Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 69, Ayat: 19-37)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أما : حرف تفصيل فصل بها ما وقع في يوم العرض . ويظهر أن من قضى عليه دخول النار من الموحدين ، أنه في يوم العرض يأخذ كتابه بيمينه مع الناجين من النار ، ويكون ذلك يأنس به مدة العذاب . وقيل : لا يأخذه حتى يخرج من النار ، وإيمانه أنيسه مدة العذاب . قيل : وهذا يظهر لأن من يسار به إلى النار كيف يقول : { هاؤم اقرؤا كتابيه } ؟ وهل هذا إلا استبشار وسرور ؟ فلا يناسب دخول النار . وهاؤم إن كان مدلولها خذ ، فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة ، وإن كان مدلولها تعالوا ، فهي متعدية إليه بواسطة إلى ، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا . فالبصريون يعملون اقرؤا ، والكوفيون يعملون هاؤم ، وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين اسم الفعل والقسم . وقرأ الجمهور : { كتابيه } ، و { حسابيه } في موضعيهما و { ماليه } و { سلطانيه } ، وفي القارعة : { ماهيه } بإثبات هاء السكت وقفاً ووصلاً لمراعاة خط المصحف . وقرأ ابن محيصن : بحذفها وصلاً ووقفاً وإسكان الياء ، وذلك كتابي وحسابي ومالي وسلطاني ، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه في { ماهيه } [ القارعة : 10 ] في القارعة ؛ وابن أبي إسحاق والأعمش : بطرح الهاء فيهما في الوصل لا في الوقف ، وطرحهما حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف ، وفتح الياء فيهن . وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس كما قال ، بل ذلك منقول نقل التواتر فوجب قبوله . { إني ظننت } : أي أيقنت ، ولو كان ظناً فيه تجويز لكان كفراً . { فهو في عيشة راضية } : ذات رضا . وقال أبو عبيدة والفراء : راضية مرضية كقوله : { من ماء دافق } [ الطارق : 6 ] أي مدفوق . { في جنة عالية } : أي مكاناً وقدراً . { قطوفها } : أي ما يجني منها ، { دانية } : أي قريبة التناول يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها . { كلوا واشربوا } : أي يقال ، و { هنيئاً } ، تقدم الكلام عليه في أول النساء . وقال الزمخشري : هنيئاً أكلاً وشرباً هنيئاً ، أو هنيتم هنيئاً على المصدر . انتهى فقوله : أكلاً وشرباً هنيئاً يظهر منه جعل هنيئاً صفة لمصدرين ، ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك ، أي أكلاً هنيئاً وشرباً هنيئاً . { بما أسلفتم } : أي قدمتم من العمل الصالح ، { في الأيام الخالية } : يعني أيام الدنيا . وقال مجاهد وابن جبير ووكيع وعبد العزيز بن رفيع : أيام الصوم ، أي بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى . والظاهر العموم في قوله : { بما أسلفتم } : أي من الأعمال الصالحة . { يا ليتني لم أوت كتابيه } : لما رأى فيه قبائح أفعاله وما يصير أمره إليه ، تمنى أنه لم يعطه ، وتمنى أنه لم يدر حسابه ، فإنه انجلى عنه حسابه عن ما يسوءه فيه ، إذ كان عليه لا له . { يا ليتها } : أي الموتة التي متها في الدنيا ، { كانت القاضية } : أي القاطعة لأمري ، فلم أبعث ولم أعذب ؛ أو يا ليت الحالة التي انتهيت إليها الآن كانت الموتة التي منها في الدنيا ، حيث رأى أن حالته التي هو فيها أمر مما ذاقه من الموتة ، وكيف لا وأمره آل إلى عذاب لا ينقطع ؟ { ما أغنى عني ماليه } : يجوز أمن يكون نفياً محضاً ، أخبر بذلك متأسفاً على ماله حيث لم ينفعه ؛ ويجوز أن يكون استفهاماً وبخ به نفسه وقررها عليه . { هلك عني سلطانيه } : أي حجتي ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي . وقال ابن زيد : يقول ذلك ملوك الدنيا . وكان عضد الدولة ابن نوية لما تسمى بملك الأملاك غلاب القدر لم يفلح وجن ، فكان لا ينطلق لسانه إلا بقوله : { هلك عني سلطانيه } . { خذوه } : أي يقال للزبانية { خذوه فغلوه } : أي اجعلوا في عنقه غلاًّ ، { ثم الجحيم صلوه } ، قال الزمخشري : ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى ، لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس . يقال : صلى النار وصلاه النار . انتهى ، وإنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم ، لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر . وقد تكلمنا معه في ذلك عند قوله : { إياك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النحاة . وأما قوله : لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس ، فهذا قول ابن زيد وهو مرجوح ، والراجح قول ابن عباس ومن ذكر معه : أن السلطان هنا هو الحجة التي كان يحتج بها في الدنيا ، لأن من أوتي كتابه بشماله ليس مختصاً بالملوك ، بل هو عام في جميع أهل الشقاوة . { ثم في سلسلة ذرعها } : أي قياسها ومقدار طولها ، { سبعون ذراعاً } : يجوز أن يراد ظاهره من العدد ، ويجوز أن يراد المبالغة في طولها وإن لم يبلغ هذا العدد . قال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر : بذراع الملك . وقال نوف البكالي وغيره : الذراع سبعون باعاً ، في كل باع كما بين مكة والكوفة ، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح . وقال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هي . وقيل : بالذراع المعروف ، وإنما خاطبنا تعالى بما نعرفه ونحصله . وقال ابن عباس : لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص . { فاسلكوه } : أي ادخلوه ، كقوله : { فسلكه ينابيع } [ الزمر : 21 ] والظاهر أنه يدخله في السلسلة ، ولطولها تلتوي عليه من جميع جهاته فيبقى داخلاً فيها مضغوطاً حتى تعمه . وقيل : في الكلام قلب ، والسلسلة تدخل في فمه وتخرج من دبره ، فهي في الحقيقة التي تسلك فيه ، ولا ضرورة تدعو إلى إخراج الكلام عن ظاهره ، إلا إن دل الدليل الصحيح على خلافه . وقال الزمخشري : والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية ، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة ، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم . ومعنى ثم : الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم ، وما بينها وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخي المدة . انتهى . وقد تقدم أن من مذهبه الحصر في تقديم المعمول ، وأما ثم فيمكن بقاؤها على موضوعها من المهلة الزمانية ، وأنه أولاً يؤخذ فيغل . ولما لم يعذب بالعجلة ، صارت له استراحة ، ثم جاء تصلية الجحيم ، فكان ذلك أبلغ في عذابه ، إذ جاءه ذلك وقد سكنت نفسه قليلاً ، ثم جاء سلكه بعد ذلك بعد كونه مغلولاً معذباً في النار ، لكنه كان له انتقال من مكان إلى مكان ، فيجد بذلك بعض تنفس . فلما سلك في السلسلة كان ذلك أشد ما عليه من العذاب ، حيث صار لا حراك له ولا انتقال ، وأنه يضيق عليه غاية ، فهذا يصح فيه أن تكون ثم على موضوعها من المهلة الزمانية . { إنه كان لا يؤمن } : بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله ، وإنه تعليل مستأنف ، كأن قائلاً قال : لم يعذب هذا العذاب البليغ . وقيل : { إنه كان لا يؤمن } ، وعطف { ولا يحض } على { لا يؤمن } داخل في العلة ، وذلك يدل على عظم ذنب من لا يحض على إطعام المسكين ، إذ جعل قرين الكفر ، وهذا حكم ترك الحض ، فكيف يكون ترك الإطعام ؟ والتقدير على إطعام طعام المسكين . وأضاف الطعام إلى المسكين من حيث لم ينسبه إليه ، إذ يستحق المسكين حقاً في مال الغني الموسر ولو بأدنى يسار ؛ وللعرب في مكارمهم وإيثارهم آثار عجيبة غريبة بحيث لا توجد في غيرهم ، وما أحسن ما قيل فيهم : @ على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل @@ وكان أبو الدرداء يحض امرأته على تكثير الرزق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الآخر ؟ وقيل : هو منع الكفار . وقولهم : { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } [ يس : 47 ] يعني أنه إذا نفي الحض انتفى الإطعام بجهة الأولى ، كما صرح به في قوله تعالى : { لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين } [ المدثر : 43 - 44 ] { فليس له اليوم هاهنا حميم } : أي صديق ملاطف وادّ ، { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو } [ الزخرف : 67 ] وقيل : قريب يدفع عنه . { ولا طعام إلا من غسلين } ، قال ابن عباس : هو صديد أهل النار . وقال قتادة وابن زيد : هو والزقوم أخبث شيء وأبشعه . وقال الضحاك والربيع : هو شجر يأكله أهل النار . وقيل : هو شيء يجري من أهل النار ، يدل على هذا قوله في الغاشية : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } [ الغاشية : 6 ] فهما شيء واحد أو متداخلان . قيل : ويجوز أن يكونا متباينين ، وأخبر بكل واحد منهما عن طائفة غير الطائفة التي الآخر طعامها ، وله خبر ليس . وقال المهدوي : ولا يصح أن يكون هاهنا ، ولم يبين ما المانع من ذلك . وتبعه القرطبي في ذلك وقال : لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إلا من غسلين ، ولا يصح ذلك لأن ثم طعاماً غيره ، وهاهنا متعلق بما في له من معنى الفعل . انتهى . وإذا كان ثم غيره من الطعام ، وكان الأكل غير أكل آخر ، صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين . وأما إن كان الضريع هو الغسلين ، كما قال بعضهم ، فلا تناقض ، إذ المحصور في الآيتين هو شيء واحد ، وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره ، وهو أنه إذا جعلنا الخبر هاهنا ، كان له واليوم متعلقين بما تعلق به الخبر ، وهو العامل في ههنا ، وهو عامل معنوي ، فلا يتقدم معموله عليه . فلو كان العامل لفظياً جاز ، كقوله تعالى : { ولم يكن له كفواً أحد } [ الإخلاص : 4 ] فله متعلق بكفواً وهو خبر ليكن . وقرأ الجمهور : { الخاطئون } بالهمز ، اسم فاعل من خطىء ، وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمداً لذلك ، والمخطىء الذي يفعله غير متعمد . وقرأ الحسن والزهري والعتكي وطلحة في نقل : بياء مضمومة بدلاً من الهمزة . وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة ونافع : بخلاف عنه ، بضم الطاء دون همز ، فالظاهر اسم فاعل من خطىء كقراءة من همز . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله . انتهى . فيكون اسم فاعل من خطا يخطو ، كقوله تعالى : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } [ البقرة : 208 ، الأنعام : 142 ] ، { ومن يتبع خطوات الشيطـان } [ النور : 21 ] خطا إلى المعاصي .