Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 84, Ayat: 1-25)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال ابن خالويه : { إذا السماء انشقت } بكسر التاء ، عبيد عن أبي عمرو . وقال ابن عطية ، وقرأ أبو عمرو : { انشقت } ، يقف على التاء كأنه يشمها شيئاً من الجر ، وكذلك في أخواتها . قال أبو حاتم : سمعت أعرابياً فصيحاً في بلاد قيس يكسر هذه التاءات ، وهي لغة . انتهى . وذلك أن الفواصل قد تجري مجرى القوافي . فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي ، تكسر في الفواصل ؛ ومثال كسرها في القوافي قول كثير عزة : @ وما أنا بالداعي لعزة بالردى ولا شامت أن نعل عزة زلت @@ وكذلك باقي القصيدة . وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف ، كقوله تعالى : { الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] و { الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] في سورة الأحزاب . وحمل الوصف على حالة الوقف أيضاً موجود في الفواصل . { وأذنت } : أي استمعت وسمعت أمره ونهيه ، وفي الحديث : " ما أذن الله بشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن " وقال الشاعر : @ صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا @@ وقال قعنب : @ إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحاً وما هم أذنوا من صالح دفنوا @@ وقال الحجاف بن حكيم : @ أذنت لكـم لمـا سمعت هريركـم @@ وأذنها : انقيادها الله تعالى حين أراد انشقاقها ، فعل المطيع إذا ورد عليه أمر المطاع أنصت وانقاد ، كقوله تعالى : { قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] { وحقت } ، قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير : وحق لها أن تسمع . وقال الضحاك : أطاعت وحق لها أن تطيع . وقال قتادة : وحق لها أن تفعل ذلك ، وهذا الفعل مبني للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى ، أي وحق الله تعالى عليها الاستماع . ويقال : فلان محقوق بكذا وحقيق بكذا ، والمعنى : أنه لم يكن في جرم السماء ما يمنع من تأثير القدرة في انشقاقه وتفريق أجزائه وإعدامه . قيل : ويحتمل أن يريد : وحق لها أن تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى . وقال الزمخشري : وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع ، ومعناه : الإيذان بأن القادر الذات يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك ، انتهى . وفي قوله القادر الذات دسيسة الاعتزال ، وما أولع هذا الرجل بمذهب الاعتزال ، يدسه متى أمكنه في كل ما يتكلم به . { وإذا الأرض مدت } ، قال مجاهد : سويت . وقال الضحاك : بسطت باندكاك جبالها ، ومنه الحديث : " تمد الأرض مد الأديم العكاظي حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه " ، وذلك أن الأديم إذا مَّد زال ما فيه ما تئن وانبسط ، فتصير الأرض إذ ذاك كما قال تعالى : { فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً } [ طه : 106 - 107 ] { وألقت ما فيها وتخلت } ، قال ابن جبير والجمهور : ألقت ما في بطنها من الأموات ، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء . وقيل : تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها . وقال الزجاج : ومن الكنوز ، وضعف هذا بأن ذلك يكون وقت خروج الدجال ، وإنما تلقى يوم القيامة الموتى . { وتخلت } : أي عن ما كان فيها ، لم تتمسك منهم بشيء . وجاء تخلت : أي تكلفت أقصى جهدها في الخلو . كما تقول : تكرم الكريم : بلغ جهده في الكرم وتكلف فوق ما في طبعه ، ونسبة ذلك إلى الأرض نسبة مجازيه ، والله تعالى هو الذي أخرج تلك الأشياء من باطنها . وجواب إذا محذوف ، فإما أن يقدره الذي خرج به في سورة التكوير أو الانفطار ، أو ما يدل عليه : { إنك كادح } ، أي لاقى كل إنسان كدحه . وقال الأخفش والمبرد : هو ملاقيه ، إذا انشقت السماء فأنت ملاقيه . وقيل : { يا أيها الإنسان } ، على حذف الفاء تقديره : فيا أيها الإنسان . وقيل : { وأذنت } على زيادة الواو ؛ وعن الأخفش : { إذا السماء } مبتدأ ، خبره { وإذا الأرض } على زيادة الواو ، والعامل فيها على قول الأكثرين : الجواب إما المحذوف الذي قدروه ، وإما الظاهر الذي قيل إنه جواب . قال ابن عطية : وقال بعض النحويين : العامل انشقت ، وأبى ذلك كثير من أئمتهم ، لأن إذا مضافة إلى انشقت ، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة ويقوى معنى الجزاء ، انتهى . وهذا القول نحن نختاره ، وقد استدللنا على صحته فيما كتبناه ، والتقدير : وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض . وقيل : لا جواب لها إذ هي قد نصبت باذكر نصب المفعول به ، فليست شرطاً . { وأذنت لربها } : أي في إلقاء ما في بطنها وتخليها . والإنسان : يراد به الجنس ، والتقسيم بعد ذلك يدل عليه . وقال مقاتل : المراد به الأسود بن عبد الأسد بن هلال المخزومي ، جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث ، فقال أبو سلمة : والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة . فقال الأسود فأين : الأرض والسماء وما جال الناس ؟ انتهى . وكان مقاتلاً يريد أنها نزلت في الأسود ، وهي تعم الجنس . وقيل : المراد أبيّ بن خلف ، كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر . وأبعد من ذهب إلى أنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده واحتمال الضر من الكفار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل ، وهو غير ضائع عنده . { إنك كادح } : أي جاهد في عملك من خير وشر إلى ربك ، أي طول حياتك إلى لقاء ربك ، وهو أجل موتك ، { فملاقيه } : أي جزاء كدحك من ثواب وعقاب . قال ابن عطية : فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها ، والتقدير : فأنت ملاقيه ، ولا يتعين ما قاله ، بل يصح أن يكون معطوفاً على كادح عطف المفردات . وقال الجمهور : الضمير في ملاقيه عائد على ربك ، أي فملاقي جزائه ، فاسم الفاعل معطوف على اسم الفاعل . { حساباً يسيراً } قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : يقرر ذنوبه ثم يتجاوز عنه . وقال الحسن : يجازي بالحسنة ويتجاوز عن السيئة . وفي الحديث : " من حوسب عذب ، فقالت عائشة : ألم يقل الله تعالى { فسوف يحاسب حساباً يسيراً } ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إنما ذلك العرض ، وأما من نوقش الحساب فيهلك " { وينقلب إلى أهله } : أي إلى من أعد الله له في الجنة من نساء المؤمنات ومن الحور العين ، أو إلى عشيرته المؤمنين ، فيخبرهم بخلاصه وسلامته ، أو إلى المؤمنين ، إذ هم كلهم أهل إيمان . وقرأ زيد بن علي : ويقلب مضارع قلب مبنياً للمفعول . { وراء ظهره } : روي أن شماله تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره ، فيأخذ كتابه بها . قال ابن عطية : وأما من ينفذ عليه الوعيد من عصاتهم ، يعني عصاة المؤمنين ، فإنه يعطى كتابه عند خروجه من النار . وقد جوز قوم أن يعطاه أولاً قبل دخوله النار ، وهذه الآية ترد على هذا القول ، انتهى . والظاهر من الآية أن الإنسان انقسم إلى هذين القسمين ولم يتعرض للعصاة الذين يدخلهم الله النار . { يدعو ثبوراً } : يقول : واثبوراه ، والثبور : الهلاك ، وهو جامع لأنواع المكاره . وقرأ قتادة وأبو جعفر وعيسى وطلحة والأعمش وعاصم وأبو عمرو وحمزة : { ويصلى } بفتح الياء مبنياً للفاعل ؛ وباقي السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج : بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة ؛ وأبو الأشهب وخارجة عن نافع ، وأبان عن عاصم ، وعيسى أيضاً والعتكي وجماعة عن أبي عمرو : بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام ، بني للمفعول من المتعدي بالهمزة ، كما بني ويصلى المشدد للمفعول من المتعدي بالتضعيف . { إنه كان في أهله مسروراً } : أي فرحاً بطراً مترفاً لا يعرف الله ولا يفكر في عاقبته لقوله تعالى : { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } [ القصص : 76 ] بخلاف المؤمن ، فإنه حزين مكتئب يتفكر في الآخرة . { إنه ظن أن لن يحور } : أي أن لن يرجع إلى الله ، وهذا تكذيب بالبعث . { بلى } : إيجاب بعد النفي ، أي بلى ليحورن . { إن ربه كان به بصيراً } : أي لا تخفي عليه أفعاله ، فلا بد من حوره ومجازاته . { فلا أقسم بالشفق } : أقسم تعالى بمخلوقاته تشريفاً لها وتعريضاً للاعتبار بها ، والشفق تقدم شرحه . وقال أبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة : هو البياض الذي يتلوه الحمرة . وروى أسد بن