أنبهم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من تسبيح الله ، أي ذكره وتنزيهه عن السوء ، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين واقتفوا سنة أبيهم في ذلك . فلما غفلوا عن ذكر الله تعالى وعزموا على منع المساكين ، ابتلاهم الله ، وهذا يدل على أن أوسطهم كان قد تقدم إليهم وحرضهم على ذكر الله تعالى . وقال مجاهد وأبو صالح : كان استثناؤهم سبحان الله . قال النحاس : جعل مجاهد التسبيح موضع إن شاء الله ، لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته . وقال الزمخشري : لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأن الاستثناء تفويض إليه ، والتسبيح تنزيه له ، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم له . وقيل : { لولا تسبحون } : تستغفرون . ولما انبهم ، رجعوا إلى ذكر الله تعالى ، واعترفوا على أنفسهم بالظلم ، وبادروا إلى تسبح الله تعالى فقالوا : { سبحان ربنا } . قال ابن عباس : أي نستغفر الله من ذنبنا . ولما أقروا بظلمهم ، لام بعضهم بعضاً ، وجعل اللوم في حيز غيره ، إذ كان منهم من زين ، ومنهم من قبل ، ومنهم من أمر بالكف ، ومنهم من عصى الأمر . ومنهم من سكت على رضا منه . ثم اعترفوا بأنهم طغوا ، وترجوا انتظار الفرج في أن يبدلهم خيراً من تلك الجنة ، { عسى ربنا أن يبدلنا } : أي بهذه الجنة ، { خير منها } : وتقدم الكلام في الكهف ، والخلاف في تخفيف يبدلنا ، وتثقيلها منسوباً إلى القراء . { إنا إلى ربنا راغبون } : أي طالبون إيصال الخير إلينا منه . والظاهر أن أصحاب هذه الجنة كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا . وقيل : كانوا من أهل الكتاب . وقال عبد الله بن مسعود : بلغني أن القوم دعوا الله وأخلصوا ، وعلم الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة ، وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم . وعن مجاهد : تابوا فأبدلوا خيراً منها . وقال القشيري : المعظم يقولون أنهم تابوا وأخلصوا . انتهى . وتوقف الحسن في كونهم مؤمنين وقال : أكان قولهم : { إنا إلى ربنا راغبون } إيماناً ، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة ؟ . { كذلك العذاب } : هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم في أمر قريش . قال ابن عطية : والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة ، أي { كذلك العذاب } : أي الذي نزل بقريش بغتة ، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا . وقال كثير من المفسرين : العذاب النازل بقريش المماثل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود . انتهى . وقال الزمخشري : مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا . { ولعذاب الآخرة } أشد وأعظم منه . انتهى . وتشبيه بلاء قريش ببلاء أصحاب الجنة هو أن أصحاب الجنة عزموا على الانتفاع بثمرها وحرمان المساكين ، فقلب الله تعالى عليهم وحرمهم . وأن قريشاً حين خرجوا إلى بدر حلفوا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فإذا فعلوا ذلك رجعوا إلى مكة وطافوا بالكعبة وشربوا الخمور ، فقلب الله عليهم بأن قتلوا وأسروا . ولما عذبهم بذلك في الدنيا قال : { ولعذاب الآخرة أكبر } .