Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 122-129)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } : لما سمعوا ما كان لأهل المدينة الآية أهمهم ذلك ، فنفروا إلى المدينة إلى الرسول فنزلت . وقيل : قال المنافقون حين نزلت : ما كان لأهل المدينة الآية هكذا أهل البوادي فنزلت . وقيل : لما دعا الرسول على مضر بالسنين أصابتهم مجاعة ، فنفروا إلى المدينة للمعاش وكادوا يفسدونها ، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان ، وإنما أقدمه الجوع فنزلت الآية فقال : وما كان من ضعفة الإيمان لينفروا مثل هذا النفير أي : ليس هؤلاء بمؤمنين . وعلى هذه الأقوال لا يكون النفير إلى الغزو ، والضمير الذي في ليتفقهوا عائد على الطائفة الناقرة ، وهذا هو الظاهر . وقال ابن عباس : الآية في البعوث والسرايا . والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج الرسول في الغزو ، وهذه ثابتة الحكم إذا لم يخرج أي : يجب إذا لم يخرج أن لا ينفر الناس كافة ، فيبقى هو مفرداً . وإنما ينبغي أن ينفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الطائفة في الدين ، وتنذر النافرين إذا رجعوا إليهم . وقالت فرقة : هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الناس كافة النفير والقتال ، فعلى هذا وعلى قول ابن عباس يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على الطائفة المقيمة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون معنى ولينذروا قومهم أي : الطائفة النافرة إلى الغزو يعلمونهم بما تجدّد من أحكام الشريعة وتكاليفها ، وكان ثم جملة محذوفة دل عليها تقسيمها أي : فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة وقعدت أخرى ليتفقهوا . وقيل : على أن يكون النفير إلى الغزو يصح أن يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على النافرين ، ويكون تفقههم في الغزو بما يرون من نصرة الله لدينه ، وإظهاره الفئة القليلة من المؤمنين على الكثيرة من الكافرين ، وذلك دليل على صحة الإسلام ، وإخبار الرسول بظهور هذا الدين . والذي يظهر أنّ هذه الآية إنما جاءت للحض على طلب العلم والتفقه في دين الله ، وأنه لا يمكن أن يرحل المؤمنون كلهم في ذلك فتعرى بلادهم منهم ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداؤهم ، فهلا رحل طائفة منهم للتفقه في الدين ولإنذار قومهم ، فذكر العلة للنفير وهي التفقه أولاً ، ثم الإعلام لقومهم بما علموه من أمر الشريعة أي : فهلا نفر من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم فكفوهم النفير ، وقام كل بمصلحة هذه بحفظ بلادهم ، وقتال أعدائهم ، وهذه لتعلم العلم وإفادتها المقيمين إذا رجعوا إليهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ كلا النفيرين هو في سبيل الله وإحياء دينه هذا بالعلم ، وهذا بالقتال . قال الزمخشري : ليتفقهوا في الدين ، ليتكلفوا الفقاهة فيه ، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها ، ولينذروا قومهم ، وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لعلهم يحذرون إرادة أن يحذروا الله تعالى ، فيعملوا عملاً صالحاً . ووجه آخر : وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً بعد غزوة تبوك وبعد ما نزل في المتخلفين من الآيات الشدائد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير ، وانقطعوا جميعاً عن الوحي والتفقه في الدين ، فأمروا بأن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ، وتبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأنّ الجهاد بالحجة أعظم أمراً من الجهاد بالسيف . وقوله تعالى : ليتفقهوا ، الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة ، ولينذروا قومهم ، ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم ، وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه . { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين } : لما خص تعالى على التفقه في الدين ، وحرض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه ، أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم من الكفار ، فجمع من الجهاد جهاد الحجة وجهاد السيف . وقال بعض الشعراء في ذلك : @ من لا يعدله القرآن كان له من الصغار وبيض الهند تعديل @@ قيل : نزلت قبل الأمر بقتل الكفار كافة ، فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام . وضعف هذا القول بأنّ هذه الآية من آخر ما نزل . وقالت فرقة : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تجاوز قوماً من الكفار غازياً لقوم آخرين أبعد منهم ، فأمر الله بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة . وقالت فرقة : الآية مبينة صورة القتال كافة ، فهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة ، ومعناها : أنّ الله تعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجيش الذي يضايقه من الكفرة ، وهذا هو القتال لكملة الله ورد البأس إلى الإسلام . وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المؤمنين كفاية عدوّ ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد . وقال : قاتلوا هذه المقالة نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام ، لأنهم كانوا يومئذ العدوّ الذي يلي ويقرب ، إذ كانت العرب قد عمها الإسلام ، وكانت العراق بعيدة ، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم ، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال : عليك بالروم . وقال علي بن الحسين والحسن : هم الروم والديلم ، يعني في زمنه . وقال ابن زيد : المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب ، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] إلى آخرها . وقيل : هم قريظة والنضير وفدك وخيبر . وقال قوم : تحرجوا أن يقاتلوا أقرباءهم وجيرانهم ، فأمروا بقتالهم . ويلونكم : ظاهره القرب في المكان . وقيل : هو عام في القرب في المكان ، والنسب والبداءة بقتال من يلي لأنه متعذر قتال كلهم دفعة واحدة ، وقد أمرنا بقتال كلهم ، فوجب الترجيح بالقرب كما في سائر المهمات كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولأن النفقات فيه ، والحاجة إلى الدواب والأدوات أقل ، ولأن قتال الأبعد تعريض لتدارك المسلمين إلى الفتنة ، ولأن الدين يكون إن كانوا ضعفاء كان الاستيلاء عليهم أسهل ، وحصول غير الإسلام أيسر . وإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد ، ولأن المعرفة بمن يلي آكد منها بمن بعد للوقوف على كيفية أحوالهم وعَددهم وعُددهم ، فترجحت البداءة بقتال من يلي على قتال من بعد . وأمر تعالى المؤمنين بالغلظة على الكفار والشدّة عليهم كما قال تعالى : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] وذلك ليكون ذلك أهيب وأوقع للفزع في قلوبهم . وقال تعالى : { أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] وفي الحديث : " ألقوا الكفار بوجوه مكفهرة " وقال تعالى { ولا تهنوا ولا تحزنوا } [ آل عمران : 139 ] وقال : { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } [ آل عمران : 146 ] والغلظة : تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة ، والغلظة حقيقة في الأجسام ، واستعيرت هنا للشدة في الحرب . وقرأ الجمهور : غلظة بكسر الغين وهي لغة أسد ، والأعمش وأبان بن ثعلب والمفضل كلاهما عن عاصم بفتحها وهي لغة الحجاز ، وأبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وابان أيضاً بضمها وهي لغة تميم ، وعن أبي عمر وثلاث اللغات ثم قال : واعلموا أنّ الله مع المتقين لينبه على أن يكون الحامل على القتال ووجود الغلظة إنما هو تقوى الله تعالى ، ومن اتقى الله كان الله معه بالنصر والتأييد ، ولا يقصد بقتاله الغنيمة ، ولا الفخر ، ولا إظهار البسالة . { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } : قال ابن عباس : نزلت هذه والثانية في المنافقين ، كانوا إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض بهم في خطبته ، فينظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب ويقولون : هل يراكم من أحد إن قمتم ؟ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد . ولما استطرد من سفر الغزو وتأنيب المتخلفين عن الرسول إلى سفر التفقه في الدين ، ثم أمر بقتال من يلي من الكفار والغلظة عليهم ، عاد إلى ذكر مخازي المنافقين إذ هم الذين نزل معظم السورة فيهم . وكان في الآية قبلها إشارة إلى الغلظة على الكفار وهم منهم ، وقولهم : أيكم زادته هذه إيماناً ، يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار والاستهزاء بالمؤمنين ، ويحتمل أن يقولوا : ذلك لقراباتهم المؤمنين يستقيمون إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق . ومعنى قولهم ذلك : هو على سبيل التحقير للسورة والاستخفاف بها ، كما تقول : أي غريب في هذا وأي دليل في هذا ، وفي الفتيان قيل : هو قول المؤمنين للبحث والتنبيه . وقرأ الجمهور : رأيكم بالرفع . وقرأ زيد بن علي ، وعبيد بن عمير : أيكم بالنصب على الاشتغال ، والنصب فيه عند الأخفش أفصح كهو بعد أداة الاستفهام نحو : أزيداً ضربته . والتقسيم يقتضي أنّ الخطاب من أولئك المنافقين المستهزئين عام للمنافقين والمؤمنين ، وزيادة الإيمان عبارة عن حدوث تصديق خاص لم يكن قبل