Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 71, Ayat: 15-28)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما نبههم نوح عليه السلام على الفكر في أنفسهم ، وكيف انتقلوا من حال إلى حال ، وكانت الأنفس أقرب ما يفكرون فيه منهم ، أرشدهم إلى الفكر في العالم علوه وسفله ، وما أودع تعالى فيه ، أي في العالم العلوي من هذين النيرين اللذين بهما قوام الوجود . وتقدم شرح { طباقاً } في سورة الملك ، والضمير في فيهن عائد على السموات ، ويقال : القمر في السماء الدنيا ، وصح كون السموات ظرفاً للقمر ، لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف . تقول : زيد في المدينة ، وهو في جزء منها ، ولم تقيد الشمس بظرف ، فقيل : هي في الرابعة ، وقيل : في الخامسة ، وقيل : في الشتاء في الرابعة ، وفي الصيف في السابعة ، وهذا شيء لا يوقف على معرفته إلا من علم الهيئة . ويذكر أصحاب هذا العلم أنه يقوم عندهم البراهين القاطعة على صحة ما يدعونه ، وأن في معرفة ذلك دلالة واضحة على عظمة الله وقدرته وباهر مصنوعاته . { سراجاً } يستضيء به أهل الدنيا ، كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم ، ولم يبلغ القمر مبلغ الشمس في الإضاءة ، ولذلك ؛ جاء { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً } [ يونس : 5 ] والضياء أقوى من النور . والإنبات استعارة في الإنشاء ، أنشأ آدم من الأرض وصارت ذريته منه ، فصح نسبتهم كلهم إلى أنهم أنبتوا منها . وانتصاب نباتاً بأنبتكم مصدراً على حذف الزائد ، أي إنباتاً ، أو على إضمار فعل ، أي فنبتم نباتاً . وقال الزمخشري : المعنى أنبتكم فنبتم ، أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم . انتهى . ولا أعقل معنى هذا الوجه الثاني الذي ذكره . { ثم يعيدكم فيها } : أي يصيركم فيها مقبورين ، { ويخرجكم إخراجاً } : أي يوم القيامة ، وأكده بالمصدر ، أي ذلك واقع لا محالة . { بساطاً } تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه . وظاهره أن الأرض ليست كروية بل هي مبسوطة ، { سبلاً } : ظرفاً ، { فجاجاً } : متسعة ، وتقدم الكلام على الفج في سورة الحج . ولما أصروا على العصيان وعاملوه بأقبح الأقوال والأفعال ، { قال نوح رب إنهم عصوني } : الضمير للجميع ، وكان قد قال لهم : { وأطيعون } ، وكان قد أقام فيهم ما نص الله تعالى عليه { ألف سنة إلا خمسين عاماً } [ العنكبوت : 14 ] وكانوا قد وسع عليهم في الرزق بحيث كانوا يزرعون في الشهر مرتين . { واتبعـوا } : أي عامتهم وسفلتهم ، إذ لا يصح عوده على الجميع في عبادة الأصنام . { من لم يزده } : أي رؤساؤهم وكبراؤهم ، وهم الذين كان ما تأثلوه من المال وما تكثروا به من الولد سبباً في خسارتهم في الآخرة ، وكان سبب هلاكهم في الدنيا . وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير وأبو عمرو ونافغ ، في رواية خارجة : وولده بضم الواو وسكون اللام ؛ والسلميّ والحسن أيضاً وأبو رجاء وابن وثاب وأبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر : بفتحهما ، وهما لغتان ، كبخل وبخل ؛ والحسن أيضاً والجحدري وقتادة وزر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ، في رواية : كسر الواو وسكون اللام . وقال أبو حاتم : يمكن أن يكون الولد بالضم جمع الولد ، كخشب وخشب ، وقد قال حسان بن ثابت : @ يا بكر آمنة المبارك بكرها من ولد محصنة بسعد الأسعد @@ { ومكروا } : يظهر أنه معطوف على صلة من ، وجمع الضمير في { ومكروا } ، { وقالوا } على المعنى ؛ ومكرهم : احتيالهم في الدين وتحريش الناس على نوح عليه السلام . وقرأ الجمهور : { كباراً } بتشديد الباء ، وهو بناء فيه مبالغة كثير . قال عيسى بن عمر : هي لغة يمانية ، وعليها قول الشاعر : @ والمرء يلحقه بقنان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء @@ وقول الآخر : @ بيضاء تصطاد القلوب وتستبي بالحسن قلب المسلم القراء @@ ويقال : حسان وطوال وجمال . وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال : بخف الباء ، وهو بناء مبالغة . وقرأ زيد بن علي وابن محيصن ، فيما روي عنه أبو الأخيرط وهب بن واضح : كباراً ، بكسر الكاف وفتح الباء . وقال ابن الأنباري : هو جمع كبير ، كأنه جعل مكراً مكان ذنوب أو أفاعيل . انتهى ، يعني فلذلك وصفه بالجمع . { وقالوا } : أي كبراؤهم لأتباعهم ، أو قالوا ، أي جميعهم بعضهم لبعض ، { لا تذرن } : لا تتركن ، { آلهتكم } : أي أصنامكم ، وهو عام في جميع أصنامهم ، ثم خصبوا بعد أكابر أصنامهم ، وهو ودّ وما عطف عليه ؛ وروي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الزمان . قال عروة بن الزبير : كانوا بني آدم ، وكان ودّاً أكبرهم وأبرهم به . وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : كانوا بني آدم ونوح عليهما السلام ، ماتوا فصورت أشكالهم لتذكر أفعالهم الصالحة ، ثم هلك من صورهم وخلف من يعظمها ، ثم كذلك حتى عبدت . قيل : ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها . وقيل : بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب . فكان ودّ لكلب بدومة الجندل ؛ وسواع لهذيل ، وقيل : لهمدان ؛ ويغوث لمراد ، وقيل : لمذحج ؛ ويعوق لهمدان ، وقيل : لمراد ؛ ونسر لحمير ، وقيل : لذي الكلاع من حمير ؛ ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث ؛ وما وقع من هذا الخلاف في سواع ويغوث ويعوق يمكن أن يكون لكل واحد منهما صنم يسمى بهذا الاسم ، إذ يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام ، فإنما بقيت الأسماء فسموا أصنامهم بها . قال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث ، وكان من رصاص ، يحمل على جمل أجرد يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فينزلون حوله ويضربون له بناء . انتهى . وقال الثعلبي : كان يغوث لكهلان من سبأ ، يتوارثونه حتى صار في همدان ، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني : @ يريش الله في الدنيا ويبري ولا يبري يغوث ولا يريش @@ وقال الماوردي : ود اسم صنم معبود . سمي وداً لودهم له . انتهى . وقيل : كان ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر ، وهذا مناف لما تقدم من أنهم صوروا صور ناس صالحين . وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة ، بخلاف عنهم : وداً ، بضم الواو ؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بفتحها ، قال الشاعر : @ حياك ودّ فإنا لا يحل لنا لهو النساء وأن الدين قد عزما @@ وقال آخر : @ فحياك ودّ من هداك لعسه وخوص باعلا ذي فضالة هجه @@ قيل : أراد ذلك الصنم . وقرأ الجمهور : { ولا يغوث ويعوق } بغير تنوين ، فإن كانا عربيين ، فمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وإن كانا عجميين ، فللعجمة والعلمية . وقرأ الأشهب : ولا يغوثا ويعوقا بتنوينهما . قال صاحب اللوامح : جعلهما فعولاً ، فلذلك صرفهما . فأما في العامة فإنهما صفتان من الغوث والعوق بفعل منهما ، وهما معرفتان ، فلذلك منع الصرف لاجتماع الفعلين اللذين هما تعريف ومشابهة الفعل المستقبل . انتهى ، وهذا تخبيط . أما أولاً ، فلا يمكن أن يكونا فعولاً ، لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق ؛ وأما ثانياً ، فليسا بصفتين من الغوث والعوق ، لأن يفعلا لم يجىء اسماً ولا صفة ، وإنما امتنعا من الصرف لما ذكرناه . وقال ابن عطية : وقرأ الأعمش : ولا يغوثا ويعوقا بالصرف ، وذلك وهم لأن التعريف لازم ووزن الفعل . انتهى . وليس ذلك بوهم ، ولم ينفرد الأعمش بذلك ، بل قد وافقه الأشهب العقيلي على ذلك ، وتخريجه على أحد الوجهين ، أحدهما : أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب ، وذلك لغة وقد حكاها الكسائي وغيره ؛ والثاني : أنه صرف لمناسبة ما قبله وما بعده من المنون ، إذ قبله { وداً ولا سواعاً } ، وبعده { ونسراً } ، كما قالوا في صرف { سلاسلاً } [ الإنسان : 4 ] و { قواريرا قواريرا } [ الإنسان : 15 - 16 ] لمن صرف ذلك للمناسبة . وقال الزمخشري : وهذه قراءة مشكلة ، لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ففيهما منع الصرف ، ولعله قصد الازدواج فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات { وداً ويعوق ونسراً } ، كما قرىء : { وضحاها } [ الشمس : 1 ] بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواج . انتهى . وكان الزمخشري لو يدر أن ثم لغة لبعض العرب تصرف كل ما لا ينصرف عند عامتهم ، فلذلك استشكلها . { وقد أضلوا } : أي الرؤساء المتبوعون ، { كثيراً } : من أتباعهم وعامتهم ، وهذا إخبار من نوح عليه السلام عنهم بما جرى على أيديهم من الضلال . وقال الحسن : { وقد أضلوا } : أي الأصنام ، عاد الضمير عليها كما يعود على العقلاء ، كقوله تعالى : { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } [ إبراهيم : 36 ] ويحسنه عوده على أقرب مذكور ، ولكن عوده على الرؤساء أظهر ، إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن . ولما أخبر أنهم قد ضلوا كثيراً ، دعا عليهم بالضلال ، فقال : { ولا تزد } : وهي معطوفة على { وقد أضلوا } ، إذ تقديره : وقال وقد أضلوا كثيراً ، فهي معمولة لقال المضمرة المحكي بها قوله : { وقد أضلوا } ، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل ، بل قد يعطف ، جملة الإنشاء على جملة الخبر والعكس ، خلافاً لمن يدعي التناسب . وقال الزمخشري ما ملخصه : عطف { ولا تزد } على { رب إنهم عصوني } ، أي قال هذين القولين . { إلا ضلالاً } ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته ؟ قلت : المراد بالضلال أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم ، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به ، بل لا يحسن الدعاء بخلافه . انتهى ، وذلك على مذهب الاعتزال . قال : ويجوز أن يراد بالضلال الضياع والهلاك ، كما قال : { ولا تزد الظـالمين إلا تباراً } . وقال ابن بحر : { إلا ضلالاً } : إلا عذاباً ، قال كقوله : { إن المجرمين في ضلالٍ وسعرٍ } . وقيل : إلا خسراناً . وقيل : إلا ضلالاً في أمر دنياهم وترويج مكرهم وحيلهم . وقرأ الجمهور : { مما خطيئاتهم } جمعاً بالألف والتاء مهموزاً ؛ وأبو رجاء كذلك ، إلا أنه أبدل الهمزة ياء وأدغم فيها ياء المد ؛ والجحدري وعبيد ، عن أبي عمرو : على الإفراد مهموزاً ؛ والحسن وعيسى والأعرج : بخلاف عنهم ؛ وأبو عمرو : خطاياهم جمع تكسير ، وهذا إخبار من الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام بأن دعوة نوح عليه السلام قد أجيبت . وما زائدة للتوكيد ؛ ومن ، قال ابن عطية : لابتداء الغاية ، ولا يظهر إلا أنها للسبب . وقرأ عبد الله : من خطيئاتهم ما أغرقوا ، بزيادة ما بين أغرقوا وخطيئاتهم . وقرأ الجمهور : { أغرقوا } بالهمزة ؛ وزيد بن عليّ : غرقوا بالتشديد وكلاهما للنقل وخطيئاتهم الشرك وما انجر معه من الكبائر ، { فأدخلوا ناراً } : أي جهنم ، وعبر عن المستقبل بالماضي لتحققه ، وعطف بالفاء على إرادة الحكم ، أو عبر بالدخول عن عرضهم على النار غدوّاً وعشياً ، كما قال : { النار يعرضون عليها } [ غافر : 46 ] قال الزمخشري : أو أريد عذاب القبر . انتهى . وقال الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب . { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً } : تعريض بانتفاء قدرة آلهتهم عن نصرهم ، ودعاء نوح عليه السلام بعد أن أوحى إليه أنه { لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [ هود : 36 ] قاله قتادة . وعنه أيضاً : ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله كل مؤمن من الأصلاب ، وأعقم أرحام نسائهم ، وهذا لا يظهر لأنه قال : { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك } الآية ، فقوله : { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } يدل على أنه لم يعقم أرحام نسائهم ، وقاله أيضاً محمد بن كعب والربيع وابن زيد ، ولا يظهر كما قلنا ، وقد كان قبل ذلك طامعاً في إيمانهم عاطفاً عليهم . وفي الحديث : " أنه ربما ضربه ناس منهم أحياناً حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون " ودياراً : من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي وما أشبهه ، ووزنه فيعال ، أصله ديوار ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت ؛ ويقال : منه دوّار ووزنه فعال ، وكلاهما من الدوران ، كما قالوا : قيام وقوام ، والمعنى معنى أحد . وعن السدّي : من سكن داراً . وقال الزمخشري : وهو فيعال من الدور أو من الدار . انتهى . والدار أيضاً من الدور ، وألفها منقلبة عن واو . { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } : وصفهم وهم حالة الولادة بما يصيرون إليه من الفجور والكفر . ولما دعا على الكفار ، استغفر للمؤمنين ، فبدأ بنفسه ثم بمن وجب برّه عليه ، ثم للؤمنين ، فكأن هو ووالداه اندرجوا في المؤمنين والمؤمنات . وقرأ الجمهور : { ولوالديّ } ، والظاهر أنهما أبوه لمك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش . وقيل : هما آدم وحوّاء . وقرأ ابن جبير والجحدري : ولوالدي بكسر الدال ، فأما أن يكون خص أباه الأقرب ، أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام . وقال ابن عباس : لم يكن لنوح عليه السلام أب ما بينه وبين آدم عليه السلام . وقرأ الحسن بن عليّ ويحيـى بن يعمر والنخعي والزهري وزيد بن عليّ : ولولداي تثنية ولد ، يعني ساماً وحاماً . { ولمن دخل بيتي } ، قال ابن عباس والجمهور : مسجدي ؛ وعن ابن عباس أيضاً : شريعتي ، استعار لها بيتاً ، كما قالوا : قبة الإسلام وفسطاطه . وقيل : سفينته . وقيل : داره . { وللمؤمنين والمؤمنات } : دعا لكل مؤمن ومؤمنة في كل أمّة . والتبار : الهلاك .