عمرو أن أبا حنيفة رجع عن قوله هذا إلى قول الجمهور . وقال مجاهد والضحاك وابن أبي نجيح : إن الشفق هنا كأنه لما عطف عليه الليل قال ذلك . قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف ، انتهى . وعن مجاهد : هو الشمس ؛ وعن عكرمة : ما بقي من النهار . { وما وسق } : ما ضم من الحيوان وغيره ، إذ جميع ذلك ينضم ويسكن في ظلمة الليل . وقال ابن عباس : { وما وسق } : أي ما غطى عليه من الظلمة . وقال مجاهد : وما ضم من خير وشر . وقال ابن جبير : وما ساق وحمل . وقال ابن بحر : وما عمل فيه ، ومنه قول الشاعر : @ فيوماً ترانا صالحين وتارة تقوم بنا كالواسق المتلبب @@ وقال ابن الفضل : لف كل أحد إلى الله ، أي سكن الخلق إليه ورجع كل إلى ما رآه لقوله : { لتسكنوا فيه } [ يونس : 76 ، القصص : 73 ، غافر : 61 ] . وقرأ عمر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير : بتاء الخطاب وفتح الباء . فقيل : خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي حالاً بعد حال من معالجة الكفار . وقال ابن عباس : سماء بعد سماء في الإسراء . وقيل : عدة بالنصر ، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك . وقال الزمخشري : وقرىء { لتركبن } على خطاب الإنسان في { يا أيها الإنسان } . وقال ابن مسعود المعنى : لتركبن السماء في أهوال القيامة حالاً بعد حال ، تكون كالمهل وكالدهان وتنفطر وتنشق ، فالتاء للتأنيث ، وهو إخبار عن السماء بما يحدث لها ، والضمير الفاعل عائد على السماء . وقرأ عمر وابن عباس أيضاً : بالياء من أسفل وفتح الباء على ذكر الغائب . قال ابن عباس : يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم . وقيل : الضمير الغائب يعود على القمر ، لأنه يتغير أحوالاً من إسرار واستهلال وإبدار . وقال الزمخشري : ليركبن الإنسان . وقرأ عمر وابن عباس أيضاً وأبو جعفر والحسن وابن جبير وقتادة والأعمش وباقي السبعة : بتاء الخطاب وضم الباء ، أي لتركبن أيها الإنسان . وقال الزمخشري : ولتركبن بالضم على خطاب الجنس ، لأن النداء للجنس ، فالمعنى : لتركبن الشدائد : الموت والبعث والحساب حالاً بعد حال ، أو يكون الأحوال من النطفة إلى الهرم ، كما تقول : طبقة بعد طبقة . قال نحوه عكرمة . وقيل : عن تجىء بمعنى بعد . وقيل : المعنى لتركبن هذه الأحوال أمة بعد أمة . ومنه قول العباس بن عبد المطلب في رسول الله صلى الله عليه وسلم : @ وأنت لما ولدت أشرقت الأر ض وضاءت بنورك الأفق تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق @@ وقال مكحول وأبو عبيدة : المعنى لتركبن سنن من قبلكم . وقال ابن زيد : المعنى لتركبن الآخرة بعد الأولى . وقرأ عمر أيضاً : ليركبن بياء الغيبة وضم الباء . قيل : أراد به الكفار لا بيان توبيخهم بعده ، أي يركبون حالاً بعد أخرى من المذلة والهوان في الدنيا والآخرة . وقرأ ابن مسعود وابن عباس : لتركبن بكسر التاء ، وهي لغة تميم . قيل : والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وقرىء بالتاء وكسر الباء على خطاب النفس ، وطبق الشيء مطابقة لأن كل حال مطابقة للأخرى في الشدة . ويجوز أن تكون اسم جنس ، واحدة طبقة ، وهي المرتبة من قولهم : هم على طبقات . و { عن طبق } في موضع الصفة لقوله : { طبقاً } ، أو في موضع الحال من الضمير في { لتركبن } . وعن مكحول ، كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه . { فما لهم لا يؤمنون } : تعجب من انتفاء إيمانهم وقد وضحت الدلائل . { لا يسجدون } : لا يتواضعون ويخضعون ، قاله قتادة . وقال عكرمة : لا يباشرون بجباههم المصلى . وقال محمد بن كعب : لا يصلون . وقرأ الجمهور : { يكذبون } مشدداً ؛ والضحاك وابن أبي عبلة : مخففاً وبفتح الياء . { بما يوعون } : بما يجمعون من الكفر والتكذيب ، كأنهم يجعلونه في أوعية وعيت العلم وأوعيت المتاع ، قال نحوه ابن زيد . وقال ابن عباس : بما تضمرون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . وقال مجاهد : بما يكتمون من أفعالهم . وقرأ أبو رجاء : بما يعون ، من وعى يعي . { إلا الذين آمنوا } : أي سبق لهم في علمه أنهم يؤمنون . { غير ممنون } : غير مقطوع . وقال ابن عباس : { ممنون } : معدد عليهم ، محسوب منغص بالمن ، وتقدم الكلام على ذلك في فصلت ، والله الموفق .