نزول السورة من قصص وتجديد حكم من الله تعالى ، أو عبارة عن تنبيه على دليل تضمنته السورة ويكون قد حصلت له معرفة الله بأدلة ، فنبهته هذه السورة على دليل راد في أدلته ، أو عبارة عن إزالة شك يسير ، أو شبهة عارضة غير مستحكمة ، فيزول ذلك الشك وترتفع الشبهة بتلك السورة . وأما على قول من يسمي الطاعة إيماناً ، وذلك مجاز عند أهل السنة ، فتترتب الزيادة بالسورة إذ يتضمن أحكاماً . وقال الربيع : فزادتهم إيماناً أي خشية أطلق اسم الشيء على بعض ثمراته . وقال الزمخشري : فزادتهم إيماناً لأنها أزيد للمتقين على الثبات ، وأثلج للصدور . أو فزادتهم عملاً ، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان ، لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل انتهى . وهي نزعة اعتزالية ، وهم يستبشرون بما تضمنته من رحمة الله ورضوانه . وأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون ، والصحة والمرض في الأجسام ، فنقل إلى الاعتقاد مجازاً والرجس القذر ، والرجس العذاب ، وزيادته عبارة عن تعمقهم في الكفر وخبطهم في الضلال . وإذا كفروا بسورة . فقد زاد كفرهم واستحكم وتزايد عقابهم . قال قطرب والزجاج : أراد كفراً إلى كفرهم . وقال مقاتل : إثماً إلى إثمهم . وقال السدي والكلبي : شكاً إلى شكهم . وقال ابن عباس : أراد ما أعد لهم من الخزي والعذاب المتجدد عليهم في كل وقت في الدنيا والآخرة ، وأنتج نزول السورة للمؤمنين شيئين : زيادة الإيمان ، والاستبشار بما لهم عند الله . وللذين في قلوبهم مرض زيادة رجس ، والموافاة على الكفر أذاهم كفرهم الأصلي ، والزيادة إلى أنْ ماتوا على الكفر . { أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون } : لما ذكر أنهم بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة ، ذكر أنهم أيضاً في الدنيا لا يخلصون من عذابها . والضمير في يرون عائد على الذين في قلوبهم مرض ، وذلك على قراءة الجمهور بالياء . وقرأ حمزة : بالتاء خطاباً للمؤمنين . والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب ، ومن رؤية البصر . وقرأ أبي وابن مسعود ، والأعمش : أو لا ترى أي أنت يا محمد ؟ وعن الأعمش أيضاً : أو لم تروا ؟ وقال أبو حاتم عنه : أو لم يروا ؟ قال مجاهد : يفتنون ، يختبرون بالسنة والجوع . وقال النقاش عنه : مرضة أو مرضتين . وقال الحسن وقتادة : يختبرون بالأمر بالجهاد . قال ابن عطية : والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم ، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة . وأما الجهاد أو الجوع فلا يترتب معهما ما ذكرناه ، فمعنى الآية على هذا : أفلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد ، ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون ، ويذكرون وعد الله ووعيده انتهى . وقاله مختصراً مقاتل قال : يفضحون بإظهار نفاقهم ، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين ، وقد كان الحسن ينشد : @ أفي كل عام مرضة ثم نقهة فحتى متى حتى متى وإلى متى @@ وقالت فرقة : معنى يفتنون بما يشيعه المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأكاذيب والأراجيف ، وأنّ ملوك الروم قاصدون بجيوشهم وجموعهم إليهم ، وإليه الإشارة بقوله : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 60 ] فكان الذين في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك . وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة ، وهو غريب من المعنى . وقال الزمخشري : يفتنون يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله تعالى ، ثم لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم ، ولا يذكرون ولا يعتبرون ولا ينظرون في أمرهم ، أو يبتلون بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله تعالى عليه من النصر وتأييده ، أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم ، ثم لا ينزجرون . وقرأ ابن مسعود : ولا هم يتذكرون . { وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } . ذكر أولاً ما يحدث عنهم من القول على سبيل الاستهزاء ، ثم ذكر ثانياً ما يصدر منهم من الفعل على سبيل الاستهزاء وهو الإيماء والتغامز بالعيون إنكاراً للوحي ، وسخرية قائلين : هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نقدر على استماعه ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم ، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون : هل يراكم من أحد ؟ والظاهر إطلاق السورة أية سورة كانت . وقيل : ثم صفة محذوفة أي : سورة تفضحهم ويذكر فيها مخازيهم ، نظر بعضهم إلى بعض على جهة التقرير ، يفهم من تلك النظرة التقرير : هل يراكم من ينقل عنكم ؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم ؟ ثم انصرفوا أي : عن طريق الاهتداء ، وذلك أنهم حين ما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة النظر الصحيح والاهتداء . قال الضحاك : هل اطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل ثم انصرفوا إن كان حقيقة فالمعنى : قاموا من المكان الذي تتلى فيه السورة أو مجازاً ، فالمعنى : انصرفوا عن الإيمان ، وذلك وقت رجوعهم إليه وإقبالهم عليه ، قاله الكلبي ، أو رجعوا إلى الاستهزاء أو إلى الطعن في القرآن والتكذيب له ولمن جاء به ، أو عن العمل بما كانوا يسمعونه ، أو عن طريق الاهتداء بعد أن بين لهم ومهد وأقيم دليله ، وهذا القول راجع لقول الكلبي . صرف الله قلوبهم صيغته خبر ، وهو دعاء عليهم بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان ، قاله الفراء . والظاهر أنه خير لما كان الكلام في معرض ذكر التكذيب ، بدأ بالفعل المنسوب إليهم وهو قوله : ثم انصرفوا ، ثم ذكر فعله تعالى بهم على سبيل المجازاة لهم على فعلهم كقوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5 ] . قال الزجاج : أضلهم . وقيل : عن فهم القرآن والإيمان به . وقال ابن عباس : عن كل رشد وخير وهدى . وقال الحسن : طبع عليها بكفرهم . قال الزمخشري : صرف الله قلوبهم دعاء عليهم بالخذلان ، ويصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح بأنهم قوم لا يفقهون يحتمل أن يكون متعلقاً بانصرفوا ، أو بصرف ، فيكون من باب الإعمال أي : بسبب انصرافهم ، أو صرف الله قلوبهم هو بسبب أنهم لا يتدبرون القرآن فيفقهون ما احتوى عليه مما يوجب إيمانهم والوقوف عنده . { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءُوف رحيم } : لما بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين ، وقص فيها أحوال المنافقين شيئاً فشيئاً ، خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم ، أو من نسبهم عربياً قرشياً يبلغهم عن الله متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب ، ويحرص على هداهم ، ويرأف بهم ، ويرحمهم . قال ابن عباس : ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأنه قال : يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل ، ويحتمل أن يكون الخطاب لمن بحضرته من أهل الملل والنحل ، ويحتمل أن يكون خطاباً لبني آدم ، والمعنى : أنه لم يكن من غير جنس بني آدم ، لما في ذلك من التنافر بين الأجناس كقوله : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [ الأنعام : 9 ] ولما كان المخاطبون عاماً ، إما عامة العرب ، وإما عامة بني آدم ، جاء الخطاب عاماً بقوله : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم أي : على هدايتكم حتى لا يخرج أحد عن اتباعه فيهلك . ولما كانت الرأفة والرحمة خاصة جاء متعلقها خاصاً وهو قوله : بالمؤمنين رءُوف رحيم . ألا ترى إلى قوله : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] وقال : { أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] وقال في زناة المؤمنين : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } [ النور : 2 ] . قال ابن عطية : وقوله من أنفسكم ، يقتضي مدحاً لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها ، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام : " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم " ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " إني من نكاح ولست من سفاح " معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا انتهى . وصف الله نبيه عليه السلام بستة : أوصاف الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية ، وكونه من الخيار بحيث أهل أنْ يكون واسطة بين الله وبين خلقه ، ولما كانت هذه الصفة أشرف الأشياء بدىء بذكرها . وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في البليغ والفهم عنه والتآنس به ، فإن كان خطاباً للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه ، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم ، وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة . وكونه يعز عليه ما يشق عليكم ، فهذا الوصف من نتائج الرسالة . ومن كونه من أنفسهم ، لأنّ من كان منك وادّلك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك وكونه حريصاً على هدايتهم ، وهو أيضاً من نتائج الرسالة ، لأنه بعث ليعبد الله ويفرد بالألوهية . وكونه رءُوفاً رحيماً بالمؤمنين ، وهما وصفان من نتائج التبعية له ، والدخول في دين الله . { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً حتى تحب لأخيك المؤمن ما تحب لنفسك " وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب ، عن أبي عمرو وعبد الله بن قسيط المكي ، ويعقوب من بعض طرقه : من أنفسكم بفتح الفاء . ورويت هذه القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن فاطمة ، وعائشة رضي الله عنهما ، والمعنى : من أشرفكم وأعزكم ، وذلك من النفاسة ، وهو راجع لمعنى النفس ، فإنها أعز الأشياء . والظاهر أنّ ما مصدرية في موضع الفاعل بعزيز أي : يعز عليه مشقتكم كما قال : @ يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا @@ أي يسر المرء ذهاب الليالي . ويجوز أن يكون ما عنتم مبتدأ أي : عنتكم عزيز عليه ، وقدم خبره ، والأول أعرب . وأجاز الحوفي أن يكون عزيز مبتدأ ، وما عنتم الخبر ، وأن تكون ما بمعنى الذي ، وأن تكون مصدرية ، وهو إعراب دون الإعرابين السابقين . وقال ابن القشيري : عزيز صفة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما وصف بالعزة لتوسطه في قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته ، ثم استأنف فقال : عليه ما عنتم أي : يهمه أمركم انتهى . والعنت : تقدم شرحه في البقرة في قوله { لأعنتكم } [ البقرة : 220 ] وقال ابن عباس : هنا مشقتكم . وقال الضحاك : إثمكم . وقال سعيد بن أبي عروبة : ضلالكم . وقال العتبي : ما ضركم . وقال ابن الأنباري : ما أهلككم . وقيل : ما غمكم . والأولى أن يضمر في عليكم أي : على هداكم وإيمانكم كقوله : { إن تحرص على هداهم } [ النحل : 37 ] وقوله : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } [ يوسف : 103 ] وقيل : حريص على إيصال الخيرات لكم في الدنيا والآخرة . وقال الفراء : الحريص هو الشحيح ، والمعنى : أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار . وقيل : حريص على دخولكم الجنة . وإنما احتيج إلى الإضمار ، لأنّ الحرص لا يتعلق بالذوات . ويحتمل بالمؤمنين أن يتعلق برءُوف ، ويحتمل أن يتعلق برحيم ، فيكون من باب التنازع . وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر ، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما ، وأجاز بعض النحويين التقديم فتقول : زيداً ضربت وشتمت على التنازع ، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين . وقال قوم : بالتوزيع ، رؤوف بالمطيعين ، رحيم بالمذنبين . وقيل : رؤوف بمن رآه ، رحيم بمن لم يره . وقيل : رؤوف بأقربائه ، رحيم بغيرهم . وقال الحسن بن الفضل : لم يجمع الله لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فإنه قال : بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وقال تعالى : { إن الله بالناس لرءُوف رحيم } [ البقرة : 143 ] { فإن تولوا فقل حسبي الله لا إلـه إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم } : أي فإنْ أعرضوا عن الإيمان بعد هذه الحالة التي منّ الله عليهم بها من إرسالك إليهم واتصافك بهذه الأوصاف الجميلة فقل : حسبي الله أي : كافيّ من كل شيء ، عليه توكلت أي : فوضت أمري إليه لا إلى غيره ، وقد كفاه الله شرهم ونصره عليهم ، إذ لا إله غيره . وهي آية مباركة لأنها من آخر ما نزل ، وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات . وقال ابن عباس : العرش لا يقدر أحد قدره انتهى . وذكر في معرض شرح قدرة الله وعظمته ، وكان الكفار يسمعون حديث وجود العرش وعظمته من اليهود والنصارى ، ولا يبعد أنهم كانوا سمعوا ذلك من أسلافهم . وقرأ ابن محيصن : العظيم برفع الميم صفة للرب ، ورويت عن ابن كثير . قال أبو بكر الأصم : وهذه القراءة أعجب إليّ ، لأنّ جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش ، وعظم العرش يكبر جثته واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار ، وعظم الرب بتقديسه عن الحجمية والأجزاء والإبعاض ، وبكمال العلم والقدرة ، وتنزيهه عن أن يتمثل في الأوهام ، أو تصل إليه الأفهام . وعن ابن عباس : آخر ما نزل لقد جاءكم إلى آخرها . وعن أبيّ أقرب القرآن عهداً بالله لقد جاءكم الآيتان ، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، فلما جاء بها تذكرها كثير من الصحابة ، وقد كان زيد يعرفها ، ولذلك قال : فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ، ولو لم يعرفها لم ندر هل فقد شيئاً أولاً ، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده . وقال عمر بن الخطاب : ما فرغ من تنزل براءة حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء . وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال : من قال : " إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه " .