Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 90, Ayat: 1-20)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وأنت حل } : جملة حالية تفيد تعظيم المقسم به ، أي فأنت مقيم به ، وهذا هو الظاهر . وقال ابن عباس وجماعة : معناه : وأنت حلال بهذا البلد ، يحل لك فيه قتل من شئت ، وكان هذا يوم فتح مكة . وقال ابن عطية : وهذا يتركب على قول من قال لا نافية ، أي إن هذا البلد لا يقسم الله به ، وقد جاء أهله بأعمال توجب الإحلال ، إحلال حرمته . وقال شرحبيل بن سعد : يعني { وأنت حل بهذا البلد } ، جعلوك حلالاً مستحل الأذى والقتل والإخراج ، وهذا القول بدأ به الزمخشري ، وقال : وفيه بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجب من حالهم في عداوته ، أو سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يحلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه ، فقال : وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريده من القتل والأسر . ثم قال الزمخشري : بعد كلام طويل : فإن قلت : أين نظير قوله : { وأنت حل } في معنى الاستقبال ؟ قلت : قوله عز وجل : { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحبا : وأنت مكرم محبو ، وهو في كلام الله أوسع ، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال . إن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها ؟ فما بال الفتح ؟ انتهى . وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين ، وقد ذكرنا أولاً أنها جملة حالية ، وبينا حسن موقعها ، وهي حال مقارنة ، لا مقدرة ولا محكية ؛ فليست من الإخبار بالمستقبل . وأما سؤاله والجواب ، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو ، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات ، وإن اسم الفاعل وما يجري مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال ، بل يكون للماضي تارة ، وللحال أخرى ، وللمستقبل أخرى ؛ وهذا من مبادىء علم النحو . وأما قوله : وكفاك دليلاً قاطعاً الخ ، فليس بشيء ، لأنا لم نحمل { وأنت حل } على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل في وقت نزولها بمكة فتنافيا ، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة ، وهو وقت النزول كان مقيماً بها ضرورة . وأيضاً فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة فليس بصحيح ، وقد حكى الخلاف فيها عن قول ابن عطية ، ولا يدل قوله : { وأنت حل بهذا البلد } على ما ذكروه من أن المعنى يستحل إذ ذاك ، ولا على أنك تستحل فيه أشياء ، بل الظاهر ما ذكرناه أولاً من أنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين ، شرفها بإضافتها إلى الله تعالى ، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقامته فيها ، فصارت أهلاً لأن يقسم بها . والظاهر أن قوله : { ووالد وما ولد } ، لا يراد به معين ، بل ينطلق على كل والد . وقال ابن عباس ذلك ، قال : هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان . وقال مجاهد : آدم وجميع ولده . وقيل : والصالحين من ذريته . وقيل : نوح وذريته . وقال أبو عمران الحوفي : إبراهيم عليه السلام وجميع ولده . وقيل : ووالد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ولد إبراهيم عليه السلام . وقال الطبري والماوردي : يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره ، وما ولد أمته ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد " ولقراءة عبد الله : { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] وهو أب لهم ، فأقسم تعالى به وبأمته بعد أن أقسم ببلده ، مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بوالد وما ولد ؟ قلت : رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ولده . أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه ، وحرم أبيه إبراهيم ، ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، وبمن ولده وبه . فإن قلت : لم نكر ؟ قلت : للإبهام المستقل بالمدح والتعجب . فإن قلت : هلا قيل : ومن ولد ؟ قلت : فيه ما في قوله : { والله أعلم بما وضعت } [ آل عمران : 36 ] أي بأي شيء وضعت ، يعني موضوعاً عجيب الشأن . انتهى . وقال الفراء : وصلح ما للناس ، كقوله : { ما طاب لكم } [ النساء : 3 ] ، { وما خلق الذكر والأنثى } [ الليل : 3 ] وهو الخالق للذكر والأنثى . انتهى . وقال ابن عباس وعكرمة وابن جبير : المراد بالوالد الذي يولد له ، وبما ولد العاقر الذي لا يولد له . جعلوا ما نافية ، فتحتاج إلى تقدير موصول يصح به هذا المعنى ، كأنه قال : ووالد والذي ما ولد ، وإضمار الموصول لا يجوز عند البصريين . { لقد خلقنا الإنسان في كبد } : هذه الجملة المقسم عليها . والجمهور : على أن الإنسان اسم جنس ، وفي كبد : يكابد مشاق الدنيا والآخرة ، ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره ، إما في جنة فتزول عنه المشقات ؛ وإما في نار فتتضاعف مشقاته وشدائده . وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد : { في كبد } معناه : منتصب القامة واقفاً ، ولم يخلق منكباً على وجهه ، وهذا امتنان عليه . وقال ابن كيسان : منتصباً رأسه في بطن أمه ، فإذا أذن له بالخروج ، قلب رأسه إلى قدمي أمه . وعن ابن عمر : يكابد الشكر على السرّاء ، ويكابد الصبر على الضراء . وقال ابن زيد : { الإنسان } : آدم ، { في كبد } : في السماء ، سماها كبداً ، وهذه الأقوال ضعيفة ، والأول هو الظاهر . والظاهر أن الضمير في { أيحسب } عائد على { الإنسان } ، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته يحسب أن لا يقاومه أحد ، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده . يقول على سبيل الفخر : { أهلكت مالاً لبداً } : أي في المكارم وما يحصل به الثناء ، أيحسب أن أعماله تخفى ، وأنه لا يراه أحد ، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء ؟ بل عليه حفظة يكتبون ما يصدر منه من عمل في حياته ويحصونه إلى يوم الجزاء . وقيل : الضمير في { أيحسب } لبعض صناديد قريش . وقيل : هو أبو الأسد أسيد بن كلدة ، كان يبسط له الأديم العكاظي ، فيقوم عليه ويقول : من أزالني عنه فله كذا ، فلا ينزع إلا قطعاً ، ويبقى موضع قدميه . وقيل : الوليد بن المغيرة . وقيل : الحرث بن عامر بن نوفل ، وكان إذا أذنب استفتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأمره بالكفارة ، فقال : لقد أهلكت مالاً لبداً في الكفارات والتبعات منذ تبعت محمداً صلى الله عليه وسلم . وقرأ الجمهور : لبداً ، بضم اللام وفتح الباء ؛ وأبو جعفر : بشدّ الباء ؛ وعنه وعن زيد بن علي : لبداً بسكون الباء ، ومجاهد وابن أبي الزناد : بضمهما . ثم عدّد تعالى على الإنسان نعمه فقال : { ألم نجعل له عينين } يبصر بهما ، { ولساناً } يفصح عما في باطنه ، { وشفتين } يطبقهما على فيه ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك . { وهديناه النجدين } ، قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور : طريق الخير والشر . وقال ابن عباس أيضاً ، وعليّ وابن المسيب والضحاك : الثديين ، لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه . { فلا اقتحم العقبة } : أي لم يشكر تلك النعم السابقة ، والعقبة استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال ، تشبيه بعقبة الجبل ، وهو ما صعب منه ، وكان صعوداً ، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها . واقتحمها : دخلها بسرعة وضغط وشدّة ، والقحمة : الشدّة والسنة الشديدة . ويقال : قحم في الأمر قحوماً : رمى نفسه فيه من غير روية . والظاهر أن لا للنفي ، وهو قول أبي عبيدة والفرّاء والزجاج ، كأنه قال : وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل ، فما فعل خيراً ، أي فلم يقتحم . قال الفرّاء والزجاج : ذكر لا مرة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد ، كقوله تعالى : { فلا صدق ولا صلى } [ القيامة : 31 ] وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه ، فيجوز أن يكون قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } ، قائماً مقام التكرير ، كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن . وقيل : هو جار مجرى الدعاء ، كقوله : لا نجا ولا سلم ، دعاء عليه أن لا يفعل خيراً . وقيل : هو تحضيض بألا ، ولا نعرف أن لا وحدها تكون للتحضيض ، وليس معها الهمزة . وقيل : العقبة : جهنم ، لا ينجي منها إلا هذه الأعمال ، قاله الحسن . وقال ابن عباس ومجاهد وكعب : جبل في جهنم . وقال الزمخشري ، بعد أن تنحل مقالة الفرّاء والزجاج : هي بمعنى لا متكررة في المعنى ، لأن معنى { فلا اقتحم العقبة } : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً . ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك ؟ انتهى ، ولا يتم له هذا إلا على قراءة من قرأ فك فعلاً ماضياً . وقرأ ابن كثير والنحويان : فك فعلاً ماضياً ، رقبة نصب ، أو أطعم فعلاً ماضياً ؛ وباقي السبعة : فك مرفوعاً ، رقبة مجروراً ، وإطعام مصدر منون معطوف على فك . وقرأ عليّ وأبو رجاء كقراءة ابن كثير ، إلا أنهما قرآ : ذا مسغبة بالألف . وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضاً : أو إطعام في يوم ذا بالألف ، ونصب ذا على المفعول ، أي إنساناً ذا مسغبة ، ويتيماً بدل منه أو صفة . وقرأ بعض التابعين : فك رقبة بالإضافة ، أو أطعم فعلاً ماضياً . ومن قرأ فك بالرفع ، فهو تفسير لاقتحام العقبة ، والتقدير : وما أدراك ما اقتحام العقبة . ومن قرأ فعلاً ماضياً ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها ، ويجيء فك بدلاً من اقتحم ، قاله ابن عطية . وفك الرقبة : تخليصها من الأسر والرق . { ذا مقربة } : ليجتمع صدقة وصلة ، وأو هنا للتنويع ، ووصف يوم بذي مسغبة على الاتساع . { ذا متربة } ، قال : هم المطروحون على ظهر الطريق قعوداً على التراب ، لا بيوت لهم . وقال ابن عباس : هو الذي يخرج من بيته ، ثم يقلب وجهه إليه مستيقناً أنه ليس فيه إلا التراب . { ثم كان من الذين آمنوا } : هذا معطوف على قوله : { فلا اقتحم } ؛ ودخلت ثم لتراخي الإيمان والفضيلة ، لا للتراخي في الزمان ، لأنه لا بد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان ، إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع ، أو يكون المعنى : ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان ، إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات ، أو يكون التراخي في الذكر كأنه قيل : ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا . { وتواصوا بالصبر } : أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والطاعات وعن المعاصي ، { وتواصوا بالمرحمة } : أي بالتعاطف والتراحم ، أو بما يؤدي إلى رحمة الله . والميمنة والمشأمة تقدّم القول فيهما في الواقعة . وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص : { مؤصدة } بالهمز هنا وفي الهمزة ، فيظهر أنه من آصدت قيل : ويجوز أن يكون من أوصدت ، وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزاً . وقرأ باقي السبعة بغير همز ، فيظهر أنه من أوصدت . وقيل : يجوز أن يكون من آصدت ، وسهل الهمزة ، وقال الشاعر :